الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تضاريس المسافة بين النظرية والممارسة: ثالثا – الإجتهادات الفكرية المعاصرة: 1) سيادية -الفعل التواصلى-

محمد رؤوف حامد

2022 / 10 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إبتدع هابرماس Jurgen Habermas نظريته "الفعل التواصلى" Communicative action ليشرح من خلالها العلاقة بين النظرية والممارسة ( ). وفى ذلك يرى أن الفضاء الإنسانى (أو المجتمعى) يتكون من عالمين. أحدهما عالم "منظومى"، والآخر عالم "حياتى"، وفى داخل كل منهما، وبينهما، حركيات واعتبارات.

■ خصائص العالمين .. الحياتى والمنظومى:

العالم "الحياتى" عند هابرماس هو الأصل، وبالتالى هو الأكثر أهمية. هذا العالم الحياتى يقوم على المنطق التواصلى Communicative reason ، أى التواصل من خلال أسباب تدعو للتواصل، أو تنشأ عنه . ويتجلى التواصل فى أسئلة ورؤى ومواقف تنبع من إشكاليات ومشكلات المشاغل والإهتمامات والأولويات الحياتية، على تنوعاتها.

وأماعن العالم المنظومى فيقوم على منطق الأداء أو التحكم، ويطلق عليه المنطق الأداتى Instrumental reason .

وعن مجالات (أو موضوعات) العالم المنظومى فإنها تظهر – أساسا – من خلال نسقين (أو منظومتين)، النسق الإقتصادى والذى يعمل من خلال النقود والأرقام ...الخ، والنسق السياسى، والذى يتكون من جهات أو مؤسسات سياسية تتفاعل مع بعضها من خلال أبنية وعلاقات تعتمد على النفوذ، وهى تفاعلات تسعى الى توكيد وهيمنة المصالح.

يرى هابرماس أن العالمين، الحياتى والمنظومى، يؤثرا فى بعضهما من خلال تكاملية مفترضة، بين المنطق (أو السبب) الأداتى (من العالم المنظومى) والمنطق التواصلى Communication reason (من العالم الحياتى).

من أهم خصائص هذه التكاملية فى نظرية هابرماس أن المنطق (أو السبب) التواصلى، والذى هو أساس العالم الحياتى، يكون هو الأعلى فى الأهمية. وعليه، فمن الطبيعى أن لايعلو على العالم الحياتى (أو يوجهه أو يهيمن عليه) منطق قادم من خارجه، أى المنطق الأداتى (أو الإجرائى)، والذى هو أساس العالم المنظومى.

بمعنى آخر، أمثليا (وصحيا)، لايجوز أن يهيمن العالم المنظومى (بأدواته فى الإقتصاد والسياسة) على العالم الحياتى، والذى ينشأ من أسئلة ورؤى ومواقف الناس. ربما، من جانب آخر، يتلاحظ أنه فى عديد من البلدان، وخاصة بلدان الجنوب، يعانى العالم الحياتى من تحكمات توجهات سياسية واقتصادية ساقطة على الناس من العالم المنظومى، عالم البنى والعلاقات والمصالح الإقتصادية والسياسية. هكذا تحكمات تهيمن على إرادة العالم الحياتى، ممايعنى تجريف المنطق التواصلى، وبالتالى الضرب عرض الحائط بأسألة ورؤى ومواقف عموم الناس.

■ جسر الجدليات:

أهمية سيادة (أو تسيُد) المنطق (أو السبب) التواصلى، أى الحياتى، أنه يتضمن (ويضمن) مكانة عالية (مهيمنة) للجدليات Dialectics ، كلاما وفكرا. ومن خلال هذه الجدليات تُبنى (أو تتولد) مهام العالم المنظومى وتتحقق صدقيتة ، مما يقود الى أحسن استخدام له. بمعنى آخر، تكون الجدليات هى الجسر الذى يبلور (وينقل) متطلبات وإرشادات العالم الحياتى الى العالم المنظومى.

المسألة إذن أن عند هابرماس تكون الجدليات (والمجادلات Argumentations ) التى تظهر فى العالم الحياتى، والتى فيها (ومنها) يحدث إنصهار لفاعليات ذهنية وخلفيات تطبيقية فى بوتقة المنطق التواصلى، هى الأساس فى تشغيل وتشكيل وتوجيه العالم المنظومى، والخاص بالإقتصاد والسياسة، كما جرت الإشارة أعلاه. ذلك أن المجادلات تتكون وتتفاعل من خلال خصائص وعمليات وقيم تتناول المفاهيميات (أو الفكر) ، والحقيقة، والعدالة، والصدقية ...الخ.

■ متى تنشأ الإنتكاسات؟

من هذا المنظور يمكن القول بأن العالم الحياتى من المفترض أن يكون هو الأساس المُشكّل، أو الصانع للإطار النظرى الخاص بالعالم المنظومى، وليس العكس. بالإعتماد على هكذا فهم وتحليل فإن حدوث العكس يؤدى الى إنتكاسات فى إدارة الأمور على المستويات المؤسسية، والوطنية، والدولية، فى أى مكان.

مما تقدم، فإنه إذا حدث العكس، بمعنى إذا فرض المنطق (أو المسار) الأداتى Instrumental reason نفسه على المسار (أو السبب) التواصلىCommunicative reason ، فإنه (أى المنطق الأداتى) يغزو مجالات اتخاذ القرار، والتى من المفترض أن عمليات ومخرجات ممارسات المنطق (أو السبب) التواصلى هى التى ينبغى أن تسود فيها، وأن تهيمن عليها وتوجهها.

وهكذا، من منظور نظرية الفعل التواصلى، يقود غزو المنطق الأداتى لمجالات إتخاز القرار، على حساب العالم الحياتى (ودون اعتبار له)، الى البزوغ لخليط من الفوضى والإستبدادات والديكتاتوريات.

■ المجادلات والحرية:

أهمية المجادلات عند هابرماس أنها تقود الى (أو تُولّد) مسارين فى التعامل مع كافة الأمور والأنشطة. المسار النظرى Theory course ، والمسار الممارساتى (أو العملى) Practice course. المجادلات إذن تمثل ممارسة للحرية وتُعدُ تعبيرا عنها.

عن أساسيات المسار النظرى فإنها تقوم على المناظرة Debate ، وأما تلك الخاصة بالمسار الممارساتى فتتضمن المناقشات الخاصة بالممارسة.

وعن صدقية المسار (أو التوجه) النظرى Theory course فتتأسس من صحة المجادلات والمناقشات، وأما عن المسار الممارساتى Practice course فإن صدقيته ، أو شرعيته، تظهر من خلال التوافق بشأن صحة أوضاعه الممارساتية/التطبيقية ذاتها.

وهكذا، عند هابرماس لا يتشكل المسار الممارساتى من خلال المطابقة مع معايير مفترضة قبلا، وإنما من خلال خطوات عملية يجرى اختيارها، حيث تكون هذه الخطوات هى المؤهلة (أو المنشئة) لمعايير الممارساتية.

وإذا كانت نظرية الفعل التواصلى Communicative action لهابرماس تتناول الفروض الخاصة بالمنطقية، أو السببية، فى ممارسة التواصلية الإعتيادية Communicative reason بحيث تتوصل الى البعد المفاهيمى Conceptualization لصحة الفعل التواصلى، أى لمعيارية محتواه، فإن طبيعة مايجرى فى هذا التواصل يتضمن تبادل فى الفهم، فى إطار المنطق، كإطار رئيسى (أو كمرجعية) للتواصلات Communicative rationality .

■ مكانة الفعل التواصلى من العلم والتكنولوجيا:

من هكذا فهم يقفز هابرماس الى علاقة العالم الحياتى بالعلم والتكنولوجيا، حيث يرى أن التبادل فى الفهم فى عالم الحياة يساعد على الوصل بين التكنولوجيا والعلم من منظور يخص عالم الحياة، بمعنى منظور ينتمى الى احتياجاته وحججياته ...الخ.

فى هذا الشأن، أى فيما يختص بعلاقة الفعل التواصلى بالوصل بين العلم والتكنولوجيا طبقا لحاجة العالم الحياتى، يؤكد هابرماس ضرورة عدم تسيُد العلاقة بين العلم والتكنولوجيا على المنطق التواصلى، حيث الأخير (أى المنطق التواصلى) هو النبع الأصلى لكل من المنطق الأداتى والعلم والتكنولوجيا.

السبب فى ذلك واضح عند هابر ماس، وهو أن علو شأن المنطق التواصلى فوق العلم والتكنولوجيا يضمن جعلهما فى خدمة المجتمع والإنسانية، وليس العكس. وربما هنا يمكن ملاحظة أنه فى فى إطار التسيُد العالمى للنيوليبرالية يجرى سوء استخدام التكنولوجيا، سواء فى إنحرافية تحديد أهدافها فى ظل العولمة، أو فى توزيع عائدات القيمة المضافة الناجمة عنها.

■ موقع الفعل التواصلى من اعتبارات الأمن:

ما ينطبق على العلم والتكنولوجيا بشأن عدم جواز (أو ضرورة تجنب) سيطرتهما على المنطق التواصلى ينطبق أيضا على اعتبارات الأمن Security (والإقتصاد والسياسة)، والتى لابد وأن تكون جميعها خادمة للعالم الحياتى، وليست مسيطرة عليه.

وعليه، طبقا لنظرية هابرماس، يمكن استخلاص عدم جواز إخضاع العالم الحياتى للعالم المنظومى، والذى ينبغى أن يكون بأدواته (من أمن وسياسة وإقتصاد) خادما للعالم الحياتى.

■ مكانة المستقبليات فى الفعل التواصلى:

من جانب آخر، يشير هابرماس الى أن "المنطقية" Rationality فى التواصل تُمكّن الإنسان (والبشر عموما) من ممارسة "التحرر" كقيمة حياتية.

ممارسة الحرية والتحرر، بين الناس (والكيانات)، فى مسارات المنطق التواصلى تساعد على تقوية التعلم learning . ذلك بينما التعلم ينمى القدرة على النظر الى المستقبل، وبالتالى القدرة على بناء التصور المستقبلى.

من هذا المنظور، يرتقى الفعل التواصلى، بما يصنعه من فاعليات تعلم وتأملات وانعكاس للتأملات، الى إعادة تعريف المجتمع. وعليه، فإن أى شىء يركب (أو يهيمن) على الفعل التواصلى يؤدى الى التضييق على نشأة وحيوية التأملات التعلُمية فى المجتمع، وبالتالى يقود الى إنغلاق فى المستقبليات، ومن ثم الإضرار بالمجتمع وبالإنسانية فى عمومها.

وهكذا، كفاءة الفعل التواصلى Communicative action فى العالم الحياتى، بين الناس (والكيانات الإنسانية) وبعضها، تكون محددة (أو حاكمة) لتحَضُر المجتمعات وتطورها ( ).

إنها إذن إطلالة على نظرية الفعل التواصلى، والتى تتمتع بأهمية أساسية بشأن المسافة بين النظرية والتطبيق، وفى تقديرنا تتمثل عبقرية هذه النظرية فى أمرين:

1- أنها أشارت للفعل التواصلى باعتباره إطار ومنتج (بفتح التاء) لفاعليات كل من الرؤى النظرية والممارسة، فى آن.
2- أنها قد ارتقت بالفاعليات المنطقية داخل (وبين) كل من النظرية والممارسة ليكونا معا مكونان للفعل التواصلى عند عموم الناس، ومحملين بجدليات ومجادلات يكون من شأن مخرجاتها الترشيد والتوجيه لمسارات العالم المنظومى، بما يتضمنه من أمن وإقتصاد وسياسة. ذلك إضافة الى جعل الفعل التواصلى فوق العلم والتكنولوجيا.

فى المقال التالى، ان شاء الله، تأتى إطلالات على رؤى ونظريات أخرى، فى نفس الشأن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيد


.. ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. استمرار تظاهرات الطلاب المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمي


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. ومقترحات تمهد لـ-هدنة غزة-




.. بايدن: أوقع قانون حزمة الأمن القومي التي تحمي أمريكا