الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عن أم ريفيّة ( 3 )

علي فضيل العربي

2022 / 10 / 5
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات


حديث عن أمّ ريفيّة ( 3 )

و لم يشأ صديقي الريفيّ المولد ، إنهاء حديثه عن أمّه ، شهرزاد الريف ، كما كان يكنّيها ، رغبة منه في تدليلها .
قال صديقي الريفيّ : رغم تجاوزي العقد السادس من عمري ، بقيت طفلا رضيعا في عينيّ أمي . لم أكبر ، كما شعرت و زعمت . كنت ألمح في نظرات عينيها ، كلّما زرتها ، شوقا عارما إلى لقائي . و كلّما دأقبلت عليها ، وجدتها ، وجدتها محتبيّة في مرح الكوخ ( فناء الكوخ ) . ممسكة بين أصابعها سبحة رماديّة اللون ، جلبتها لها إحدى الجارات من مكّة ، كما تؤكّد دائما .
و أردف صديقي الريفي ، يقول :
كنت أسلّم عليها ، و أقبّل قمّة رأسها – كعادة الريفييّن – فتهمّ بالقيام ، و هي تقول لي : اجلس في مكاني ، ، لا بد أنّ الطريق أتعبتك ، و أنّك عطشان و جائع ، سأجلب لك الماء و الكسرة و حلاّبا ( صحن من الطين ) من اللبن . لقد مخضته قبل قليل فقط . ، أعرف أنّك لم تتغدّ ، يا كبدي . و أعلم أنّ أكل المدينة ، في هذه الأيام ، لا يغني من جوع ، و لا يقي من مرض . و لا يحفظ صحّة . لا جدوى منه ، غير ملء البطون ، كالتبن تماما .
و بعد هنيهات من الزمن ، أبصر أمّي مقبلة ، و هي تجرّ قدميها بإلكاد ، مّما يلهب إشفاقي عليها من وطأة الدهر ، و ثقل السنين ، فأنهض كالبرق لأضع عن يديها المرتجفين ، ما كانت تحمله من كسرة و حلاّب اللبن .
و عندما أهمّ بالانصراف ، تضع لي ، في قفّة من الدوم ، كسرة و بيضا عربيّا ( تقليديا ) من بنات دجاجاتها ، و ثوما ، و لبنا ، و دهانا ( زبدة تقليديّة ) و عسلا ، و زيت زيتون ، و هي تردّد مبتسمة : هذا ما جمعته لك ، و خبأته . هذا حقّك و حقّ كنّتي و أحفادي ، مثل إخوتك و أخواتك .
لحظتها أقول لها ، و قد لا أكاد أوفي حقّها من التبجيل و البرور :
- يكفيك يا أمّي ، ما ضحيت به من أجلي . و من أجل إخوتي و أخواتي . عانيت من أوجاع حملنا جميعا ( مائة و ثمانية اشهر) ، و من ثديك ، و قمت بتقميطنا ، و شقيت في تربيتنا ، حتى بلغنا أشدّنا .
- لا عليك ، يا بني . لو احتجت إلى الرضاعة ، الآن لأرضعتك . أتظنّ أنّك كبرت . كلا ، أنت في نظري ، مازلت صبيّا ، لم تبلغ الفطام بعد .
، و أودّعها ، و تودّعني ، و هي توصيني :
- احذر من وعكة الطريق ، سق جيّدا لا تتعجّل ، ة لا تسرع . أبناؤك في انتظارك .

و لمّا عرضنا عليها ، الانتقال للعيش معنا في جوّ المدينة - و كنّا نحن ( الدزينة ) من الأبناء قد تزوجنا ، و استقررنا في مدن و قرى غير بعيدة ، بحكم طبيعة العمل بالنسبة للذكور و السكن بالنسبة للإناث – و عرضنا عليها – بلطف – بناء بيت من الحجر و الخرسانة و الطوب الأحمر ، و هدم الكوخ الموروث عن الأجداد ، و الذي شاخ و نبت على سطحه الربيع ، غضبت ، و رفضت ، و انتفخت أوداجها ، و لم يبق أمامها سوى الانهيال ضربا على رؤوسنا ، نظير ما بدر منّا - في نظرها - من جرأة و وقاحة .. قالت لنا بنبرة حادة :
- لن أبدل كوخي ، و لو بقصر أنيق . هذا الكوخ ، يا أبنائي ، تسكنه روح الأسلاف ، و روح أبيكم – رحمه الله - ، و هو مأوى روحي في كل يوم .
لحظتها ، شعرنا بالذنب تجاهها ، و أفصحنا عن حسن نوايانا ، و عظيم حبّنا لها ، و برّنا بها ، و التمسنا منها العفو و الصفح عمّا بدر منّا .
رفضت أمّي فكرة النزوح إلى المدينة رفضا جازما . رغم حثّي لها و ترغيبها فيها عندما استقرّ بي المقام فيها . و قالت لي بصريح العبارة ، و دون استعارة ، انّها لا تستطيع مفارقة حياة الريف ، فهي جنتها ، و أنّ عقلها و قدميها و يديها و قلبها ، بل و جسدها كلّه مغروس في الريف إلى الأبد ، و قد اعتادت رائحة الطين و منظر التراب ، و اعتاد سمعها على صقيع الديكة ، عند الفجر و الظهر و العصر ، و على زقاء الدجاج و قرقرته و نهيق الحمير و صهيل الخيل و ثغاء الشياه ، و منظر الرعاة الغادين صباحا ، و العائدين مساء من المراعي و زقزقة العصافير و هديل الحمام و خوار البقر و رائحة دخان الكوشة ( فرن تقليدي من الطين ) ، و قعدة النافخ ( مجمر طيني ) ، و جلسة حصير الدوم ( نبات جبلي لصنع السجاد و القفف و غيرها ) . فكانت تقول لي أمي الريفيّة ، مفاخرة بشجرة تين عتيقة من النوع المسمّى ( عنق الحمام ) ، أنّ التقييل تحت شجرتها تلك - التي يزيد عمرها عن قرن - أفضل ، عندها من قصر في المدينة .
و كنت أشعر أنّ أمّي الريفيّة ، كانت تفصح عن مشاعرها تلك ، بنبرة صدق و طمأنينة و قناعة .
قلت لرفيقي الريفيّ واثقا ، و دون مجاملة :
- أمّك الريفيّة ( الشهرزاديّة ) ، يا صديقي ، مدرسة في الحبّ و الوفاء و الجود .
فابتسم صديقي الريفيّ ، و قال باقتضاب و تبسّم :
- ما زال في جعبتي الكثير من ملاحمها ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأكاديمية والإعلامية الفلسطينية مي أبو عصب


.. الصحفية المغربية نعيمة بومور




.. صحفيات تنددن بالانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيينات خلال الحر


.. أقوال المرأة خالدة في ذاكرة التاريخ




.. قصة معاناة امرأة من رحم الأزمة السورية