الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحلام الطفولة

شريف حتاتة

2022 / 10 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


-------------------------------------
دعيت منذ أسابيع لحضور مؤتمر في كلية " مانسيفلد " بجامعة أكسفورد. وجامعة أكسفورد تعتبر أعرق الجامعات الإنجليزية .. تأسست في أواخر القرن السادس عشر بأموال الكنيسة. وكانت ومازالت معقلا للفكر المحافظ، رغم التطور الذي حدث فيها خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية وبعد أن تفككت الإمبراطورية البريطانية، وغابت عنها الشمس.
ظلت هي وشقيقتها جامعة كامبريدج ، تصنع جزاء مهما من النخب التي حکمت بريطانيا وتصدت للقيادة والمسئولية في مختلف المجالات، ومازالت حتى الآن جـامـعـة ثرية للغاية تملك من الأرض والمباني والإمكانيات الضخمة ، مالا يملكها غيرها بل تكاد تملك مدينة أكسفورد نفسها. لذلك حتى الآن لا يصل إلى الالتحاق بكلياتها في أغلب الأحيان ، إلا أبناء وبنات الفئات والطبقات المميزة في المجتمع الإنجليزي.
ومدينة أكسفورد جميلة بمبانيها القوطية القديمة، وشوارعها الضيقة المبلطة بالأحجار السوداء الصغيرة بفوانيسها وأسوارها العالية، وبواباتها تختفي من ورائها المساحات الخضراء والزهور والأشجار التي جاءت من مختلف أنحاء العالم، بممرات كلياتها الطويلة تطل من فوق جدرانها لوحات الأسبقين الذين أنشأوها أو قاموا بالتدريس فيها ، وبكنائسها وقسفياتها وأحواشها الداخلية، بمكتبتها الضخمة التي لا يوجد كتاب تم طبعه في أي مكان من العالم إلا ويرقد على رف من رفوفها.
هكذا قالت لي الأستاذة التي رافقتني وأنا أتجول في المدينة . امرأة نحيلة الجسم لها عينان واسعتان خضراوان وحركتها كالنسمة ، أكاد لا أحس بها عندما تمر.
أستاذة اجتماع في جامعة لندن لها زوج وثلاثة أطفال كبار ، يقيمون معها حتى الآن في بيت كبير بضاحية من ضواحي لندن. هذا ما عرفته منها ونحن جالسين على دكة قرب النهر الصغير الهادئ ، ينساب أمامنا وسط الأشجار التي تميل عليـه وتكاد تخـفـيـه عن أنظارنا.
مع ذلك في كل هذا الثراء والجمال الذي يمتد بين الجدران السميكة وتحت الأسقف العالية، في كل هذه اللوحات المطلة ، في الدرجات المبطنة بالخشب الداكن والسلالم البازلتية العريضة التي تصعد عليها إلى الصالون الفـاخـر ، حـيـث نتناول طعامنا كنت أحس بالصـرامـة البـاردة، والتزمت، والاستعلاء. بافتقادي إلى الدفء. بالتسلط الفكري، وغرور النخب التي تظن أنها تملك مفاتيح الحكمة ، وهي تحلل شئون عالمنا، وتدرسنا وتحللنا، وتكتبعن شعوبنا .
كان هذا واضحا أيضا في أغلب الكلمات التي ألقيت، والمناقشات التي دارت حولها، رغم كل اللباقة في التعبير واللفظ ، ما عدا تعليقات أثنين أو ثلاثة من الذين شاركوا فيها.
مـوضـوع المؤتمر هو الدين والديمقراطيـة. كان الكلام في أغلبـه حـول الإسلام في البلاد العربية، والإسلامية، وعن الهندوكية في الهند، ماعدا ورقة مميزة قدمها أحد الأساتذة الإنجليز وأسمه هارولد بيركينز عن الحركة السلفـيـة في الولايات المتـحـدة. أوحـول ديمقراطيـة الغـرب، وأفكارها، وإنجازاتها، ودورها التنويري، وأثرها على بلادنا.
بدأت كلامي بأن ما سمعناه حتى الآن هو رأى الشمال في الجنوب ، ولذلك أريد أن أتحدث عن رأى الجنوب في الشمال. ثم قمت بتحليل السلفية الدينية ، كظاهرة تدعمت في ظل العولمة الرأسمالية والاستعمار الجديد. قلت إن الديمقراطية الغربية حققت لشعوبها بعض المكاسب ، لكنها ظلت ديمقراطية لصالح أقلية ضئيلة على حساب الأغلبية الساحقة.
كانت الورقة التي قدمتها بعنوان " الإسلام السياسي والديمقراطية " في بلادنا ولكنى لم أقرأ من الورقة. فضلت اللجوء إلى الكلام التلقائي المباشر المستمد من الحياة التي نعيشها. من بين الحاضرين عشرين أستاذا وباحثا أكاديميا من الرجال والنساء ، جاء أغلبهم من الجامعات الإنجليزية، وثلاثة منهم من الولايات المتحدة، وكان من بينهم عضو في البرلمان الإنجليزي، والمسئولون عن تحرير مجلة سياسية فصلية أسمها ذي بوليتيكال كورتيرلي. استقبلت کلمتي باهتمام وحياني الحاضرون عليها رغم النقد الذي وجهته إلى نظرتهم للأمور ، ماعدا الذين حضروا من الولايات المتحدة ، ربما لأنني أشرت إلى إسرائيل واستشراء الفكر الديني السلفي فيها.
بعد الجلسة التي تحدثت فيها وأثناء العشاء ، جاءت جلستي إلى جوار أستاذة الاجتماع. قالت لي: " استمتعت بالكلام الذي قلته ، تقول أنك لم تزر المدينة من قبل ، كنت طالبة في جامعة اكسفورد وعشت فيها أربع سنوات. ما رأيك في أن أصحبك خلال جولة إلى أهم معالمها ؟ ".
قلت: " عرض مغرى أقبله بسرور ".
هكذا أخذنا نسير سويا في شوارع المدينة ، ودار بيننا حديث انتقلنا فيه من المؤتمر إلى العالم، إلى إنجلترا، إلى مصر، إلى أشياء في حياتها وحياتي. وبعد الجولة جلسنا على مقهى في " رودستريت " لنحتسي قدحين من القهوة " الكابوتشينو " ، على آشعة الشمس الغاربة ببطء خلف مباني المدينة.
قالت: " أعجبتني كلمتك. كانت تلقائية، وتعرضت فيها لزوايا لم أكن فكرت فيها. أنا لا أستطيع أن أتحدث مثلك. لابد أن أقرأ من ورقة، وأستعين فيها بالأرقام، والإحصاءات، وبما كتبه آخرون من قبلي . أحس أن الذين يستمعون إلى كلامى يستحسنون ما أقوله لكن دون أن يشعروا به ".
زادت فرحتى باللقاء. أحسست بالصدق فيما تقوله . تجلس أمامي وتنظر مباشرة في عيني. شعرها الأسود تتخلله خصلة بيضاء رفيعة. ملامحها منحوتة تهمس بجمال استهلكه الزمن قليلا ، ليصبح جمال النضج الحزين. فيه شيء كالاستعلاء أو الانسحاب تحتمى فيهما. سألتها.
" کم سنك يا أستاذة كينوك؟ ".
" أجابت على الفور دون أن تتردد اثنان وخمسون سنة . وأنت ؟ ".
قلت: " بعد ثلاثة أيام سيكون سنى ستة وسبعون سنة ".
ساد صمت قصير كأننا نستوعب حقيقة الزمن الذى يمر علينا . بدأ عليها السرحان . سألتها :
" بماذا كنت تحلمين وأنت صغيرة ؟ ".
صمتت لحظة طويلة . ثم تكلمت كأنها عادت من بعيد . سمعتها وهى تأخذ نفساعميقا.
" كنت أحلم بأن أصبح ممثلة في المسرح. لكن أبي وأمي جعلانى أتخلى عن هذه الفكرة. وكان تأثيرهما كبيرا. فأسرتنا أصلا من ايرلندا. أسرة محافظة من الكاثوليك. أمي لا تعمل وظلت طوال حياتها في البيت. وأبي كان أستاذا في الجامعة. وفكرة أن أكون ممثلة كانت تثير فيهما الفزع . في ذهنهـمـا كـانت تعنى السهر في الليل، وفي الحانات مع الرجال، والحرية الجنسية. شيء قريب من الكباريه. الفن عندهم هو الكورال يغنى على أنغام الأورج، وتماثيل العذراء في الكنيسة. أمـا مـا عـدا ذلك فله علاقة وثيقة بالشيطان. هرب أخي من البيت وهو الآن مغن معروف في أمريكا ، ولم يبق إلا أنا. البنت ليست مثل الولد، لا تستطيع أن تقاوم خصوصا إذا كانت وحيدة . كانت القيود المفروضة على حياتى شديدة".
أحسست أنها تريد أن تسترسل. قلت:
" ألم تعترضى عليهما أبدا؟ ".
" كنت أسأل أبي وأمي لماذا لا أستطيع أن أخـتار المستقبل الذي أحبه، وأريده . كان ردهما دائما لأن الله خلقني بنتا والبنت لها وظيفة . مآلها أن تتزوج، وتنجب أطفالا ويكون لها زوج وأسرة تراعيها، حتى إن تعلمت ، وأصبحت تعمل خارج البيت. أما أن تسرمح في المسارح والشوارع حتى ساعة متأخرة من الليل.... ".
" وماذا فعلت بالحلم ؟ ".
" قهرته. خنقته في أعماقي . قتلته أو على الأقل نسيته ".
" ألم يتبق منه شيء؟ ".
" لا أظن. ربما حنين غامض. إحساس بأنه ينقصني شيء مهم ، لا أعرف ما هو بالتحديد. أنا أجيب عليك كأنني أكتشف ما أقوله لأول مرة، كأنني مساقة إليه ".
رفعت يدها إلى رأسها، ومسحت عليه بحركة عصبية. لمعت عيناها كأن الدموع أخذت تتجمع فيهما . ثم ألقت بنظرة فيها اعتذار، وأضافت:
" يبدو أنني متعبة من اليوم الطويل، وأصبحت أقـول أي شيء. أريد أن ننهض من هنا ، فالجو أصبح باردا " .
قلت: " لا. أريد أن تكملي كلامك .. لكن لننتقل إلى الداخل ".
اخترنا منضدة بعيدة عن زحام الناس وجلسنا. طلبت قدحين من القهوة،وقلت:
" أنا مصغ إليك ".
قالت: " أعجبني كلامك لأنه الكلام الوحيد الذي كان فيه فن . أحن إلى الفن منذ زمن بعيد، وأكبت هذا الحنين. الفن ارتبط في ذهني بالمحرمات، بالشيطان، بما هو ممنوع ومحرم ومنبوذ ، فنسيته حتى أواصل الحياة بالطريقة التى أعيشها .أصبح لي زوج، وأطفال، وبيت في لندن حوله حديقة كبيرة ".
قلت : " لكنك تتحدثين بطريقة فيها فن " .
قالت : " لم أتحدث مع سواك بهذه الطريقة " .
سألتها : " لماذا معى أنا بالذات؟ ".
قالت : " لا أعرف . ربما لأنك الوحيد الذي سألني عن أحلامي وأنا صغيرة. حتى زوجي لم يسألني هذا السؤال . لكن ليس صـحـيـحـا أنه عندي فن. عندما أحاضر الطلبة، أو أكتب تظل لغتى العلمية جافة ".
قلت : " لأنك لا تضعين نفسك فيها. أنت غائبة عنها ".
قالت : " إنك تصف حالتي بالضبط. إحساس بأنني لا أجد نفسي فيها. كأننى ملغية من الوجود ".
قلت لها : " سعيت إلى نسيان الحلم فنسيتِ ما يتعلق بنفسك العميقة، وعشت بالنفس الخارجية فحسب. بالنفس التي أرادها الآخرون، وفرضوها عليك، فنسيت الإبداع. عندما نقتل الحلم، أو نخنقه، يجف الإبداع الذي ولد فينا . لكنك على أي حال أصبحت أستاذة، ولك حياة لا يتمتع بها الكثيرون. وحياتك الشخصية عشتيها كما تريدين. ففي بلادكم تختارون شريك الحياة بحرية ".
عيناها الخضراوان تشوبها عكارة خفيفة كالبحر تحت سحب الخريف .
قالت: " ليس دائما ، خصوصا في الأوساط الكاثوليكية المتزمتة في أسرتي لم يكن الأمر كذلك. أهلى ضغطوا علىَ حتى أخـتـار الرجل الذي يريدونه، ونظرا لأنني استسلمت لهم قبل ذلك واصلت في الطريق نفسه . زوجي كان مساعدا لأبي في الكلية. رجل ظريف إلى حد كبير ، يملك مساحة لا بأس بها من الأرض الزراعية ومصنعا للأواني الفخارية ورثهما عن أبيه. لكننى كنت أحب شابا غيره . إنهم خنقوا القوى الحية في داخلى ، قوى الإبداع و الحب والجنس. خنقوا قوى الحياة التي خلقها الله في جسمي وعقلي ".
دفعت القـدح الذي نسيت أن تشرب منه جـانـبا ، كـأنها تزيح عـقـبـة من أمامها . بدأ عليها الحزن العميق. قالت: " لابد أنك ندمت الآن على جولتنا فى المدينة ".
قلت : " على العكس. تعرفت على إنسانة جميلة . لك حق. إن المجتمع يسعى إلى خنق القوى الحية فينا . قوى الإبداع، والحب، والجنس، والتمرد .....
لكن في هذه اللحظة يتملكني إحساس لا أظن أنه سيخيب ".
سألت: " ما هو؟ ".
قلت: " إن الحلم سيعود إليكِ في شكل جديد. ربما فيما ستكتبينه ".
تركنا النقود على الطبق الصيني، وقمنا. اجتــزنا الميدان الفسيح أمـام الكنيسة. دخلنا الى الشارع الضيق الذي يقود إلى كلية " مانسفيلد ". مددت يدى إليها وتشابكت أيدينا.
عندما وصل القطار إلى محطة " بادنجتون " في لندن ، اجتزنا صالة المحطة الضخمة . توقفنا تحت الساعة الكبيرة لأودعها ، فطريقي لم يكن طريقها. قبلتها على وجنتيها. نظرت إلىَ نظرة طويلة ثم قالت:
" على فكرة ، لم تحدثني عن أحلامك في الطفولة ".
قلت : " في المرة القادمة".
قالت : " ربما لن تكون هناك مرة قادمة. قل لي، هل خنقوها ؟".
قلت: " ليس بعد ".
تتبعت جسمها النحيل يحمل الحقيبة معلقة على الكتف، وهي تشق طريقها بسرعة إلى أن اختفت وسط الزحام.
----------------------------------------------------------------
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا حققت إسرائيل وحماس؟


.. سمير جعجع لسكاي نيوز عربية: لم نتهم حزب الله بشأن مقتل باسكا




.. قطر: لا مبرر لإنهاء وجود مكتب حماس | #نيوز_بلس


.. بكين ترفض اتهامات ألمانية بالتجسس وتتهم برلين بمحاولة -تشويه




.. أطفال في غزة يستخدمون خط كهرباء معطل كأرجوحة