الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلهٌ بحجم الجيب

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2022 / 10 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إذا ما اختلف مسلم مع أخ مسلم حول أي مسألة مهما كانت تافهة ستجد أحدهما يشهر في وجه الآخر: ألا تؤمن بالله ورسوله؟ هذا ما قاله الله في كتابه وأكده نبيه في أحاديثه وسننه. فإذا ما بقي الخلاف قائماً، مضى بك إلى أقوال وكتابات العالم أو الفقيه أو المرجع كذا ثم كذا، في امتداد شرحي وتفسيري لذات النص القرآني والأحاديث والسنن النبوية. فإذا ما بقي الخلاف قائماً بعد استنفاد كل ما أفتى به الفقهاء وأجمع عليه علماء الأمة، وجدا نفسيهما وجهاً لوجه عائدين من جديد إلى نقطة الصفر- كلام الله وأحاديث نبيه الذي لا ينطق عن الهوى. عندئذ إما أن يؤثران السلامة وينفض كل منهما في حال سبيله من دون حسم للخلاف ومن دون أذية، أو أن يمزقا أحدهما الآخر وهما موقنين أن قراءتهما وفهمهما لكلام الله وسنة رسوله هي الصائبة. هذا هو ما حدث فعلاً لكبار صحابة الرسول وأوائل المؤمنين به أنفسهم ومعهم الكثيرين من المسلمين حين أشهروا المصاحف على أسنة سيوفهم احتكاماً لكلام الله ورسوله وحين وقف الكلام عاجزاً ولم يسعفهم فأخذوا يقتلون ويمزقون بعضهم بعضاً خلال ما تعرف في التاريخ الإسلامي باسم الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية وأتباعهما. وللمفارقة، لا يزال المسلمون حتى يومنا هذا يحتكمون إلى الكلام ذاته ويقتلون بعضهم بعضاً في ذات الحلقة المفرغة، وكل فريق منهم موقن أن الله ورسوله واقفان في صفه لا محالة.

تقول الرواية إن الله خلق الكون من العدم وخلق آدم من الطين ثم سواه ونفخ فيه من روحه ثم خلق له من ضلعه حواء زوجة له. ثم أنزل آدم وحواء من السماء إلى الأرض ليعمراها بذريتهما. هكذا خلق الله الكون مباشرة بيديه، بينما خلق البشر بشكل غير مباشر عبر تناسلهم أنفسهم مع بعضهم البعض، رغم كونه هو من أطلق التسلسل من خلال خلقه لآدم وحواء في المقام الأول. كان آدم في الجنة متصلاً بخالقه اتصالاً مباشراً، يتلقى منه شخصياً الأوامر والنواهي؛ فلما أعطى أذنيه للشيطان وغوى أسقطه ربه إلى الحياة الدنيا. مع ذلك يبقى آدم رسولاً منزلاً من عند ربه وهو الحلقة التي سيتعلق بها سلسال طويل من الأنبياء والرسل حتى تبقى العلاقة دائماً وأبداً غير منقطعة بين الإله الخالق وبني آدم المعرضين للغواية دائماً مثل أبيهم والمنتشرين في كون من صنع يد إلههم نفسه ومن أجلهم هم أنفسهم. ثم يتوج الإله سلسلة رسله إلى البشر الخطائين بخاتم المرسلين محمد ابن عبد الله، الذي به اكتملت الحلقة وبلغت الرسالة الإلهية تمامها. هو في الحقيقة امتداد لآدم المنزل إلى الأرض بأمر ربه، ثم لكافة الأنبياء والرسل المبعوثين بشكل مباشر أو غير مباشر من لدن الإله. بالتالي رسالته تنسخ رسالاتهم جميعاً، لكونها الوحيدة المكتملة والخاتمة وكل ما قبلها مجرد نسخ أولية أو منقوصة أو محرفة أو حتى قديمة وعفى عليها الدهر.

فوق أعمدة هذه الرسالة الخاتمة بني الإسلام لبنة فوق الأخرى حتى تحول إلى دين عظيم يسع ربما المساحة الأضخم من الكوكب والعدد الأكبر من سكانه. لكن حتى تشرع أعمال البناء ويصل هذا المستوى الشاهق عالمياً كان لا يزال ثمة حلقة مفقودة بالغة الأهمية من الرواية المنشئة - طريق الاتصال مع الإله الخالق. القرآن وفرها. القرآن كلام الله إلى البشر، بني آدم الغاوون الخطاؤون. نبوة محمد، ورسالة الإسلام كلها، قد بنيت على كون القرآن كلام الله المباشر، ومحمد مجرد بشر ناقل له عبر الوحي. من هذه النواة الإلهية تطور تدريجياً وعبر الزمن العملاق المسمى حالياً العالم الإسلامي؛ من نقطة القرآن الإلهي تلك خلق المسلمون أنفسهم بحوراً من الكلام تكفي لإغراق الدنيا بأسرها من الأحاديث والسنن والفتاوي والأدبيات والعلوم والفقهية وحتى الفلسفية، جميعها بلا استثناء تتخذ من كلام الله- القرآن- منطلقاً ومقصداً وحجة لها. عبر العصور، تكلم المسلمون كثيراً وحدثوا ونقلوا وقلدوا وتجادلوا وتشاتموا وتخاصموا وتفرقوا وقتل بعضهم بعضاً اختلافاً على من هم الأصدق حديثاً ونقلاً وقياساً عن القرآن. لكن مهما بلغ الخلاف والتناحر فيما بينهم، لم يشكك أحد منهم مطلقاً في قدسية القرآن كونه كلام الله المباشر المنزل إليهم.

وحتى يخدم القرآن غايته المنشودة في الرسالة الإسلامية، كان لابد من إعطائه منزلة إلهية خاصة تضفي عليه قدسية خاصة، لا أن يكون مجرد بند آخر من بنود الخلق الإلهي مثل الكون والجمادات والنباتات والحيوان والبشر والملائكة والجان وما شابه. ومن ثم أضيف إلى رواية الخلق الإلهية ملحق ’اللوح المحفوظ‘، للتأكيد على كون القرآن سابق في الوجود حتى على الكون وكل شيء آخر، وباقٍ لما بعد زوال الكون بما فيه. في قول آخر، تم رفع هذا اللوح المحفوظ المتخيل من مكانة المخلوق الزائل والفاني إلى مكانة أزلية وخالدة مكافئة لمنزلة الإله الخالق ذاته. فكل مخلوق من خلق الله له بداية معلومة ونهاية معلومة، وإلا ما كان مخلوقاً من الأصل. لكن الله الخالق أزلي، ليس له بداية ولا نهاية؛ كذلك أصبح اللوح المحفوظ مصدر القرآن أزلياً، بلا بداية ولا نهاية، وخالداً. بعبارة أخرى، لقد صنعت رواية اللوح المحفوظ من القرآن وجهاً آخر لله نفسه، أو أصبح الله والذكر الحكيم وجهين لعملة واحدة ونفس العملة. لقد ألَّهَ المسلمون قرآنهم وصنعوا منه أرباباً، كل مسلم يحمل نسخة منه في جيبه.

هكذا الدين الإسلامي، من الناحية النظرية، قائم كله فوق إلهية القرآن، حتى لو كان هذا الأخير بات لا يشكل في حقيقة الأمر أكثر من نقطة في بحر أو حبة رمل في صحراء كبرى. من ناحية أخرى، تبقى النظرية بصرف النظر عن صوابها من خطئها غير كافية وحدها لكي تخلق واقعاً أياً ما كان. في الحقيقة، الإسلام أمر واقع محسوس وليس مجرد قرآن وأحاديث وسنن وفتاوى وكلام وأقوال وخطب مهما كانت مدوية ورنانة. الواقع يخلقه الفعل العملي على الأرض بصرف النظر عن القراءات والتفسيرات والأسانيد والأحاديث والقياسات والحجج والمبررات والذرائع النظرية. في قول آخر، ما كان القرآن والسنة بمفردهما، ومن ورائهما كل التراث النظري الإسلامي الجرار، كافيان لوضع ولو لبنة واحدة فوق أخرى في الصرح الإسلامي العملاق القائم حالياً. المسلمون بأيديهم هم من فعلوا ذلك فعلاً، ولو متذرعين قولاً بالنص القرآني وما تمخض عنه من أحاديث وسنن وتراث في سيل جارف ليست له نهاية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها


.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الدكتور قطب سانو يوضح في سؤال مباشر أسباب فوضى الدعاوى في ال


.. تعمير- هل العمارة الإسلامية تصميم محدد أم مفهوم؟ .. المعماري




.. تعمير- معماري/ عصام صفي الدين يوضح متى ظهر وازدهر فن العمارة