الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سقراط في زنزانته

مصطفى الحسناوي

2022 / 10 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ظل سقراط طويلا ينتظر داخل زنزانته تنفيذ الحكم بالإعدام .أصدقاؤه يزورونه كل يوم في سجنه يجدونه جالسا على فراشه وساقاه النحيلتان متدليتان في الهواء مثل سيقان لبلاب، وهو طاعن في التفلسف والجدل صحبتهم .عاش سكان أثينا حينها أياما من الاحتفال السنوي بالسفينة المقدسة التي تبحر كل سنة في موعد محدد إلى إحدى الجزر. الأثينيون يقولون عنها بأنها السفينة التي أبحر فيها البطل تيزي في زمن قديم لينقل إلى جزيرة كريت سبعة شبان وسبع شابات أنقذهم من الخطر وأنقذ معهم نفسه،كما حكى فيدون لأصدقاء سقراط. أراد أحد القوانين في أثينا أن تظل المدينة،إبان إبحار السفينة المقدسة نحو الجزيرة شكرا للإله أبولون،طاهرة نقية وألا ينفذ الجلاد حكم الإعدام في أي محكوم قبل عودتها، وإذا لم يمت سقراط حينها فإنه يدين بالاستمرار قيد الحياة لمعركة تيزي ضد المينوتور وانتصاره عليه وهروبه من المتاهة بواسطة خيط أريان.المدينة التي حكمت بالموت على سقراط هي نفسها التي احتفلت بالبطل تيزي وانتصاره على المينوتور. وحدها الأسطورة المتعلقة بالبطل أوقفت تنفيذ حكم الإعدام حينها، كما لو أن الأسطورة قاومت الظلم مؤقتا.
لم يكن لدى سقراط أي وهم حول مصير الموت الذي ينتظره.منحه التخييل المرتبط بالأسطورة بضع لحظات قبل مواجهة الجلاد.تلك كانت قوة التخييل.بضع أحداث محكية معلقة في سماء الأوقات الأخيرة قبل عودة السفينة المقدسة، التي ستعود مساء الغد كما قال كريتون لسقراط حين زاره صباح اليوم ما قبل الأخير لإعدامه .في تلك الصفحات المعلقة ما بين الحياة والموت، يفسر سقراط لصديقه الغالي والوفي بأنه لن يهرب أبدا، وأنه لن يحول الزمن الذي منحته إياه الآلهة قبل موته إلى زمن مهرب.فكر سقراط بأنه يرفض تماما خيار التيه والنفي وأن يصير بلا وطن، فردا بلا هوية ضمن حشد الأجانب، أولئك العبيد ،أولئك الشعراء،قال سقراط تقريبا (لكنه لم يقل ذلك).قوانين المدينة الصارمة تتصادى في أذني سقراط ،تخبان في شساعات رأسه الممتدة بلا نهاية، وهو جالس في زنزانته يتمعن ساقية النحيلتين اللتين تتأرجحان في الهواء مثل بندولي ساعة، كأنه يقول لنفسه بأنه لا يمكن تحويل حياته الى تخييل مجرد من أجل أن يفلت بجلده.ظل سقراط أياما قابعا في السجن تطوح به الأفكار ،هل يفر من الزنزانة والموت التي تنتظره ويصير مجرد عبد هارب، أم يرضى بحكم المدينة التي عاش فيها وأحبها وينتظر تنفيذه في أية لحظة.لكن هل يستحق من قضاة المدينة التي أحبها حكما بالإعدام، هو الذي عاش حياته مسلحا بفضيلة الاستغناء عن كثيرا من التفاهات والحاجيات الاستهلاكية التي غرق فيها سكان أثينا.قوانين المدينة تجتاح أذني سقراط كطنين لا مفر منه، تتصادى في ذهنه.لن يستطيع أبدا تحويل حياته إلى حكاية متخيلة ليفر بجلده.قد يستمتع الآخر ربما بسماع حكايته، وهو يسرد تلك الطريقة الساخرة التي فر عبرها من سجنه، مسربلا في لباس مهرج يتدلى من أكمامه قماش من الدانتيلا المزركشة ذات الثنايا، واضعا فوق رأسه قبعة من جلد التمساح ،متنكرا في لباس العبيد الهاربين، حتى أن لا أحد سيتعرف عليه.لو أنه تنكر في لباس مضحك كهذا لصار اللباس جلده.ولماذا لا يتنكر سقراط في لباس امرأة .يصرخ سقراط بشأن زوجته قائلا لكريتون :(كريتون، خذها معك وأعدها الى منزلها).يسرع كريتون في سحب الزوجة من ذراعها بغير قليل من العنف ويجرها خلفه، بالرغم من صراخها واحتجاجها.قبل مغادرتها الزنزانة،تحدج سقراط زوجها بنظرة شزراء غاضبة وتقول له بصوت أجش : "أتمنى أن يعدموك في هذه اللحظة".تنرسم على فم سقراط ابتسامة غامضة.يسأل نفسه : ((متى أحب هذه المرأة وكيف تزوجها ))يسحب كريتون الزوجة وراءه، يجرها جرا وقوانين المدينة الصارمة تجتاح ذهنه.يسأل نفسه : "لماذا لايهرب سقراط ويريحني". خارج السجن ثارت الزوجة، أفلتت من قبضته، صرخت،قذفته بأحجار التقطتها من الأرض، شتمته وفي النهاية اتهمته، أمام حشد الفضولين، بأنه يريد اغتصابها ففر كريتون، انسل بعيدا حتى لاتطاله المصائب.ظل كريتون يسير بسرعة في مايشبه الهرولة،بلغ ميدان سانتاغما وسط أثينا، فاختار أحد الأدراج ليجلس ويستعيد أنفاسه.أغلق عينيه أسند ظهره للحائط، غفا قليلا وحين استفاق ألفى الميدان غاصا بالجماهير.الناس يحملون لافتات وأعلاما ويصرخون يرددون شعارات بلغة لايستوعب منها سوى بضع كلمات.سأل نفسه ساخرا :"هل أفلتت من المصائب المحتملة لامرأة لأسقط وسط مظاهرة احتجاجية حول سياسة التقشف،والاقتطاع من الأجور ورفض الخضوع لإملاءات الترويكا الأوربية)) .فكر كريتون لحظة باستغراب، كيف أن مصير تنفيذ حكم الإعدام في سقراط الفيلسوف الفذ وأستاذه، مؤجل بسبب شخص قد يكون مجرد مغامر أو نصاب هو تيزي، بالرغم من أنه اعتاد محاربة اللصوص بنفس أسلحتهم."ياللغرابة ياللبشاعة قال كريتون لنفسه،تيزي الابن اللاشرعي لخليلة ضاجعها عشيقها مرة واحدة بشكل عابر على الشاطئ، هو من يرتبط مصير معلمه به".سقراط في زنزانته واقف نظراته شاخصة الى السماء التي يراها صافية زرقاء عبر النافذة الصغيرة القريبة من السقف العالي.ضوء أشعة الشمس يجتاح الزنزانة.رأى عقابا ناشر جناحيه في السماء في وضعية سكون وكمون كأنه يحدد موقع فريسة.رأى العقاب ولم ير الفريسة.سقراط ينتظر موته كما لو أنها حدث عادي جدا مثل الأحداث الفلسفية التي خلقها يوميا عبر محاوراته. لن يرى بعد اليوم مدينة أثينا التي أحبها،لن يتجول في أزقتها، يرتاد أسواقها، يحاور سكانها.الغريب هو أن أي إحساس بالحزن لم يخامر سقراط.قال لنفسه : (تلك قوانين المدينة ويجب أن يخضع لها المرء حتى ولو كانت ظالمة، لأنها تسري على الكل) .استأنف حديثه مع نفسه (فكريا سقراط ،فكر.أليس الفكر مهمتك الوحيدة كفيلسوف..لم يعد أمامك سوى خيار واحد.سيعدمونك في الليلة القادمة).كريتون مازال رابضا في ميدان سانتاغما يتفرج دون تركيز على السيارات العابرة، وعلى منظر المتظاهرين وهم يرددون الشعارات.قال كريتون لنفسه : (لماذا لايخدع سقراط سجانه ويهرب،لقد خان تيزي ثقة مضيفه حين قبل مساعدة أريان، ثم خدعها هي الأخرى.فلماذا لا يخدع سقراط السجان، لماذا لا يخدع المدينة .صرخائنا ياسقراط...لقد قلت ذلك أنت نفسك أعلنت ذلك على العموم في محاورتك..أغلبية بسيطة من الأصوات هي التي أدانتك وحكمت عليك).سقراط قابع في زنزانته لم تخامره في أية لحظة فكرة الهروب ،بل انشغل بقول الشعر.نعم على حافة الموت يلعب سقراط دور الشاعر.يبدع موسيقى عادية جدا،يبدع تخيلات لاخطابات،كما يرى ذلك هو نفسه.نظم شعرا خرافات إيزوب، بالرغم من أنها ليست نصوصا من إبداعه ونصوصا أخرى تكريما للإله أبولون الذي سمح سباق سفنه لسقراط بالبقاء حيا ولو لبعض ساعات أخرى.لم يرد سقراط أن يلعب كوميديا الأحاسيس المؤثرة إبان محاكمته أن يئن ويستعطف القضاة، عارضا أمامهم بشكل مؤثر وضعيته العائلية وأبناءه الذين سيتركهم وراءه يتامى.رفض سقراط أيضا الحديث بلغة غير تلك التي اعتادها،أي لهجته كفيلسوف، انتابه الاحساس بأنه يعيش/يرى كل ما يحدث له كما لو أنه في عالم آخر.سقراط في زنزانته جالس رافض للهروب، لكنه منشغل بقول الشعر.وضع نفسه مكان إيزوب كما لو أن هذا الأخير هو سقراط. بدا سقراط سعيدا لأنه سيلتحق في مملكة الموت بأورفيوس وهيزيود وهوميروس.انتابه إحساس غامر بالنشوة والسعادة،نهض من مكانه وراح يذرع الزنزانة جيئة وذهابا.لم ينتبه للعتمة الشفيفة التي غزتها.تناول قنديل زيت أشعله ووضعه أمام المصطبة الحجرية التي ينام فوقها.قال لنفسه : (أقبل أن أموت عشرات المرات إذا كانت هذه الحكايات حقيقية).شعر بالنشوة لأنه سيموت وسيذهب ليحاور أبطال الأزمنة القديمة الذين ماتوا، بعد ما صاروا ضحايا أحكام ظالمة لماذا سيهرب من سجنه وهو مايني يفر من ضيق الزنزانة عبر الحكايات،يهرب أيضا عبر الاقتراب بخطى حثيثة من المنطقة الغامضة والمذهلة حيث تشرش الموت.(الشرفي الخارج،في أثينا في اليونان كلها يركض أسرع من الموت. البلاد انهارت اقتصاديا واجتماعيا كقصر من ورق، وهي الآن على حافة الحرب الأهلية )،يقول لنفسه. لم تعد الحكاية الهامش.لقد صارت المركز.صارت في خدمة الفلسفة والعدالة.صار بإمكان سقرط أن يهرب دون هروب هو الذي حكم عليه القضاة بالموت كعبد هارب، صار بإمكانه الحلم بصحبة أنصاف الآلهة، قرض الشعر دون أن يكون شاعرا والموت دون يكف عن الحياة.كريتون مازال جالسا فوق الدرج في ميدان سانتاغما يتفرج على المحتجين على سياسة التقشف وقد بدأت أعدادهم في التناقص،صاروا مجموعات متناثرة هنا وهناك حاملة للافتات وأعلام سيريزا.يفكر كريتون : (ما الفرصة المتبقية لإنسان ليحسب حظوظه في البقاء حيا أو في الموت). سقراط في زنزانته يفكر كما لو أنه يجيب صديقه من وراء الجدران :(الأجدر بالمرء أن يؤدي ثمن خياره الوجودي، من أن يستسلم لوهم الحساب مثل كريتون).(ان أحيا وأموت حرا داخل الزمن الذي تفرضه علي الأسطورة، سفر السفينة إلى جزيرة ديلوس والعودة منها ،هو أحسن ألف مرة من البقاء قيد الحياة كمجرم حقيقي يحسب بدقة تاجر الدقائق المتبقية من حياته)قال سقراط لنفسه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية تفرق محتجين اعتصموا في جامعة السوربون بباريس


.. صفقة التطبيع بين إسرائيل والسعودية على الطاولة من جديد




.. غزة: أي فرص لنجاح الهدنة؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. دعوة لحماس من أجل قبول العرض الإسرائيلي -السخي جدا- وإطلاق س




.. المسؤولون الإسرائيليون في مرمى الجنائية الدولية