الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شقة الى جوار الكنيسة

شريف حتاتة

2022 / 10 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تزوجت من " نوال السعداوي " في شهر ديسمبر سنة 1964 بعد خروجي من السجن بسـنة. قبـل أن نتزوج كنت أسكن مع والدتي في الزمالك. لم تكن لديَ موارد مالية سوى مرتبي الذي كنت أتقاضـاه مقابـل عملي في الدرجة السابعة بوزارة الصحة، وهي درجة استحدثت ساعة تعييني ، وكأن السلطات كانت تبحث عن وسيلة لمواصلة العقاب الذي فرضته علي نظير الآراء التي كنت أدافع عنها.
كان المرتب عبارة عن سبعة عشرة جنيهاً مصرياً فقط لا غير. فلما تزوجنا واجهتنا مشكلة السكن الـذي يمكن أن نستقر فيه. فكرنا في الإقامة مع والدتي لأن شقتها كانت واسعة، ومريحة لكننا بعد قليل عدلنا عن هذا الإحتمال ، نظرا للنظام الصارم الذي كانت مولعة به، ومنه عدم فتح " الثلاجة " أكثر من ثلاث مرات فـي اليوم الواحد، وكان هذا يتنافى تماما مع عادات "نوال" التي تميل إلى الحرية المطلقة في كل شيء ، بما فيهـا حرية فتح " الثلاجة" كلما تريد.
انتقلت أنا في غيبة الموارد المالية اللازمة للحصـول علـى شـقة ، إلى شقة "نوال" في شارع "مراد" بالجيزة ، رغم الهمسات التي أثارها هذا القرار ضمن أشياء أخرى أثيرت بين أصدقائي المثقفين حول هذه الزيجة.
شهدت هذه الشقة مراحل امتدت لأكثر من ثلاثين سنة، مراحل من تاريخ مصر كانت نابضـة بالأحـداث والتطـورات المتلاحقة، ومراحل مهمة في حياتنا أنا وهي. شهدت إزدهاراً في المجتمع بعد قرارات التأميم وقوانيين للإصلاح الزراعـي الصادرة سنة 1961.
في الوقت نفسه شهدت مشاكل وعثرات كان من أهم أسبابها نمو بورجوازية عسكرية جديدة أدت إلـى استشراء الفساد والتسلط في أجهزة السلطة. شهدت هزيمـة سنة 1967 وبداية النهاية لثورة سنة ١٩٥٢ والأمال التـي عقدها الشعب على مسارها. شهدت المظاهرات المتواصلة التي رفضت تنحي "عبد الناصر" عن الحكم وأرغمته على التراجـع عن قراره، وشهدت الجنازة الشعبية التي ملأت شوارع المدينة عندما مات، وإختطاف الجماهير لنعشه من مخالـب الأجهـزة التي أودت بحياته، وغذت العيوب التي كانت جزئا من تكوينه.
شهدت ثورة التصحيح المزعومة، و"الإنفتاح" الإقتصادي الذي نجني ثماره المرة الآن، وعودة الاستعمار الأمريكي الجديـد، وراية "إسرائيل" ترفرف في سمائنا، ووسط هذه الأحداث كلها ، شهدت ولادة ابني "عاطف" صاحب فيلم فيلم " الأبـواب المغلقـة "، تأليفا واخراجا ، ونشوء كاتبة اسمها "منى " تخوض المعارك بقلمها. شـهدت مجلات أصدرناها، وجمعيات أقمناها مع غيرنـا ثـم أغلقـت بقرارات من السلطة، وعيونا تراقبنـا وبوليسـا يحاصـرنا، وأصواتا، وأقلاما تتهمنا بالشيوعية، والصهيونية، والإباحيـة، والكفر، والكتابة للغرب، أو الهروب إليه، وتضع "نوال" علـى قائمة منْ يجب أن يهدر دماؤهم.
لكنها في الوقت نفسه شهدت لحظات فى حياتنا،لحظاتا لتحدي،ولحظات إبـداع،لحظات لحب،ولحظات سهر وعشاء على ىشواطيءالنيـل ولحظات حوارمع أصدقاءاختطفهم المـوت فيمـا بعـد ، أو إغراءات السلطة والمال.
وشهدت أجراس الكنيسة تدق يـوم الأحد في الصباح، وآذانات الصلاة تتهادى في الفضاء لتقـول أن أرض مصر لكل أبنائها، وبناتها مسلمين، وأقباط.
الحياة لا تعاش مرة واحدة
-------------------------------------
الجيزة احتفظنا بها مكانا نأوي إليه عند الحاجة.
كل ذلك عشته من جديد منذ أيام ، بعد أن عدت إلى شقتنا ، بحثا عن السكينة، عن فرص للتأمل الطويل، عن انقطـاع جـرس الباب، ورنين التليفون، وإجتماعات تعقد في بيتنا هذه الأيـام، وصحفيين يبحثون عن وسيلة لإجراء حديث مثير مع "تـوال" ، ترويجاً لصحفهم الناشئة أو البائرة، أو العاجزة عـن تجديـد الموضوعات.
سرت في شارع مراد. حياني بحرارة بائع الصحف "محمد" أصبحت نظرته حزينة بعد أن ولىَ الشباب، وصـاحب بقالـة "اليماني"، والسباك "عبد الرحمن" القادر على تشخيص أمراض المواسير، و "الحنفيات"، والرجل الطويل النحيل "عبدالله" يتأمل الدنيا في صمت ويصلح إطارات السيارت، وحـارس العمـارة "عم سعد"، وحتى "لطفي" الذي كان ينحاز إلى صاحب العمـارة إذا قام بيننا اختلاف، كلهم شدوا على يدي، وابتسموا ورحبوا بـي ، كأنني ابن ضال عاد إليهم بعد طول غياب.
صعدت إلى الدور الخامس بالمصعد، مـازال يتحـرك ببطء، ومازال زجاجه مكسورا عند أعلاه. قفز عقلـي فـوق الأيام إلى 6 سبتمبر سنة ١٩٨٠. أنا عائد من بلدتي، وجهى لفحته الشمس،ويداى تحملان وجبة غذاء شهية حمام بالفريك وأرز معمر فى اناء من الفخار . " نوال " غائبة ، وكانت تنتظرنى وتنتظر الأرز والحمام ، وفى الصالة أوراق مبعثرة . لسبب ما أدركت الأمر . كان اسم "نوال" رقم 1536 على القائمة التي قرر السـادات احتجاز أصحابها " في مكان أمين". كتب اسمها آخر اسم بخط يده ، عندما لم يجدها فى القائمة المكتوبة على الآلة الكاتبة . أفقت من عودة الذكرى ، عندما توقف المصعد . اليوم أدق جرس الباب لأجدها أمامي.
قضيت أسبوعاً في شقة الجيزة أفكر في الرواية الجديدة تقلق منامي. رقدت على السرير الذي تعودت أن أرقد عليه في تلك الأيام فغدا نومي هادئا، أستيقظ منه وعقلي صاف. أهـبط لأتريض على شاطيء النيل بعد الفجر بقليل ، كما كنـت أفعـل آنذاك. أستعيد الزمن الذي راح، أجدده، أتأمل ومضاته، أشـعر بالراحة على شاطيء المنيل، فحركة السيارات عليـه قليلـة وهدوءه مريح. أقامت عليه المحافظة حديقة "النصر" وحديقة أخرى " أحمد رامي" تمتدان مسافات. لكن على كوبري الجيزة ، مازالـت الحفر كما كانت في الرصيف، وشاطيء الجيزة احتلته المطاعم العائمة الضخمة والقبيحة، تلفظ روائح الطعام وتلقي بفضلاته حيث يتنزه العاديين من الناس. توحي بنهم الاستهلاك، بالذين يملأون بطونهم، لتعلو "الكروش" أعلى الحزام، وتحت الثـوب أوالجلباب، جاءوا بالمال من بلاد النفط، أو من المضاربة فـي سوق البورصات. وفوق كل هذا يعلو فندق "فور سيزونس" يوحي بالبذخ الخالي من الإحساس ، في بلاد يجوع فيها الملايين أو يشقون بحثا عن الغذاء.
أمشي وأمشي فتنعشني حركة الجسم. حركة الأفكار تعود إلى الوراء وتسير للأمام. أتساءل لماذا يصر الحكام على تغيير أسماء الشوارع كأنهم يمحون العار. الأسماء تسجل حركـة التاريخ، وتوالي الأحداث. شارع "مراد" أصبح له اسـم جديـد ، يتوه ِمني باستمرار .
على سبيل المثال ، الاسم القديم لشارعنا هو "مراد" ، يذكرني بمذبحة القلعة دبرها الوالي " محمد علي " ليتخلص من المماليك وينفرد بالحكم . المملوك "مراد" قفز بحصانه من أعلى القلعة فانكسرت "رجل" حصـانـه ، لكنه نجا وهرب إلى الصعيد.
وكوبري "عباس" ( أصبح كوبري الجيزة ) يعيد إلى ذاكرتى عهد الخديوى "عباس" الثانى ، الذى يحمل الكوبرى اسمه ، بكل سلبياته وايجابياته .
التاريخ ذاكرة الشعوب، حصيلة تجارب خاضوها، وعيهم بما فات، وأسماء الشوارع سجل يجـب ألا يمحـى ويصيبه الضياع. لذلك في كل بلاد العالم يحتفظون بأسماء الشوارع كما هي. وعندما تتسع المـدن، أو المراكـز، أو قرى الأريـاف يطلقون الأسماء الجديدة على شـوارعها. أمـا حكامنـا فقـد حرصوا منذ أيام الفراعنة على محو الأسماء المرتبطة بالعهود السابقة وكأننا بلا تاريخ. والشعب الذي يضيع منـه الماضـي يفقد ركيزة للحاضر، ورؤية للمستقبل. إنه كالانسان الذي يفقد الذاكرة، فيتخبط في الحياة.
من كتاب : " يوميات روائى رحَال " 2008
------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شهداء وجرحى إثر غارة إسرائيلية استهدفت منزلا في مخيم النصيرا


.. الشرطة الأمريكية تعتقل طلبة معتصمين في جامعة ولاية أريزونا ت




.. جيك سوليفان: هناك جهودا جديدة للمضي قدما في محادثات وقف إطلا


.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي




.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة