الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقل في فلسفة فريديريك نيتشه

مصطفى الأحول
كاتب وشاعر

(Mustapha Elahoual)

2022 / 10 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مصطفى الأحول.
"المهمة الكبرى بالنسبة إلى دارس نيتشه في عصرنا الحالي ،ليست هي أن يتساءل:هل كان نيتشه فيلسوفا عقليا،فرديا،متناقضا مع نفسه؟ وإنما أن يتساءل: لم كان نيتشه فيلسوفا لاعقليا ،فرديا،متناقضا مع نفسه؟ فإذا توصلنا إلى مثل هذا التعليل فعندئذ تكون المشكلة قد حلت."1
فؤاد زكرياء ،نيتشه،منشورات العباسية.
كثيرة هي القراءات التي قدمت لنا نيتشه بإعتباره فيلسوفا لاعقليا ،ورمزا من رموز الغريزة والفوضى.ومحاربا لكل عقلانية مقتلعا لها من جذورها وهو الحينيالوجي الأول."وحتى عنف هجماته على العقل والعقلانية لا يضاهيها إلا العبقرية التي تجلت في ممارسته لها."2. فما موقع العقل داخل فلسفته ؟هل نقده للعقل يهدف إلى اقصاءه واستبعاده ،ام أنه ينشد شكلا جديدا للعقل ؟
لم يسلم العقل في صيغته المستخدمة عند الفلاسفة السابقين عليه بدءا من بارميندس وسقراط مرورا بأفلاطون وعقلانية المحدثين. فكل كتبه تقريبا يشن فيها حربا شعواء على العقل ،بدءا من باكورة أعماله ،ميلاد التراجيديا.فيهاجم العقل وينتقده في صيغته السقراطية التي خلقت نموذجا متطرفا للإنسان النظري ،والذي كان السبب في إقبار التراجيديا الإغريقية.وفي كتابه ،التائه وظله، يقول,:أن العقل مؤهل للتعامل مع الأشياء الإنسانية القريبة ،لكنه انحرف وأخطأ وجهته بواسطة الكهنة والمعلمين المثالين من كل نوع."3 .إنه يبدو هنا كانطيا الفيلسوف الألماني الذي أقام محكمة للعقل ورسم له حدودا لا يمكن تجاوزها وهي حدود الظواهر ،اما الشيء في ذاته او النومين لا يمكن للعقل انتاج معرفة حوله.فينشه هو الآخر يضع حدودا للعقل حدود لا يتخطاها وهي حدود الأشياء الإنسانية المحسوسة فقط ."يجب أن تفكروا بحواسكم."4
وفي كتابه أفول الأصنام في قسم يحمل عنوان قضية سقراط.
سقراط الذي حول العقل إلى طاغية يقمع كل الغرائز وقدمه للإغريق كدواء للحفاظ على الذات ،فسقراط في نظر نيتشه هو الحالة المتطرفة للإنحلال ،فسقراط لم يختار أن يكون عقلانيا ،وأن العقل كان ملاذه الآخير.وأن هيمنته وديكتاتوريته كانت ضرورة للحفاظ على الحياة.هذه النزعة العقلية ستصبح مع تلميذه أفلاطون نزعة أخلاقية وبالتالي فالدافع وراءها هو العداء الشديد للغرائز.هذا الترياق الذي قدمه سقراط للإنحلال الإغريقي هو في عمقه مجرد تعبير أخر عن الإنحلال ،لأن العقلانية السقراطية تعني أن نستبدل منحلا يكبت كل غرائزه ويستئصلها ،ويهيمن عقله كديكتاتور عليه ،بمنحل آخر تسيطر عليه غرائزه ،فطغيان العقل وهيمنته هو الانحلال الحقيقي.
وفي القسم الثالث من نفس الكتاب والذي يحمل عنوان،العقل في الفلسفة ،يتهم نيتشه العقل ويرجع الخطأ والوهم إلى أحكامه التي شوهت شهادة الحواس ،التي لا تخطئ أبدا.فالعقل أصبح ثعلب ماكر،ومخادع كبير.فالمبادئ أو المسلمات التي يؤمنون بها الفلاسفة العقليون.كالشيء في ذاته،والآنا،والوجود،والجوهر، والعلية ،والغائية، والهوية ،والوحدة مجرد أوهام يبتدعها العقل من أجل فهمه وتفسيره.
وفي قسم آخر من ذات الكتاب والذي يحمل عنوان ،الأخطاء الأربعة الكبرى، والتي يقع فيها العقل ،وهنا يذكرنا بالأصنام الأربعة لفرانسيس بيكون....
فالخطأ الأول في نظره هو تعود العقل على الخلط بين السبب والنتيجة ،والذي يعود مصدره إلى الأحكام الدينية والأخلاقية ،كتصور رجال الدين والأخلاق.أن الفسق والترف هي السبب في دمار الإنسان وانحلاله هو السبب الذي يؤدي إلى الفسق والترف. وتصور المرض هو السبب الذي يؤدي إلى ذبول الشباب قبل أوانه،مع أن الحياة الفقيرة أو التعب الوراثي هي السبب الذي يؤدي إلى المرض وذبول الشباب.
والخطأ الثاني ،هو خطأ السببية الزائفة. التي يبتدعها العقل من عنذياته ويقوم بإسقاطها على الواقع الذي تنتفي فيه إمكانية العثور على أسباب عقليه "هل تعلمون جيداً ما هو العالم بالنسبة لي؟وهل تودون أن أريكم إياه في مرآتي ؟إن هذا العالم وحش من قوى ،لا بداية له ولا نهاية."5 فالواقع في نظره فوضوي ومراوغ ولا يمكن الحكم عليه من أعلى ،لذلك كان نقده لاذعا للأنساق الفلسفية الكبرى التي ما فتئت تعمل عبر مسارها سوى على تحنيط الواقع وقتل كل صيرورة متدفقة " أحتاط من كل صانعي الأنظمة واتحاشهم.إن روح النظام تنم عن نقص في االنزاهة6. فلا وجود لشيء فوق الحياة ،حتى العقل نفسه الذي بسببه تم الحكم على الواقع وتحويله ليكون متوافقا مع العقل
فالعقل العلمي كما وظفتها الحداثة هو مجرد وهم وإسقاط إنساني. فالإنسان يسقط من نفسه حقائقة الداخلية التي آمن بها حد التقديس ،كالإرادة،والنفس، والأنا .
والخطأ الثالث.هو خطأ الأسباب الخيالية ،فالنسبية مجرد وهم من أوهام العقل "إن الغريزة السببية يثيرها فينا الشعور بالخوف7"اي أن الإنسان يخاف من كل ما هو جديد بالنسبة إليه ولا يملك معرفة عنه مسبقا ،فالإنسان لا يحس بالراحة والآمان ولن يطمئن إلا بإزاء ما هو مألوف لديه، ومن ثم فإنه يسعى جاهدا أن يشتق ما لا يألفه مما يألفه ."أن نخرج شيئا من المجهول إلى المعلوم أمر مريح ،يطمئن ،يربي،ويمنح ،فوق ذلك إحساسا بالقوة.مع المجهول يظهر الخطر والقلق والوهم اول حركة فطرية نقوم بها تميل إلى استبعاد هذه الحالات المكدرة."8. والخطأ الرابع هو خطأ حرية الإختيار ،فهي فكرة من ابتكار رجال الدين لجعل الإنسان مسؤولا عن أفعاله لكي تتاح لهم إمكانية معاقبته. ففي نظر نيتشه لا توجد سوى الحرية العظيمة والتي لن تتحقق إلا بخلاص العالم وبراءته من كل الأوهام التي تعترضه " لم يعد لنا الأن أي تسامح مع المفهوم (حرية الإختيار) ،لا نعرف معناه إلا قليلا ،إنها اكبر حيل المراوغة المشبوهة التي يمارسها علماء اللاهوت...الذين يهدفون إلى جعل البشرية مسؤولة بالمعنى الذي يريدون ،اي جعلها أكثر تبعية لعلماء اللاهوت..."9.وفيي كتابه هكذا تكلم زرادشت يتحدث في خطبة تحولات العقل الثلاثة ،عن المراحل التي يقطعها العقل." سأخبركم كيف يصبح العقل جملا وكيف يصبح الجمل أسدا وكيف يصبح الأسد طفلا في النهاية."..10 فلحظة الجمل هي لحظة البحث عن الحقيقة وحمل عبئها الثقيل ،ثم يتحول إلى أسد ،حيث يتحرر من الأحمال التي يحملها ويسيطر على صحرائه معلنا أنا أريد ،ويحارب كل القيم التي تجسدها كلمة يجب عليك. لكن الأسد لا يستطيع أن يخلق ويبدع قيما جديدة لأن مهمته تنحصر فقط في تحرير نفسه من القيم القديمة " يا إخواني ما الذي يستطيع الطفل أن يفعله بعد أن عجز الأسد عنه؟ ولماذا يجب على الأسد أن يتحول إلى طفل؟ ذلك أن الطفل براءة ونسيان وبداية جديدة ولعبة وعجلة تندفع حول نفسها، وقبول مقدس ولعبة الخلق."11ولن يصير العقل مثل طفل يلعب ويلهو في براءة إلا بعد تحرره من كل القيم القديمة والأوهام الميتافيزيقية التي تحجب عنه براءة الوجود وجماله.
فنقده اللادع للعقل لم يكن هدفه تأسيس اللاعقلانية أو إلى الغريزة ،بل كان الهدف من نقد العقل كما استخدموه الفلاسفة ،من أجل تحريره من الأوهام ومن سلاسل المنطق الصوري من قبيل الهوية ،والذات،والجوهر، والسلبية.......الخ.كما يهدف إلى نقده للعقل للكشف عن طبيعته المخاتلة ،عن ألياته في الحجب والكبث ،والإخفاء والإستعباد والإقصاء.لأن نقده للعقل وإجتثاثه بشكل كلي ،هو شكل آخر منذ أشكال الإنحلال ،ووجه من أوجه العدمية ،التي ما فتئ يحاربها.فالدفاع عن العقل وتقديسه يجدان هما ايضاً موطئ قدم في قلب قوى الحياة المتعددة .
فنيتشه ينتقد العقل أولا بإعتباره طاغية ،وطغيانه على حساب الغرائز. فمهمة العقل ليست هي إعلان الحرب على الغرائز كما فعلت الفلسفة القديمة بدءا من سقراط فصاعدا. ويدعو بعد ذلك إلى أن ينسجم الإثنين معا. العقل والغرائز ويؤديان دورهما في تناغم العنصرين الأبولوني والدييونسيوسي.فنيتشه لا يدعو الى تحرير الجسد بكل غرائزه ليبلغ أقصى درجات اللذة والمتعة كما يعتقد الفوضويون ،بل يدعو إلى التحرير المنضبظ بثنائية الترويض والتسامي بالغرائز ،بإستحضار سلطة العقل المتأهب.
وينتقذه بإعتباره مصدرا لكل الأوهام التي تسجن الإنسان وتوجهه بعيدا عن حياته فوق الأرض. فالعقل الذي ينشده نيتشه والذي من أجله حارب كل صيغه المبتذلة ،هو عقل الأرض الذي يعبر عن الحياة على هذه الأرض دون أن يتجاوزها إلى حياة أخرى أو عالم آخر.فيظل بذلك طريقه ويتيه،مما يؤدي إلى نفي الحياة أو مايسميه نيتشه بالعدمية والتي تعني نكران الواقع بإسم المثال، لتكن عقولكم وفضائلكم يا إخواني في خدمة معنى الأرض."12.

......................................................
المصادر:
1:فؤاد زكرياء ،نيتشه،منشورات العباسية
2:نفس المرجع
3:التائه وظله
4:هكذا تكلم زرادشت ،محمد الناجي ،إفريقيا الشرق.
5: بمعزل عن الخير والشر ،محمد الناجي ،افريقيا الشرق.
6:أفول الأصنام ،ترجمة حسان بورقبة,محمد الناجي ،افرقيا الشرق
6:نفس المرجع
7:نفس المرجع
8:نفس المرجع
9:نفس المرجع
10: هكذا تكلم زرادشت
11:نفس المرجع
12:نفس المرجع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: انتخابات رئاسية في البلاد بعد ثلاث سنوات من استيلاء ال


.. تسجيل صوتي مسرّب قد يورط ترامب في قضية -شراء الصمت- | #سوشال




.. غارة إسرائيلية على رفح جنوبي غزة


.. 4 شهداء بينهم طفلان في قصف إسرائيلي لمنز عائلة أبو لبدة في ح




.. عاجل| الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى الإخلاء الفوري إلى