الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن فلسفة الأمر البسيط -2-

عبد الرحمن جاسم

2006 / 10 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عن فلسفة الأمر البسيط -2-
خلال المقال السابق أوردت لكم، أحبتي، كيف أن الفلسفة هي جزء مستحكمٌ من أفكارنا، وأحاديثنا اليومية، وحتى تبعات الحياة التي تتحكم بكل خطوات مستقبلنا. وحتى ولو حاول البعض ثنيكم عن فهم هذه الأمور، بالتحجج بأنها معقّدة، وبأنها تنفع للكتب وللدراسة، فهذا أمرٌ صحيح نسبياً، فهي نافعةً لهذا الأمر، ونافعةً للحياة، هذا الأمر يتبع المنطق البسيط: فلسفتهم قائمة على أن يرفضوا أمراً يعتقدونه معقداً وعلى إلغاء ما لا يريدون أن يروه.
فلنأخذ الصورة نفسها مثلاً كي أدخل إلى صلب الموضوع سريعاً، الإسم نفسه "فلسفة الأمر البسيط" إذا أسلفت ذكره أمام أي إنسان، بدءاً من العمال انتهاءاً بأعتى المثقفين، ماذا ستكون ردة الفعل؟ سيكون هناك عدة ردات فعل، ولكن جميعها يمكن دفعها إلى ثلاث إتجاهات، سلبي وإيجابي ولا مبالي. السلبي يكون إما بالهزء والسخرية، وإما بذمك وهجاء الفكرة التي أتيت بها. الإتجاه الثاني، سيكون إيجابياً محاولاً فهم ما الذي تتحدث عنه -وهؤلاء الاشخاص قلّة بالمعتاد-. والقسم الأخير، هو القسم الذي يسمعك وكأنه لا يسمعك، فلا يحاول إدغام نفسه بأي محاولة لفهم الحياة، أو ما حوله.
قد يكون ما أسلفته هنا، أمراً معاداً من المقالة السابقة، وسيسأل البعض ما الجديد اليوم، وسأجيب، سأتحدث عن فلسفة الأمر البسيط للخطيئة، أو للشر، أو للحرام (إذا صنفنا الأمر دينياً). وفلسفة الأمر البسيط للخطيئة أمرٌ شائع ونستعمله يومياً، كما لغيره من فلسفات الأمور البسيطة. ولكن بما أنه له تركيباً خاصاً وتقنيةً خاصة، أردت إفراد مقالٍ خاصٍ به.
ففلسفة الخطيئة البسيطة، قائمة على نقطتين، إما القناعة التامة بالخطيئة، أي أن إتيانها قائمٌ على اقتناع، وفهمٍ تام لها ولخطرها. يعني مثلاً أنت تسرق وأنت تعلم أنك تسرق، ومدرك للأذى الذي ستحققه هذه السرقة، للناس ممن حولك ولأحبائك وأعدائك ومدى أثرها عليك وعليهم. النقطة الثانية هي عدم الإدراك لما سيحدث من جراء الأمر المفعول، أي أنك لا تعرف المدى المختفي خلف هذا الفعل. وبطبيعة الحال فإن الأمرين مختلفين اختلافاً جذرياً، وبالتالي فإن فلسفة للأمرين مختلفةٌ بشدة. ففي الحالة الأولى تقوم كل فلسفتك على أن تشرّع الأمر وتمنطقه وتجعل ذلك شغلك الشاغل. فلص المنازل، لا يعرّف عن نفسه بأنه لص منازل، بل يلجأ إلى حيلتين لذيذتين في وصف نفسه، بدءاً من زائر الليل، إنتهاءاً بـ"المستعير" هذا في توصيفه لنفسه أمام أنداده وأقرانه. أما في وصفه نفسه لنفسه، فالأمر هو شديد التعقيد. فهو يبرر تلك السرقة بأسبابٍ عديدة، تارةً بأحواله المادية السيئة، أو بالأحوال الجيدة لمن يسرق منهم، وطوراً بحقده على المجتمع وسخطه منه، وسواء أثار الأمر بطريقة قائمةٍ على الوعي، أو بطريقة بدائية بسيطة، ففي كلتا الحالتين هو يخلق التبرير المباشر لقيامه بالأمر، مما يخفف بعض الألم النابع من عقله، هذا الألم المدعو: تأنيب الضمير!
والقاتل لا يحدّثك عن جريمته وعن بطولته، إلا بعد أن يخبرك بالأسباب التي أودت به إلى هناك، بدءاً من التذرع بالبطولة، (خصوصاً في قصص الشرف والثار في بلادنا)، وحينما تغفر له خطيئته، يحول الموضوع إلى بطولةٍ مطلقة. وهو كذلك يفعل أمراً شديد الأهمية ألا وهو أنه يدخل جميع الناس في لعبته، سائلاً إياك آلاف المرات، ماذا ستفعل لو كنت مكاني؟ ماذا ستفعل لو حدث معك ذلك؟ وطبعاً ستخجل أنت من تحوّلك إلى ندلٍ أو جبان أمام ليثٍ غضنفر مثل هذا، مع أنك تنسى ببساطة أنه قاتل، ولا شيء غير ذلك ومهما برر الأمر! ولا تنتبه أنت إلى منطق أن الخطيئة متى عممت (أي وزعت على كل الناس وأخذ كل واحدٍ منها حصته أو قطعته) ما عادت خطيئة، بل صارت تراث مجتمع!
إنها الحيل الأمثل التي يلجأ إليها هؤلاء الناس، يا أحبتي، لكي يتجنبوا عذاب ضميرهم. بضع خداعٍ بسيط، ويتحول حتى الضمير الحارس إلى أبله معتوه! طبعاً هنا سيتنفس البعض الصعداء ويظنون أنهم قد نجوا لأنهم لا يقومون أبداً بأعمال "إجرامية" أو خاطئة إلى هذه الدرجة، ويعتقدون أن ضميرهم لا يزال صاحياً ومتهيئاً لكل الظروف و"المطبات الهوائية" لكن هذا أيضاً غير صحيح. فالإنسان العادي، أنا/أنتم، يقوم بما هو شبيه بما يفعله هؤلاء المجرمون. فنحن أيضاً نخادع ضميرنا، وبطرقٍ كثيرة وللغاية!
مثلاً، حينما يأخذ الموظّف رشوةً من أحد العملاء، يتعلل بأن هذا العميل مكتنز، ويملك مالاً كثيراً فما الذي يمنعه من أن يدفع ولو قليلاً مما لديه، ويتعلل بالقول: "إن الله أمر بالعطاء" متناسياً أن هذا ليس عطاءاً، متغافلاً أيضاً، عن أنه إذا لم يعطه هذا العميل المال المنشود لغضب عليه، ولنامت المعاملة في الأدراج نومة أهل الكهف.
مثلٌ آخر، وهو مثلٌ مزدوج كما سترون، حينما يسألك أحد أصدقاءك مالاً، فترفض مع أنك تملك ما يحتاجه، وتعلل رفضك بسببين، أولهما أنه لن يعيد المال، وثانيهما أنه قد تحدث معك قضيةٌ من نوعٍ معين فتحتاج مضطراً لهذا المال، لذلك فإنك تمنعه عنه، يعني أنك تنتظر حدوث أمرٍ سيء يخوّلك احتياج المال، وهو أمرٌ مضحك بحزن لأنك في الأوقات العادية تكلل كل عباراتك بالدعوات لكي لا يحدث أي شر. هو من جهته، لن يعيد لك المال لو أنك أعطيته إياه، وإذا أعاده فسيكون تحت إلحاحٍ شديد، لأنه بتبريره، "لو أنك محتاجٌ إلى هذا المال لما أعطيته إياه".
فلأقدم مثلاً أخيراً، كي تتضح الأمور، مع أنني متأكد من أنها أضحت واضحةً للغاية، أنت حينما يطلب منك أحدهم عملاً وتتباطئ به لسبب أو لآخر، -وقد يكون السبب سخيفاً للغاية، كمشاهدة مباراة كرة قدم، ستتم إعادتها آلاف المرات(والشكر طبعاً للفضائيات)، أو متابعة فيلم (يمكنك استئجاره فيما بعد)- ويأتيك العتاب، تظهر حجتك الغريبة، والتي لن تقبلها أنت في المعتاد من الناس، لأنك ببساطة تعرف ما الذي يختبئ خلفها، الحجة هي هل ستحلّ مشكلة الشرق الأوسط إن أنجزت هذا العمل في الوقت المحدد فلينتظروا قليلاً، كنت مشغولاً!!. يا أحبتي، نعم كانت قضية الشرق الأوسط ستحل لو أن كل واحدٍ فينا أنجز ما عليه، وما هو مطلوبٌ منه في الوقت المحدد والمناسب.
يعني ببساطة كما تلاحظون التبرير هو سيد فلسفة الخطيئة البسيط. الناس يا أحبتي، يبررون لأنفسهم سلوكهم اليومي والعادي، المتعلم/المثقف يرفع رأسه ولايكلّم العمال بحجة أن الناس طبقات، وحتى ولو أنه لم يقلها بلسانه، فلسان حاله يقول، حتى الله صنّف الناس طبقاتٍ فوق بضعهم، فهل أنا فوق الله؟ ولكنه نسي بطبيعة الحال بأن الله طلب بالمساواة والعدل! العمال والمهنيين من جهتهم لا يفوتهم الأمر، فهم يستغفلون المتعلمين/المثقفين بحجة أن أولئك مغرورون كاذبون، فيحاول دائماً السمكري/البواب/النجار/الحداد خداعك عند قيامه بأي عملٍ لديك، مع أنه لو أدّى نفس الخدمة لزميل من نفس العمل لما فعل هكذا، وحجته بسيطة وتبريره بسيط لن يعرف، ولأنه يأخذ مالاً أ كثر مني فلن يضايقه الأمر، ناسياً كذلك أن استاذ المدرسة/الصحافي/موظف الشركة(وحتى ولو كان مهندس كمبيوتر) ليس دائماً بمثقف ولا يأخذ أكثر منه أبداً!
أمثالٌ وأمثالٌ كثيرة، ولا تنتهي يا أحبتي، هي توضح فقط كيف أن المنطق القائم على الفعل/التبرير هي جزءٌ من طريقة عيشنا اليومية وخصوصاً في تعاملنا المضطرب مع مفهوم الخطيئة والصواب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 9 شهداء بينهم 4 أطفال في قصف إسرائيلي على منزل في حي التنور


.. الدفاع المدني اللبناني: استشهاد 4 وإصابة 2 في غارة إسرائيلية




.. عائلات المحتجزين في الشوارع تمنع الوزراء من الوصول إلى اجتما


.. مدير المخابرات الأمريكية يتوجه إلى الدوحة وهنية يؤكد حرص الم




.. ليفربول يستعيد انتصاراته بفوز عريض على توتنهام