الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيمفونيّة الإرهاب

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2022 / 10 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


على مقام الحرام تعزفُ فرقةُ الإسلام السياسيِّ الأصوليِّ لَحنًا عتيقًا لم يزلْ يُنفَثُ على مسارحَ مضادّةٍ للملل، كأنّهم خُلقوا ليؤدّوا هذا اللحنَ الذي يتخذُ أسماءً تتبدّلُ بتبدّلِ المُسمّين؛ إذ يُحبُّ عازفوه أن يُسمّوه سيمفونيّة الزَندَقة، أو ترنيمة التّفسيق، بينما يُفضّلُ بعضُ المُتزندقين، الذين لا يرَونَ في زندقتِهم أيّةَ زندقة، أن يُسمّوه مُقدّمةً لأغنية الإرهاب، أو سيمفونيّة الإرهاب على سبيل التسمية الفنيّة. ومن البابِ نفسِه، أي باب التسمية الفنيّة، تُسمّى جماعات الإسلام السياسيّ المُتطرّفة بـ «الأصوليين»، على أنّ كلمةَ "أصولي/ أصوليين"، بذاتِها، ليست ذاتَ دقّةٍ إلى الحدِّ الذي يجعلُها مُصطلحًا علميًّا يكون مُرادفًا لحركات الإسلام السياسي المتشدّدة التي تُوصفُ بـ "الأصوليّة". وتجنّبًا للإنتقال إلى عالم التعريف والاصطلاح فنَحيدُ بالنصَّ عمّا يُكتبُ لأجله سنُبقي على تسمية «أصوليين» بوصفِها مُرادفًا لـ "جماعات الإسلام السياسي المتطرّفة"، فقط لا غير.

يُفتي المتصدّون لمهمّة الإفتاء عند الأصوليين، وغير الأصوليين، بتحريم الفنون عمومًا، والفنون السَمَاعيّة على وجه الخصوص، بصورةٍ توهمُ بتحقّق "الإجماع" الذي أضحى بدورِه حُجّةً جامعة مانعة، إن جاز التعبير. والواقعُ أنَّ الإجماع على هذا التحريم أقربُ إلى التحقّقِ عند الأصوليين منه عندَ غير الأصوليين، على أنّنا لسنا في حضرةِ البحث الفقهي/ الشرعي الذي لا يقلُّ أهميّةً عن الأبحاث العلميّة لفهم ومواجهةِ نزعة، أو ثقافة، التطرّف عند المسلمين. وبالتالي لن نتناول قضيّة تحريم الفنون من منظور فقهي، إذ أنّ ما نحنُ بصددِه الآن هو مُقاربةُ تحريم الفنون بمنطقٍ/ منظورٍ يختلفُ قليلًا، أو كثيرًا، عن المنطق التقليدي الذي يتوسّلُه الناقدون للأصوليين، والذي يقول ما معناه أنّ الأصوليّين يُحرّمون الفنون للسيطرة على الناس. ورغمَ أنّ المُقاربةَ التي تحملُها هذه المقالة تلتقي مع المنطق التقليدي في مقاربةِ هذه القضيّة إلى درجةِ التطابق أحيانًا، إلّا أنّ الإختلاف يقع في مسألةٍ أساسيّة وتأسيسيّة، ولعلّها الوحيدة؛ فصحيحٌ أنّ تحريمَ الفنون يُساهمُ بصورةٍ كبيرة في تمكين الأصوليين من السيطرة على أتباعهم، ولكن هل حقًّا قد بلغَ الأصوليّون هذا العمق في فهم الطبيعة الإنسانيّة حتّى يُمارسوا "التحريم من أجل السيطرة" عن وعيٍ منهم؟ وهل كان هذا الوعي موجودًا، بصورةٍ أو بأخرى، عند المُحرّمين الأوائل؟ أم أنّه تشكّلَ عند الأصوليين المعاصرين عبر تجارب الإسلام السياسي في العقود الأخيرة؟

تعتمدُ مُقاربةُ هذه المقالة للعلاقة القائمة بين تحريم الأصوليين للفنون من جهة وقابليّة السيطرة عندهم من جهة أخرى، على مُقارنةٍ، أو مُقابلةٍ، بين إنسان الأصوليّة وإنسان الفن، أو بعبارة أخرى؛ بين مشروع الأصوليّة ومشروع الفن الذي يُشكّلُ بدورِه مشروعًا مُضادًا، أو حركةً مُعاكسة، لمشروع الأصوليّة. والمقصود بالـ "مشروع" هنا هو الصيغة العقليّة، أو النفسيّة/ الروحيّة، التي سيُصاغُ بها الإنسان اعتمادًا على تأثير الفن أو الأصوليّة عليه.

يُمكننا تعريف مشروع الفن، أو رسالتِه، بأنّه جعلُ الإنسان أكثرَ استجابةً لنداءات الجمال من جهة، ومن جهةٍ أخرى تمرينُه ليس على تذوّقِ الجمال وحسب، بل على أن يكون أكثرَ إنسانيّةً في تذوّقِه للجمال، وبالتالي أكثرَ تألُّهًا. وممّا يُثير الدهشة ويبعثُ على البحثِ في الماوراء، هي تلكَ الجدليّة القائمة بين استجابة الإنسان لنداءات/ صور الجمال وتكشُّف المزيد من هذه النداءات/ الصور بصورةٍ طرديّة حيثُ كلّما استجاب أكثر كلّما تكشّفَ الجمال له أكثر، ليشعرَ في لحظةٍ ما أنّه يُريدُ أن يحضنَ الدنيا كما يُعبّرُ غيرُ واحدٍ عن لحظات نشوتِهم المتولّدة عن صور الجمال التي يتفاعلون معها. إنّ "احتضان الدنيا" هذا يُمثّلُ رغبةَ الإنسان المتفاعِل مع الجمال ليس في المزيد منه وحسب، بل في أن يسكنَ هذا الجمال ويتّحدَ معه حتى يحملَه على السفر الآني إلى عوالمِ الجمال المُطلق، والعودة منها بحسٍّ أكثرَ رهافةً وأخلاقٍ أكثرَ رحمةً؛ إنّ التفاعل مع الجمال هو رحلةٌ إلى الله، وهو بالتالي تفاعلٌ متبادل بين الإنسان والجمال. ومن باب ضربِ الأمثال؛ يُلاحظُ المُستمعُ لحفلةٍ للسيّدة أمّ كلثوم، أو غيرها من أرباب الفنون السمَاعيّة على وجه الخصوص، أنّ الجمهور في لحظةِ نشوته يصيح؛ "الله". إنّ هذه الـ "الله" تحملُ معنيَيْن كلاهما صحيح؛ فهي أولًا صيحةٌ دالّةٌ على الفاعل الكامن وراء الجمال الكلثومي، إذا جاز التعبير. وثانيًا تُعبّرُ صيحتُهم بـ "الله" عن أنّ الجمال الذي تذوّقوه لتوّهم لا يفوقُه جمالًا إلّا الله. ومن باب احترام نسبيّة تذوّق الجمال؛ يُتركُ مجالٌ لمزيدٍ من التفسيرات.
ولا يقتصرُ الجمال هنا على الجمال الحسّي، أي المُدرك بالحواس، بل يدخلُ تحت عنوان الجمال أيضًا الجمالُ الفِعلي، أو العملي، إن جاز التعبير، أي جمالُ الأفعال الإنسانيّة عمومًا، وتلكَ التي لا تخضعُ لمعايير نسبيّة على وجه الخصوص، وهذا النوع من الجمال هو ما نُركّزُ عليه في مقاربتنا. ولو أردنا تعريف الأفعال الجميلة فربّما نقول أنّها الأفعال المتولّدة عن الرحمة؛ فالحبُّ جمالٌ، والعطاءُ جميل، بقدر ما أنّ قتلَ الإنسانِ بشعٌ حتّى لو كان هذا المقتول مُستحقًّا للموت. وهنا لا بدَّ أن نُطلّقَ كلَّ اللوثات الفلسفيّة والمتلازمات النيتشويّة التي تعدّتْ مرحلة تمجيد القوّة إلى جعلِها، أي القوّة، نوعًا من أنواع الأخلاق، إذ أنّ حدًا أدنى من الإنسانيّة في صياغة النظريّات لا بدَّ أن يكون موجودًا حتى تكون النظريّة أهلًا لأن تَنفعَ الناس. لا فرقَ بين الأصوليين الذين يقتلون الأطفال وبين مؤمنين بنظريّة تجعل من هتلر وموسوليني قدّيسَيْن.

بالعودةِ إلى موضوعِنا الذي لم نُضيّعه بعد؛ يُشكّلُ الجمالُ محورًا للفن يدورُ حولَه، وفلَكًا يسبحُ فيه. ويؤثّر الفنُّ سلبًا على قابليّة الأصوليين للسيطرة على عقول الناس من عدّة أبوابٍ أبرزُها ثلاثة؛ التحرّر، التلاقي والتألّه. يُساهمُ الفنُّ بتحرير الإنسان من المنظور الضيّق الذي ينظرُ به إلى العالم حين يحملُ الفنُّ الإنسانَ إلى عالمٍ من التأمّل والخيال بوصفه قوّةً دافعةً نحو الإبداع. ومن جهةٍ أخرى، يدفعُ الفن الإنسانَ ليخرجَ من ذاتِه، بل من العالم كلّه، دون أن ينقطعَ عنهما، حيثُ يُراودُه، في لحظة الإنتشاء بالجمال، شعورٌ أقربُ إلى الطفو؛ يشعرُ كما لو أنّه يطفو فوق هذا العالم، فيتحرّرُ الإنسانُ من انتمائه الضيّق ويتحوّل بيتُه من ذاتِه إلى كل الكون. وحين يعودُ إلى ذاتِه الجديدة، يشعرُ برغبةٍ جامحةٍ في المزيد من الجمال، فيندفعُ إلى الآخر المُختلف عنه، والذي يندفعُ بدوره تجاهه، ليلتقيا في نقطةٍ واحدة؛ البحثُ عن الجمال، وفي سبيل المزيد من الدقّة؛ البحثُ عن جمالٍ جديد ومختلف، كأنّ كلًا منهما يقول للآخر؛ خُذْ جمالي وهات جمالَكَ. ثم يبدأ الإنسانُ بعد ذلك بالتألّه؛ أي التخلُّق بأخلاق الله، والإقتداءُ به إن جاز التعبير، ويتشارَك مع الله بعضَ أفعالِه كالخلق، فالإنسانُ المُبدعُ إنسانٌ خلّاق، وفي لحظةٍ كهذه يُخاطبُ الشاعر محمّد إقبال اللهَ قائلًا؛ "يا ربّ، أنتَ خلقتَ الأدغال، وأنا خلقتُ البستان"، ومن باب رفع تهمة التجديف لا بدَّ من التأكيد أنّ شراكة الله والإنسان في الخلق ليست مُرادفًا للنديّة أبدًا.

إنّ هذه الصورة، أو الصيغة، التي يكون عليها إنسانُ الفن هي العكسُ تمامًا لما يُرادُ للإنسان أن يكونَه مع الأصوليين. فإنسانُ الجمال سيرى الجرائم التي يرتكبُها الأصوليّون بشعةً من جهتَيْن؛ الأولى من حيث هي جرائم، والثانية من حيث أنّها تُرتكبُ باسم الله- الجمال المُطلق، وبالتالي لن يكون أداةً لتنفيذ فتاوى القتل، ولن يكون حطبًا لجهنّمِ الإقتتال. كما أنّ إنسانَ الأصوليّة هو إنسانٌ منغلقٌ على ذاتِه لا يعترفُ، غالبًا، للآخر المختلِف عنه ليس بحق الوجود الفكري وحسب، بل في حق الوجود الفيزيائي أيضًا. ويعود هذا الإنغلاق على الذات إلى عقيدةِ امتلاك الحقيقة المطلقة التي يبثّونها في لاوعيه، ممّا جعله لا يرى في الآخر المختلف إلّا تجسيدًا للخطيئة التي يجب التخلّصُ منها، ومن مرتكبِها، وبرصاصةٍ واحدةٍ، أو حزامٍ ناسفٍ واحد، وبالتالي، فإنسان الأصوليّة هذا لن يلتقي بالآخر إلّا ليقتلَه. وتلعبُ صورةُ الله عند الأصوليين دورًا مهمًّا في صياغة أفكارهم الإجراميّة التي لا يتردّدون في تنفيذها متى أُتيحتْ لهم الفرصة. فالله عند الأصوليين ليس إلهًا "للعالمين"، بل هو إلهُهم وحدهم، أمّا من يختلف معهم فلا إله له، وبالتالي يتحوّل هذا المختلِف، نتيجة حرمانه من الإله، إلى عدوٍ يجب القضاء عليه معنويًا بالدرجة الاولى، تمهيدًا للقضاء عليه فيزيائيًا بصورةٍ مبرّرةٍ ومقبولة لدى من سيقوم بقتله من جهة، ولدى بقيّةِ أتباع الأصوليين من جهة أخرى.

فمشروع الفن، إذًا، ينزعُ من الإنسان قابليّة أن يكون أداةً/ وسيلةً في مشروع الأصوليّة، لأنّه يمكّن الإنسان من أن يرى ما في التعصّب/ التطرّف الفكري والمادّي من بشاعة. وهنا يبرز الصنف الأهم بين أصناف الجمال؛ الجمال الفكري، أو جمال الأفكار التي نحملُها، فالأفكار التي نؤمنُ بها، أو نُلَقّاها، هي التي تصنعُ سلوكاتنا تجاه أنفسِنا، وتجاه الآخرين. كما يُدركُ إنسانُ الفن أنّ صوت أمّ كلثوم، مثلًا، أكثرُ دلالة على الله وتعريفًا به من الكثير من مشايخ الأصوليين الذي يُبرّرون قتل المختلِفين عنهم بمبرّرات توحي لمن سيقوم بهذه الجريمة أنّ الله يكون راضيًا عليه أكثر كلّما قتل من "الكفّار" أكثر. وممّا يؤكّد ضرورة الفن، حتى عندَ من يحرّمونه، هو ميلُ الكثير من الأصوليين إلى نوعٍ من التقليد للفن المُحرّم حيثُ يقومون، على سبيل المثال، بإبدال كلمات أغنيةٍ "فاسقة" بكلماتٍ تُعبّرُ عن أيديولوجيّتهم مع الإبقاء على اللحنِ "الفاسق" نفسه، ما يوحي بأنّهم لم يستطيعوا إلى الآن التفلّت كليًّا من حضور الفن في أعماق النفس البشريّة.

وعلى سبيل الختام، ولعلّ خيرَ الختام الآن العَوْدُ على ذي بِدء؛ إنّنا الآن أمام احتمالَيْن؛ إمّا أنّ الأصوليّين يُمارسون تحريم الفنون عن وعيٍ منهم، ما يجعلُهم أكثر ذكاءً وخطورةً ممّا نظن، أو أنّ أيادٍ ليست بيضاء أبدًا استغلّتْ كتبَ الفقه والحديث التي يُقدّسها الأصوليّون، وأتباعُهم بإحسانٍ أو بغير إحسان، وجعلتْ من الأصوليين أنفسِهم أداةً لتنفيذ مشاريعها التي لا يُمكن أن تُحملَ على محمَلٍ حسَن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بناه النبي محمد عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين


.. متظاهر بريطاني: شباب اليهود يدركون أن ما تفعله إسرائيل عمل إ




.. كنيسة السيدة الا?فريقية بالجزاي?ر تحتضن فعاليات اليوم المسيح


.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا




.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم