الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التعليم الديني والحس النقدي: رؤية تحليلية على خلفية المواطنية

مجدي عبد الحافظ صالح
كاتب وأكاديمي ومترجم

(Magdi Abdelhafez Saleh)

2022 / 10 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


توطئة:
تكمن مفارقة هذا الموضوع في الافتراض بإمكانية أن يُقترن التعليم الديني بحس نقدي فاعل، ليس تجاه الموضوعات التي يقوم بتناولها أو الموضوعة على طاولة بحثه فحسب، بل تجاه التعليم الديني نفسه الذي يمارسه أو يجب أن يمارسه وطبيعته وموضوعاته، بمعنى أن يتوجه النقد إلى الذات قبل أن يتوجه إلى الأديان أو المذاهب والطوائف الأخرى على الساحة الوطنية. تحاول ورقتنا المقترحة سبر غور هذه المسألة الحيوية، حيث تشير أغلب الدلائل المنظورة وكذلك بحوث العلوم الاجتماعية، إلى أن الأديان تقوم على معتقدات وقواعد وفرائض وطقوس وأفكار تعتقد دوما أنها الاصوب، بل وترى إنها تقبض على الحقيقة الوحيدة المطلقة في هذا العالم، وهي في الوقت نفسه تعمل على مراقبة المنتمين إليها وتوجِّه حياتهم الروحية وبل حياتهم في جميع مناحيها، وتعيد إنتاج البنية الفكرية التي تسيِّر عقول المؤمنين بها، وتجعلهم أكثر قربا من عقيدة دينهم. ومن هنا نظر أحد الباحثين للأديان من "منظور نفسي" عندما اعتبر الأديان مسكونة بالتعصب والنرجسية، التي تتبدى في الإعلان عن أن دينها "هو خير الديانات واعظمها، والمؤمنين بها هم خير المؤمنين على الأرض يمتلكون الحقيقة المطلقة وأسباب الفوز والنجاة" ( ).
ثمة مفارقة أخرى لابد من الإشارة إليها لكونها يمكن أن تُعطِّل أيضا، ليس الحس النقدي في التعليم الديني فحسب، ولكن توقِف أي حس نقدي تماما في المجتمع وفي سائر مجالات الحياة، ألا وهي عدم توفر الإرادة السياسية لدى الطبقة السياسية الحاكمة لتشجيع مثل هذا الدأب، وبخاصة إذا كانت القوى السياسية التي تحكم تستفيد من وضعية غياب النقد المجتمعي، وتجني أرباح المحاصصة وتستفيد من الاستبداد والفساد ونهب الأموال الذي يوفره المناخ القائم. إن هذه الوضعية يمكن أن تشكِّل عقبة أساسية وتحديدا عندما يغيب مشروع مجتمعي متوافق عليه يمكنه أن يؤطِّر جهود الإصلاح ويدفعها للأمام، وعندما تغيب الشجاعة المعرفية والسياسية لدى النخب الثقافية وممالأتها للأوضاع، أيا كانت الدوافع التي تستند إليها في موقفها السلبي هذا، سواء اكانت المنفعة الذاتية التي يحققها المثقف في ظل أوضاع كهذه، أو الارتباط السُّري بالطائفة مخافة أن يفقد هوية بنى عليها مشروعات حياته المستقبلية أو غيرها من أسباب...، حيث ستكون النتيجة واحدة وهي تعطيل كل ما من شأنه أن يدفع بنجاح سياسة تعليمية جديدة تقوم على الحس النقدي.
من هنا لا يمكن الحديث عن أي تقدم إصلاحي يتصل بالدين أو بتعليمه، أو حتى أي اصلاح حقيقي بوجه عام على أي جبهة من الجبهات في المجتمع، دون أن يتكامل مع جملة إصلاحات أخرى ترتبط بالسياسة والتربية والتعليم والصحة والاقتصاد ... وغيرها من مجالات. كما لا يمكن تصور مثل هذا التكامل دون أن يكون مرتبطا بتصور عام بالأهداف المشتركة للدولة الوطنية المرجوة، وبتصور علمي يحدد المشكلات والمصاعب التي تواجهها البلاد في الحاضر، وما يمكن أن تواجهه في المستقبل وما تفترضه من طرق ومناهج يمكن الاستعانة بها، من أجل إيجاد حلول ناجعة لمثل هذه العقبات التي قد تعرقل التقدم المأمول، على أن نعتمد بل ونستلهم في هذه الحلول وقائع العصر ومستجداته، وليس على ما نحمله من دوافع ورغبات.
في حالة مجتمعاتنا يفرض الدين نفسه ويسود في شتى مناحي الحياة، على عكس المجتمعات الحديثة حيث يحتل الدين في عالمنا المعاصر المكانة التي يجيزها له المجتمع، بقدر الحداثة التي لحقت به، فالمجتمعات التي حققت قدر ما من علمانية الدولة وحياديتها، لا يمكن للدين فيها أن يتجاوز الحدود التي قُررت له من قبل، بينما نجد العكس في المجتمعات التي ظلت قريبة من ظروف مجتمعات ما قبل الحداثة (المجتمعات التقليدية)، حيث تتبنى الدولة فيها دينا بعينه وتجعله أحيانا دين الدولة، فيفرض الدين نفسه على المجتمع بل وتتحول الظواهر الاجتماعية في شتى اشكالها إلى ظواهر دينية خالصة، حيث سيتبدى الدين هنا وكأنه قد ابتلع المجتمع المدني والساحة العمومية، وتداخل مع السياسة والاقتصاد والنظم والقوانين والعلوم والصحة والتعليم والفنون... وغيرها، وذلك عندما يرتبط بالزواج والطلاق والميلاد والموت والاحتفالات وكل ما يتصل بحياة الناس ...، وفي ظل وجود طوائف وأقليات عرقية أو لغوية أو دينية، هنا لا يمكن أبدا أن تتحقق المواطنة الكاملة بصرف النظر عن العقيدة أو العرق أو اللون ...الخ.
من هنا ستبرز مشكلات صعبة ومتشعبة، سنحاول التعرض لها في هذه الورقة التي سنبدأها أولا، بالتعريف بموقع الدين وتعليمه في الدولة الحديثة، وبما أن مصطلحا الدولة المدنية والدولة العلمانية كثيرا ما يتم التطرق لهما عند الحديث عن الدولة الحديثة، لذا سيجدر بنا التمييز بينهما، وفي هذا الاطار سنناقش مدى حاجة مجتمعاتنا العربية لأيِّ منهما، ومدى حاجة مجتمعاتنا لإعادة النظر في الخطاب الديني الداخلي لكل طائفة أو دين أو مذهب، وذلك للبدء بحركة إصلاح ديني تنقذهم من الجمود ومن ثم الانتقال من سيادة اللامعقول الديني إلى رحابة العقلانية الدينية. وستمس هذه المحاولة من جانبنا بطبيعة الحال بمشروعية التكوين الديني في هذه الدولة، وأيضا بنوعية المعلمين الذين سيقومون بهذه المهمة وبتكوينهم سواء الديني أو العلمي، ولن يغيب عن معالجتنا تلك المحتوى التعليمي المُقدَّم في هذه الحالة، وبخاصة في ظل اعراق ومذاهب وطوائف وأديان متباينة، ولم تستطع حتى الآن تحديث افكارها ومقولاتها وبالجملة خطابها الديني، أو حتى على الأقل مراجعة أفكارها أو إصلاح ممارساتها، وما زال البعض منها يرفض الآخر المختلف، بل ويعوزه التسامح!!
كما سنهتم في هذه الورقة المُقدمة أيضا بالتناقض الحاصل، بين دور المدرسة والجامعة في الجمهوريات الوطنية الحديثة، ألا وهو إعداد مواطن يشعر بالانتماء للوطن، وليس للأسرة أو العشيرة والقبيلة أو الطائفة، وبالتالي التوقف عند انحصار وظيفتيهما (المدرسة والجامعة) المحددة في المجتمعات الحديثة، والتي تتمثَّل في إخراج التلميذ أو الطالب، من ثقافتيهما التحتية إلى الثقافة الوطنية الاوسع، وربطهما بكل ما يعزز الوحدة والتلاحم بين الطالب وأقرانه على قاعدة المواطنة. ومن ثم سنقف على التناقض الحاصل إذن بين هذه الثقافة التحتية، التي تشرّبها الطالب من أسرته وطائفته، ومازال مشدودا إليها، وبين قيم ووظيفة المدرسة أو الجامعة في الجمهوريات الحديثة.
موقع الدين وتعليمه في الدولة الحديثة:
سبق واوضحنا أن موقع الدين يرتبط دائما بما حققته الدولة من خطوات على طريق الحداثة، ولأن ثمة بعض الغموض الذي يمكن أن يعتري مصطلح الحداثة الذي نستخدمه هنا، سأتوقف قليلا حول المصطلح، حيث إن "الحداثة" التي نقصدها لا تقف عند حدود التعبير عن عصر معين في الغرب أو في الشرق، لأنها -كما نفهمها- قيمة متعالية عن الأماكن والعصور، رغم مطلب حضورها في كل مكان. ومن الناحية الفلسفية هي الموقف الذى يتضمن تصورا للزمن، وكأنه مكان التقدم الأبدي، الذى من خلاله يأتي الجديد ليحل محل القديم الذى بطل وتم تجاوزه. إنها بهذا المعنى مفهوم ديناميكي للزمن، مفاده الاعتقاد في ديناميكية وضعية Positivist للزمن. إنها تلك القناعة بأن الزمن له معنى، وأن هذا المعنى ليس معنى الإعادة المستمرة لنفس الشيء، ولكن معنى الترقي الأبدي للمختلف، وللجديد من خلال عملية مستمرة للتحول، تعتمد معرفيا على العقلانية Rationalité من جهة، ومن جهة أخرى على ميلاد الفرد Naissance de l’individue، أي استقلالية الفرد وتحرره عن القبيلة والعشيرة والطائفة، لكي يتحول من رعية Sujet إلى مواطن Citoyen ( ).
هنا يصبح معنى "حديث" المرتبط ب "الحداثة" متضمنا الاعتقاد في معنى "التقدم" في التاريخ، بحيث يكون هذا "التقدم" دائما ومستمرا للأمام وغير قابل للتراجع Irréversible في كل مستوياته السياسية والاجتماعية والجمالية ( ). وهنا سيمكننا التمييز بين مصطلحي "الحداثة" -كما رأيناه- و "التحديث" الذي نعتبره مُجمل العمليات التي نقوم بها، لإحداث تغيير متقدم لجملة الأنماط والأساليب والوسائل... الخ وبخاصة المادية منها، والتي يعيش بها مجتمع ما، أي امتلاك احدث ما تم انتاجه تكنولوجيا في كل المجالات. بينما تكون "الحداثة" هنا، هي حالة هذا المجتمع الذى حقق التحديث في واقعه المعيش وفي عقلية أبنائه بحيث يمكن القول: إن كل تحديث لا يؤدى بالضرورة للحداثة، ولنا في بعض الدول العربية الغنية مثالا صارخا في ذلك، إذ لديهم أحدث ما وصل إليه العلم والتكنولوجيا، بينما بقيت عقليات أبنائهم تسلك وتفكر بنفس الطرق التقليدية القديمة، بعيدا عن المنطق والمنهجية الحديثة، بينما في المقابل سيمكن القول إن كل حداثة كانت نتيجة أساسية لعملية تحديث ناجحة.
في ظل مجتمع الحداثة وسيادة العلمانية -كما سنرى فيما بعد تفصيلا- يتم فصل الديني عن الدنيوي، وعلى الاخص فصل الديني عن السياسي، والمقدس عن الدنيوي، وعلى صعيد آخر، يصبح هذا الامر تجسيدا لأخلاق ومُثل حرية الضمائر المطلقة، وذلك لكون فلسفة العلمانية تستند إلى النزعة الانسانية والعقلانية، واحترام حرية الضمير، وترتبط حرية الضمير هنا، بحرية الفرد في تطوير أو تغيير أو تعديل معتقداته وافكاره ومذهبه، حسبما يتراءى له أو يختار، أنّ شاء ومتى شاء. وذلك على عكس المجتمعات التقليدية، التي تتداخل فيها بشدة مناحي الحياة (اقتصادية واجتماعية وسياسية ودينية وفنية.. الخ)، لتضمن وحدة ما لوجود شامل الاندماج، لا يبرز فيه أي إشكالية للمعنى، فالمعنى واحد وواضح منذ البداية بحكم النص الديني، كما يرى دُعاة الحداثة، ويبرره الاصوليون بحكم أنه النص الشرعي الوحيد القادر على إدارة حياة البشر.
موقع الدين في مجتمع الحداثة إذن يصبح محددا بدائرته فحسب، باعتباره بُعدا خاصا بالحياة الاجتماعية للفرد الحر، بحيث يصبح الدين مع هيئاته الخاصة به منفصلا ومتخصصا، وهو الأمر الذي يرفضه الاصوليون، الذين يرون بضرورة أن يكون الدين هو المهيمن على حياة البشر في دنياهم، وحتى بعد مماتهم بحكم أنه المرجع المُحكم والوحيد في الدنيا والآخرة. بينما استنادا إلى حرية الضمير في مجتمع الحداثة سيحق لكل فرد أن يدير ويسلك في حياته، ليس تبعا لما يفرضه عليه دين معين ولكن تبعا لما يفرضه عليه ضميره، ويصبح القانون في هذه الحالة هو المعيار، الذي يُقاس عليه مدى مشروعية المسلك الذي اختاره.
من هذا المنطلق جاء في الإعلان العالمي لحقوق الانسان في مادته الثامنة عشرة "لكل شخص الحق في حرية الفكر، والضمير والدين، ويتضمن هذا الحق حرية اختيار الدين أو القناعات، وكذلك حرية إظهار دينه أو قناعته منفردا أو من خلال طائفته سواء في حيز عام أو خاص، وذلك عن طريق التعليم، والممارسات، والعبادات وتحقيق الشعائر" ( ). إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه الآن، في أي نوع من الدول تُرى يمكن تطبيق مفاهيم الحداثة التي تحدثنا عنها، وممكن أن يُطبق فيها الإصلاح التربوي المأمول، وبخاصة أننا نلتقي في الفترة الأخيرة في منطقتنا العربية، بمفاهيم من قبيل "الدولة المدنية" أو "الدولة العلمانية"، فما الفرق بين المفهومين؟ من جهة، ومن جهة أخرى في أي منهما سيمكننا تحقيق المواطنة الكاملة، التي تحقق مساواة أبناء الوطن جميعا بصرف النظر عن طوائفهم وأديانهم وأعراقهم ... الخ؟ هنا سنتوقف للدراسة والتمييز بين المفهومين.
بين مفهومي "الدولة المدنية" و "الدولة العلمانية":
فرضت ثورات الربيع العربي هذا السجال بين المفهومين، والذي عَلى وطيسه بين النخب الثقافية العربية من شتى المشارب والتوجهات السياسية، وذلك على وقع إعادة التفكير في صياغة دساتيرها الجديدة، وطال السجال حقل الصراع الأيديولوجي وبخاصة بين التيارات ذات التوجهات الإسلامية، التي تُعرف بالإسلام السياسي، وبين التيارات العلمانية سواء الليبرالية أو اليسارية منها، وكل منهما يبحث عن تجسيد تصوراته السياسية على أرض الواقع الجديد لبلاده، على اعتبار أنه قد ناضل من اجل اندلاع هذه الثورات وقد حان وقت الحصاد، ليقطف ثمرات زرعه فيقيم الدولة التي طالما حلم بها وناضل من أجل تحققها، مستبعدا من مجال نظره الرؤى الأخرى والفصائل الأخرى التي شاركته النضال.
في مجال تعريف المفهومين سنجد أن البعض يطابق بينهما، بينما يرى فريق ثان اختلافا تاما بينهما في المحتوى، ويرى فريق ثالث أن بين المفهومين ثمة تشابهات واختلافات في الوقت نفسه، ويميل كل طرف بطبيعة الحال إلى المفهوم الذي يروقه سياسيا، حيث يتبنى الليبراليون واليساريون والتقدميون عموما مفهوم "الدولة العلمانية"، بينما يتبنى مفهوم "الدولة المدنية" التيارات الإسلامية عموما وبخاصة تيار الإسلام السياسي، الذي يرى في عناصر التصور الإسلامي للدولة تطابقا تاما مع مفهوم "الدولة المدنية"، الأمر الذي صنع سجالا وصراعا لم ينته حتى اليوم في حقل المواجهات الأيديولوجية الحادة، التي ميزت طبيعة هذه المواجهة بين فرقاء هذه التيارات .
في خضم هذا الصراع بين الفرقاء يصر كل فريق على خياراته، وقد نشط التيار الديني في تشويه مفهوم "الدولة العلمانية"، وهو الأمر الذي لاحظه الباحثون حيث يقول احدهم: أن "العلمانية من أكثر المصطلحات السياسية إثارة للجدل، ولا سيما من قبل التيارات الاسلاموية المسيسّة، ويشوب هذا المفهوم الكثير من الغموض واللبس والتضليل، حيث تكثر النعوت التي يطلقها هؤلاء على العلمانية من إلحاد وكفر ولا دينية ومادية، وغير ذلك من المغالطات والفهم الخاطئ والناقص" ( ). وبطبيعة الحال جاء هذا التشويه داخل مجتمع ينتشر فيه الجهل والامية، بقدر جعل بعض رموز التيار العلماني نفسه، يتراجعون عن مفهومهم لصالح مفهوم "الدولة المدنية"، الذي وجدوه أكثر قبولا واستجابة في الشارع العربي، في ظل سيادة الاتجاهات الشعبوية والدينية، وقد ابقى بعضهم على محتوى المفهوم ومضمونه، بينما لم يهتم البعض الآخر بذلك.
الدولة المدنية:
يرى البعض أن مفهوم "الدولة المدنية"، وهي على عكس الدولة الدينية أو العسكرية، يتشابه مع مفهوم "الدولة العلمانية" في أكثر من جانب، من حيث عدم معاداة الأديان وعدم خلط الدين بالسياسة، وسيادة الديمقراطية، أو من حيث المساواة في حقوق المواطن وواجباته أو حتى من حيث حريته في ظل أجواء من الثقة المتبادلة وقبول التعددية والعيش المشترك والتسامح. ومن هنا لا يمكن أن تتم التفرقة بين المواطنين على الاطلاق على أساس الجنس أو العرق أو مكان النشأة أو الدين أو الموقع الطبقي والاجتماعي ... الخ ( ).
في حقيقة الأمر وبتلك النظرة الأولى لا يمكن ملاحظة أي فرق على الاطلاق بين مصطلحي "الدولة المدنية" و "الدولة العلمانية"، وبخاصة عندما نعلم أن من يصرون على مدنية الدولة يتفقون فيما بينهم، بأنها دولة سيادة القانون، وعلى أنها دولة تمثِّل إرادة المجتمع، وبأن نظامها المدني يضمن الحريات والعدالة والمساواة، ويقبل التعددية والآخر المختلف، وأن المواطنة فيها هي أساس الحقوق والواجبات المكفولة للجميع، وأن الديمقراطية فيها تضمن تداول السلطة بالانتخاب العام والحر.
على الرغم مما سبق ومع التدقيق ستبرز الاختلافات بين المتمسكين بالدولة المدنية، عندما يضيف البعض منهم على سبيل التعميم "دولة مدنية بمرجعية دينية" أو على سبيل التخصيص "دولة مدنية بمرجعية إسلامية"، وذلك بحجة أن هذه المرجعية ستعبر عن هوية الامة وحضارتها. هذه الضبابية حدت بأحد الباحثين على وصف المصطلح بالكيفية السابقة، بأنه "فضفاض ومشوش مما يسمح بالتضليل والتلاعب" ( ). ولكي نضع اليد على ما هو جوهري من فروق بين المصطلحين، سيجدر بنا الآن أن نتوقف عند مصطلح الدولة العلمانية لنتعرف عليه بشكل أكثر تفصيلا.
الدولة العلمانية:
تعني العلمانية من الناحية السياسية: المبدأ الذي من خلاله لا يمكن للدولة أن تُمارس أية سلطة دينية، وبالمقابل لا يمكن للهيئات الدينية أن تُمارس أية سلطة سياسية، كما تعني العلمانية من الناحية الفلسفية: الموقف الذي يتضمن الاحترام الكامل لحرية الفكر والضمير لكل فرد -كما سبق واوضحنا-، كما أنها موقف يمنع كل شكل من اشكال التعصب فيما يتصل بالأديان أو الفلسفات أو الاعتقاد ( ). ومصطلح العلمانية Laïcité مُستقى من الكلمة اليونانية Laikos، التي تعني ما يخص الشعب ( )، ولعل المعنى في المسيحية مُستقى أيضا من نفس الجذر، إذ تعني علماني في المسيحية عدم الانتماء للإكليروس. إلا اننا نخلط في اللغة العربية غالبا بين مصطلحين يعبران عن عمليتين تترجمان دائما بالعلمانية: الأول هو Laicisation العلمنة ( )، بمعنى عملية الفصل بين المجالات المختلفة، ومن بينها الدين والسياسة، وهو الجزء الذي اشتهر وتم التركيز عليه من المصطلح، بينما الثاني هو Sécularisation "الدنيوة" ( )، الذي يعني وحده، فصل الديني عن الدنيوي. من هنا ستُعتبر العلمانية، التي تقوم على حرية الفرد، هي إحدى دعائم الحداثة في الغرب، وهي أيضا على عكس المجتمعات التقليدية، كما سبق وأشرنا عندما حددنا موقع الدين في المجتمع الحديث.
وما يجعل العلمانية ( ) حريصة على حرية الفرد أنها ترعرعت فلسفيا على فكر التنوير الذي اعتمد على ميلاد الذات الإنسانية، باعتبارها المصدر الوحيد للمعارف والقيم، وقطع مع التصورات الدينية للكون والعالم ففصلها عن المجتمع وعن ساحته العمومية، وذلك عندما تم الفصل بين الشأن العام والخاص، فاصبح الاعتقاد الديني أو حتى الالحادي ينتمي إلى الشأن الخاص بكل فرد، ومن ثم لم يعد للمرجعية الدينية أي تأثير على الشأن العام، في ظل ضمان وحماية الدولة لحرية العبادة لجميع مواطنيها من كافة الأديان والمعتقدات، الأمر الذي تتحقق معه المساواة الكاملة للجميع مهما كانت اعتقاداتهم مع احترام الدولة لحرية الجميع، وهو ما يضمن حرية الضمير لكل فرد، الوضع الذي يحقق المواطنة للجميع وبشكل كامل.
خلاصة القول ستعني العلمانية إذن كما يرى أحد الباحثين: "الحياد الايجابي للدولة إزاء الاديان والمذاهب والطوائف والفرق الدينية الموجودة في مجتمع ما، وبخاصة في المجتمعات التي توجد فيها أقليات دينية كبيرة وفاعلة ومؤثرة.. وتعني العلمانية، بالتالي، الاستقلال النسبي للمجتمع المدني عن التحكم الرسمي به وبحياته العامة ومعاملاته ومبادلاته وفقا لمبادئ دين (أو مذهب) الاكثرية وعقائده وشرائعه.. كما تعني المساواة بين المواطنين جميعا أمام القانون بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو الإثنية، كما تعني صيانة حرية الضمير والمعتقد للجميع" ( )، وبهذا المعنى لا تعادي الدولة الدين، ولكن تمنع أن يوظَّف الدين لأغراض سياسية سواء من قِبل الدولة نفسها أو من قِبل أي فصيل سياسي، لتبرير سياساته باسم هذا الدين.
بين الدولة المدنية والدولة العلمانية:
نستخلص مما سبق أن ثمة اختلافات أساسية تظل بين الدولتين: ففي إطار الدولة المدنية لا يمكن أن تسود المساواة الكاملة بين جميع مواطنيها، وذلك من جهة لتحفظها تجاه الايمان بعقائد أخرى غير المحددة في قاموسها، مثل البوذية أو الهندوسية والكونفشيوسية والطاوية... وغيرها، وحتى الالحاد أو عدم الايمان، ومن ثم غياب حرية الضمير التي تضمنها الدولة العلمانية، ومن جهة أخرى لإمكانية ارتباط القوانين والتشريعات بالدين في الدولة المدنية، وهو الأمر الذي تخلت عنه تماما الدولة العلمانية، بعد أن نزعت عن القانون كل ما يمكن أن يجعله مقدسا لا يمكن المساس به، وبعد أن فرضت مدنية التشريع وفقا للتوافقات السياسية. ولأن ثمة تعددية دينية في مجتمعاتنا العربية، ستختلف التشريعات إذن تبعا لدين معتنقيها من المواطنين، مما يُغيب فكرة المساواة الكاملة أمام القانون في ظل هذا التعدد، وإذا اضفنا إمكانية أن تغيِّر الأغلبية المنتخبة القوانين والتشريعات تبعا لتوجهاتها في كل مرة، هنا سندرك حجم انعدام المساواة وتراجع المواطنة الحقيقية في الدولة المدنية.
ولعل اهم اختلاف يظل بين الدولة المدنية والدولة العلمانية هو قانونية الفصل بين كل من الدين من جهة وبين السياسة والعلم من جهة أخرى، وهو فصل تقوم قانونيته الوضعية على العقل الإنساني، وهو ما يغيب عن الدولة المدنية التي يمكن أن تقبل بوجود أحزاب دينية، الأمر الذي سيمنع فصل الدين أيضا عن التعليم وهو ما سيؤثر بالسلب على حرية تفكير العلماء والمثقفين والفنانين، عندما يتدخل الدين أو حتى تتدخل السياسة في حرية التفكير والابداع، وهو ما لا يمكن أن نجده في الدولة العلمانية، التي تحدد وظيفة الدولة برعاية مصالح مواطنيها الدنيوية فحسب، بينما تتحدد وظيفة الدين في خلاص نفوس المؤمنين به في الآخرة، كما لاحظ ذلك الفيلسوف الإنجليزي جون لوك.
في ضوء ما سبق يمكن القول أن الدولة المدنية، رغم أنها متحققة جزئيا في بلداننا العربية غير العسكرية إلا في النادر، وهي تسمح بأن تلعب الطوائف والمذاهب والأديان دورا محوريا في المجتمع، هذه الدولة لم تفد ولا يمكن أن تفيد مستقبلا مجتمعاتنا العربية، التي تعج بالقوميات والمذاهب والاعراق والطوائف والأديان ... الخ، وذلك إذا أردنا بالفعل أن يسود مبدأ المواطنة فيها، ولعل السبب في ذلك أنها ظلت مجتمعات تقليدية عتيدة، قاومت مشاريع النهضة والحداثة عبر العصور الحديثة، وغلَّبت مصالح الطوائف والمذاهب على حساب المصلحة الوطنية، وهو الامر الذي تؤكده المشاهدات الحية المعاصرة كما يؤكده التاريخ عبر القرون الأخيرة، وبخاصة عندما أصبحت مصطلحات قاموسنا السياسي غير محددة أو منضبطة، مما جعل التطبيق فضفاضا وكثيرا ما خرج في الغالب عن نص الصياغات النظرية الموضوعة أو المحددة سلفا، حتى وإن كانت قد صيغت بموضوعية.
يبقى المطلب المعقول إذن هو تحقيق دولة مدنية علمانية إذا أردنا، أو الاقتصار على تحقيق الدولة العلمانية فحسب. ولأن التعليم يرتبط بالأهداف التي تضعها الدول على رأس أولوياتها لتنفيذ خططها المستقبلية، فلا غرو من أن نجد المحتوى التعليمي قد سار نحو تأكيد هذه الأهداف وإعادة انتاج ما يكرسها على المستوى النظري والعملي معا، ولكي نضع أيدينا على شكل التعليم في كلتا الدولتين (المدنية والعلمانية)، سيجدر بنا أن نلقي بنظرة على الأهداف التي تتوخاها كلتاهما، ومن ثم عملهما على وضع مواد دراسية تهدف إلى تحقيق وتأكيد السياسات العامة المتبعة، إما في تثبيت الأوضاع القائمة التي تتفق والمصالح التي تحرص عليها، وإما إلى التغيير الجذري بقلب الأوضاع التي لم تعد توائم التطور المجتمعي القائم.
بين اهداف التعليم الطائفي والتعليم الوطني في الجمهورية:
يختلف التعليم حسبما اسلفنا تبعا لطبيعة الدولة وأهدافها، وإذا ما كانت الدولة هي التي تعلي من شأن الطوائف والمذاهب الدينية، فمن الطبيعي أن نجد أن تعليمها قد تمحور حول هذا الامر، بحيث يقوِّي، ما يحتويه المنهج الدراسي من مواد، من سلطة الطائفة على الافراد، وذلك بانتقاء ما يعزز هذه السلطة ويؤكد مشروعيتها واستبعاد ما يتشكك في جدواها واهميتها، أو على الأقل نقل الحديث عنها إلى دائرة المسكوت عنه. وهنا يتعمق ولاء الفرد لطائفته وتسود الخصوصية الثقافية للطائفة على حساب الوطن والانتماء إليه. وفي ظل هذه الأجواء حيث تتعاظم الحساسيات الطائفية، يفرض هذا النظام على المناهج الدراسية، كثير من التسويات والتوفيقيات المفتعلة بلا أي منطق واضح، فيغطي بذلك على متناقضات الطوائف ذاتها المتصلة بالدين أو المذهب أو العرق أو حتى السياسة، مما يضيِّع الحقائق ويشوِّه العلم ويعمِّق الانقسام المجتمعي.
في المقابل يسعى التعليم الوطني العلماني في الجمهورية الحديثة تبعا لأهدافه الوطنية المعروفة، إلى أن يعمِّق في برنامجه التعليمي مبدأ الولاء للوطن وحده، وإلى أن يصبح هذا الولاء الوطني من أولويات الافراد وأن يعلو على ما هو غيره من ولاءات أخرى، وذلك بتكريس المشترك الوطني بين الجميع وعلى كل المستويات: التاريخي والجغرافي والإنساني والاقتصادي والاجتماعي، الامر الذي يهدف إلى تعزيز الوحدة الوطنية وتكريس المشترك الإنساني والوطني بين كل المنتمين للوطن، تكريسا لشعار "الدين لله والوطن للجميع" الذي رفعه قادة النهضة الفكرية في ثورة عام 1919 في مصر، ردا على السياسة الاستعمارية التي حاولت الإيقاع بين الاقباط والمسلمين.
إذا ما كان ثمة ضرورة في التعليم بوجه عام في أن يشتمل محتواه الدراسي، على ما يكرس الأهداف الوطنية والولاء للوطن دون غيره، فما بالنا إذن إذا ما انتقلنا إلى التعليم الديني، وبخاصة أن الطوائف المختلفة هي ما احتكرت هذا التعليم على الدوام، وهي التي عملت في الماضي وحتى اليوم على تكريس التباعد والتمايز بينها وبين الدولة، وغرست في نفوس اتباعها التفوق والسمو على الأديان والمذاهب والطوائف الأخرى، وبالتالي كرَّست الأجواء للطائفية والابتعاد عن المشترك الوطني. وإذا اضفنا إلى ما سبق حقيقة أن هذه الطوائف والأديان، لم تستطع وحتى اليوم تحديث أو حتى مراجعة اطروحاتها وافكارها، وأكثر من ذلك يعوز البعض منها التسامح وقبول الآخر المختلف، هنا سندرك حجم الكارثة إذا تُرك لهؤلاء أو حتى أُسند إليهم مواصلة تعليمهم الديني على النحو الذي أفرز الازمة، دون عملية إصلاح ديني حقيقية ننتقل فيها من لامعقولية الدين إلى عقلانية دينية تستجيب للواقع ولمتطلبات العصر.
الانتقال من اللامعقول الديني إلى العقلانية الدينية:
هذا الانتقال ليس سلسا ولا بسيطا لكونه يتطلب استعدادات وشروط، يصعب على المجتمعات القبول بها أو الإذعان لها تلقائيا أو بسهولة، لأنها ستتضمن غالبا كثير من الرفض والصراعات الداخلية، بين الأطراف المحافظة والمدافعين عنها من جهة، في مقابل الأطراف المنفتحة على الجديد وعلى العقلانية من جهة أخرى. وسنشهد بطبيعة الحال نفس السجال والصراعات، ليس داخل الطائفة الضيقة فحسب ولكن سيمتد الصراع حتى على المستوى الوطني الاوسع، ودائما بين المحافظين من كل الطوائف والأديان الذين سيشكلون معارضة قوية وضروس، أمام المؤمنين بضرورة التغيير وحتمية هذا الانتقال، وستكون المواجهة هنا بين انصار اللامعقول الديني الذي يقر بقصور العقل الانساني عن فهم المقدس الديني، والذي إذا جاز له أن يستخدم العقل فلن يستخدمه إلا في تبرير مرتكزات دينه، في مواجهة من يستهدفون دراسة وتدريس الدين بعلوم الأديان العقلية، التي تدفع بالنشأ من الطلاب إلى استخدام ادواتهم العقلية بتطبيق مناهجهم العلمية الصارمة وفكرهم النقدي، على النصوص الدينية وإعادة اكتشافها وتفسيرها على ضوء علوم ومكتشفات العصر.
تكمن صعوبة الانتقال هنا في ضرورة توفر المناخ الملائم لإحداث اختراقات مجتمعية عميقة، تمهد بل وتكرِّس لقبول إصلاح ديني حقيقي، وهذا لن يتأتى إلا بشجاعة الأطراف الفاعلة في الدولة سياسيا ومدى إيمانها بأهداف التغيير وضرورته، وكذلك بمدى توفر قدر كبير من الإرادة والشجاعة السياسية لدى الأطراف المختلفة (أحزاب ونقابات وجمعيات ونخب ثقافية... وغيرها) الفاعلة على الساحة المجتمعية، بحيث تتمكن من تخطي كل ما يمكن أن يعيق الانتقال المأمول من اللامعقول الديني إلى العقلانية الدينية، والتي يمكن أن تتمثل في الخلط المستمر بين الديني والدنيوي، وحصر العلم الحقيقي في العلم الديني دون أدنى اهتمام بالعلم الوضعي، إضافة إلى رفض مقاربة النصوص الدينية علميا ومنهجيا بطريقة عقلانية، وهي مصاعب حقيقية يمكنها أن تحد من قدرتنا على انتاج كل ما هو جديد يتفاعل مع مستجدات العصر، وتعمل في صالح تكريس الأسئلة القديمة واجاباتها الجاهزة الصالحة دوما مهما تغير الزمان والمكان، والتي يمكن أن تسرِّع بنا بدغمائيتها إلى حافة الإفلاس الحضاري .
لا يتم الانتقال المنشود إذن من اللاعقل إلى العقل، إلا بصيغ وأساليب مبتكرة لا تعتمد على الطرق العتيقة التي افرزت وكرَّست اللامعقول في حياتنا، ولن يتأتى ذلك إلا بالتفاف جهود القوى المجتمعية على مشروع مجتمعي حقيقي من اجل دولة تسعى لتحقيق اهداف وطنية لجميع مواطنيها، وتعتمد اصلاحا حقيقيا يقطع مع القديم لإعادة تأسيس الدولة ذات التوجه الوطني وليس الطائفي، الأمر الذي سيقتضي إيجاد طريقة جديدة للتعامل مع الأديان الموجودة على الساحة، تقطع مع تراثها اللامعقول بعقلنة هذه الأديان ذاتها، وذلك بالامتناع عن قبول إلا ما يقبله العقل وبخاصة فيما يتصل بالأنشطة والممارسات العامة فيما بين الافراد (المعاملات). وهنا لابد من الإصرار على مقاربة النصوص الدينية بمعزل عن المقاربات الحرفية الجامدة، التي تشل الفهم وتوجهه نحو نفس المفاهيم العتيقة التي نريد تجاوزها، لذا سيجدر تغيير نوع المقاربة هذه المرة بمقاربات جديدة قادرة على تأويل النص الديني، وفك شفرة رموزه، والنظر إليه وتحليله داخل سياقاته التاريخية، حيث يمثِّل الدين البعيد عن دائرة العقل خطورة كبيرة على المجتمع عندما يتحول إلى الخرافات أو الإرهاب، ومن هنا تأتي ضرورة إحداث اختراق حقيقي في المحتوى التعليمي، والدعوة لخطاب ديني مستنير بمساندة إعلام يقطع مع البلاهة والخرافة ويؤكد على المعقول الديني.
مشروعية التكوين الديني في الدولة العلمانية؟
بعد العرض السابق سيجدر بنا طرح السؤال هل من مشروعية بعد ذلك لتكوين ديني في الدولة العلمانية؟ وإجابة السؤال تبدو بالسلب تماما بعد أن أوضحنا طبيعة الدولة العلمانية. لكن في ظل أوضاع مجتمعاتنا العربية الحالية ذات الأوضاع الضبابية، حيث إن الدولة ليست مدنية أو علمانية لكونها خليطا غير واضح المعالم، تتخاطفها الأطراف المختلفة وتخلع عليها ما يروق لها من مسميات لتأويل ما جاء بنصوص الدساتير لحساب توجهاتها. هنا سيصبح الإصرار على إجابة إيجابية هو محاولة إضفاء شرعية ما على هذا الأمر، وربما ستكون إجابة تعسفية أو مفتعلة عن مشروعية التكوين الديني في الدولة التي نعيش فيها. ومع ذلك ثمة أهمية لهذا الأمر لظروف مجتمعاتنا من جهة ولاستمرارية هذا البحث من جهة أخرى، سيمكن القول إذن أنه على الرغم من أنه أمر غير منطقي إلا أنه إجراء واقعي لابد منه، مما سيجرنا إلى جملة من الإجراءات الأخرى التي بدونها لا يمكن أن تنجح أي محاولة في هذا السبيل، ومن ضمنها تغيير محتوى التعليم الديني نفسه وأهدافه ومناهجه التربوية، حيث لا يكون الهدف من تدريس الدين هو التعبُّد وجعل الناس يؤمنون بالدين أو بالمذهب، على الطريقة المقدمة في شرح المقرر الديني، ولكن بهدف الفهم والاستيعاب والنقد، على أن يرتبط كل هذا بمخرجات تربط الطالب بوطنه وبمواطنيه.
واقع التعليم الديني في عالمنا العربي:
لاحظ بعض الدارسين
نوعية المعلمين الذين سيقومون بهذه المهمة:
إذا ربطنا بين التعليم الديني وضرورة أن تكون المواطنة إحدى مخرجاته الأساسية، فسنقابل المعضلة الأولى التي ستتمثَّل في نوعية وطبيعة المعلمين ممن سيقومون على هذا الأمر، وبخاصة أن هؤلاء قد تم تأهيلهم تحت سمع وبصر ممثلي اديانهم وطوائفهم، في معية الأفكار والممارسات والعادات والتقاليد والطقوس والذكريات السائدة لديهم، أي أنهم تربوا وفق ما نطلق عليه ثقافاتهم التحتية (أي ثقافة الطائفة التي جاءوا منها)، فهل يستطيع مثل هؤلاء التخلي ببساطة عما نهلوه وتربوا عليه لمدة عقود، وتعوُّدوا على أن ما تعلموه في شريعتهم هو الحق المطلق، وهم وحدهم الذين يمتلكونه دون الطوائف الأخرى؟
من هنا نجد أنه إذا كان ولابد من القيام بمهمة التعليم الديني، فيجب أن تُمارس هذه المهمة بعيدا عن الطوائف ورجالاتها، وبعيدا عن أي اختيارات شخصية، والاجدر الإقرار بأنه لا مناص أولا من تأهيل بعض أبناء الأديان والطوائف المختلفة، من المؤمنين بضرورة الخروج من دائرة الطائفية، حيث يتم اختيارهم بعناية وبمعزل تماما عن طوائفهم، من طرف اللجان القائمة على التعليم في الدولة، فيكون الاختيار على أساس اختبارات تُجرى بدقة وتجرد، لتحدد مدى التسامح الذي يتمتع به كل من تم اختيارهم، ومدى انفتاحهم على الجديد والمختلف، ومدى اقتناعهم بأهمية مهمتهم المقدسة في تنشأة جيل جديد قادر على تمثُّل قيم الجمهورية. ولعل الاحداث التي مرت ببعض دولنا العربية أخيرا برهنت بما لا يدع مجال لأي شك على وجود هؤلاء، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، عندما تضامن افراد من طوائف عدة متباينة الأديان والمذاهب اثناء ثورات الربيع العربي، ولعل انتفاضة الشباب اللبناني الأخيرة تؤكد ذلك.
في ظل هذا يتم التركيز على أن قيم الجمهورية تُعلي من شأن المواطنة بصرف النظر عن الجنس أو العرق والطائفة أو الدين أو اللغة أو اللون ...الخ، ويتم وضع خطط وبرامج تأهيل لمن وقع عليهم الاختيار، وذلك بعد اختيارهم بعناية، ولابد وأن يتضمن محتوى ما سيتعلمونه في تأهيلهم الديني كل الآراء والمذاهب المتعارضة، مع إعمال العقل والنقد فيها، وأن يشتمل كذلك على كم كبير من نظريات العلم الحديث، كنظرية التطور والبيج بانج والنسبية والكوانتم، ونظريات التحليل النفسي، إلى جانب الفلسفة وتاريخ وسوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الأديان وعلم النفس الديني، مع الاعلاء من قيمة المنطق والتصورات العقلية في هذا التأهيل، حتى نضمن بذلك ألا تتسرب الثقافات التحتية بصورة أو بأخرى إلى طلابهم في المستقبل.
المحتوى التعليمي الذي يمكن أن يُقدَّم في ظل الثقافات التحتية:
مع وجود عدد كبير من الأعراق والمذاهب والطوائف والأديان المتباينة داخل الساحة الوطنية، يكون المحتوى التعليمي في أشد الحاجة إلى ما يمكن أن يجند أبناء الوطن الواحد، ويدفع بهم إلى غايات وطنية مشتركة، أي نحو ما يمكن أن يُجمِّعهم ولا يفرق بينهم. من هنا تأتي أهمية المدرسة والجامعة في المجتمعات الحديثة، فإذا كان دور الاسرة مهما بشكل عام في تربية الفرد، إلا أنها في مجتمع يقوم على الطائفية لن تُعلِّم سوى ثقافتها الخاصة (الثقافة التحتية) التي ستُعمِّق الهوة بين شرائح المجتمع الوطني، بل وستكرِّس الانقسام بين طوائفه وافراده.
من هذا المنطلق يصبح دور المدرسة والجامعة هنا أكثر أهمية، في تربية الفرد والعمل على تحضره علميا واخلاقيا، وليس بمعنى إخراجه من حالة الطبيعة الحيوانية إلى حالة الثقافة أو الحضارة الإنسانية حسب تعبير توماس هوبز فحسب، ولكن بهدف الارتقاء بالفرد اجتماعيا عندما يتخطى الطائفية، وتتم مساعدته على الاندماج داخل مجتمعه الوطني بالعلم والثقافة. إذ يتعلم في البداية القراءة والكتابة والحساب والرسم، بعدها يرتقي إلى تعلم منهجية التفكير والتحليل والاستنتاج والنقد ومن ثم الابداع، داخل هذا الحيز المسمى المدرسة والجامعة.
هنا لابد وأن يرتبط هذا التعليم الحديث بالإنتاج والعمل، داخل الوطن الواحد لتعزيز الانتماء الوطني، حيث تصبح المدارس والجامعات في هذه الحالة مصانعا لإنتاج وتأهيل إطارات الدولة الوطنية الحديثة الخالية من الطائفية: من أطباء ومهندسين وتقنيين ومعلمين وقضاة مدنيين وعلماء في شتى المعارف والمجالات ... الخ. يصب دور المدرسة إذن في نمو الفرد والمجتمع على السواء، عن طريق ما تقدمه من أنشطة مع تواجد الاخصائي النفسي والاجتماعي للتعامل مع شتى اهتمامات الطالب وليس الجانب التعليمي فحسب، فيتعلم ضبط النفس والسلوك والتحكم في انفعالاته.
إلى جانب المدرسة ستعمل الجامعة على نقل وإنتاج المعرفة بهدف تنمية المجتمع، وهي وظيفة التعليم المنوطة بها بنقل المعرفة إلى طلابها، وإنتاج هذه المعرفة من خلال اسهام الأساتذة في البحث العلمي، لتنمية المجتمع الذي تتواجد فيه الجامعة. وهذا ما دعا اليونسكو إلى ربط الجامعة بهذه الأهداف الثلاث التي تعمل دوما على تحقيقها، ألا وهي التدريس والبحث وخدمة المجتمع، وذلك باعتبارها المؤسسة الرئيسة التي تعمل في حقل التغيير الاجتماعي والتنمية، فإلى جانب تكوينها للعمالة المؤهلة فهي تقوم بعمل أبحاث تتراكم في اطار مؤسسي ومنظم، لتساهم في تحقيق اهداف المجتمع في التقدم والازدهار.
لكن الأمر في حالتنا تلك سيتطلب إضافة هدف رابع على اهداف اليونسكو للجامعة، ألا وهو المساهمة الفعالة في كسر حلقة الانعزال والطائفية، وتكريس أجواء الوطن الواحد الذي ينتمي إليه الجميع، بصرف النظر عن العرق أو اللغة أو الدين أو الطائفة والمذهب. وهنا تنشط المدارس والجامعات معا في المساعدة على الاندماج الوطني والاجتماعي للفرد، مما يسهم في تعزيز وتنمية اقتصاد الوطن، ورفع وعي الطلاب الوطني السياسي، وفي تنمية قدرات وخبرات الافراد من أجل تنمية مستدامة لبلدهم ولمواطنيهم، وفي تسهيل العيش المشترك بين جميع مكونات الوطن لخدمة الأهداف الوطنية الجامعة، وفي احترام الاختلاف باعتباره تميز وثروة وطنية، وفي تحفيز العمل الجماعي بين أبناء الوطن الواحد من كل المشارب والطوائف معا ودون تفرقة، وكل هذا مع استقلالية الشخصية وتكريس الاعتماد على النفس ( ).
المحتوى التعليمي:
هنا سنصل إلى المحتوى التعليمي الذي لابد وأن يشمله برنامج التعليم المطروح، والذي لابد وأن يرتبط بالأهداف العامة لمركزية بناء دولة وطنية، تعمل على إعلاء الولاء للوطن وليس للطائفة -كما اسلفنا-، وتغليب المصلحة العامة على حساب المصالح الفئوية الضيقة، ومن ثم اقتراح مواد دراسية تحقق الأهداف المرجوة:
أولا: مواد ذات طبيعة علمية وعملية محددة ومرتبطة بالوطن من قبيل: الجغرافية التي ستقدم حدود الوطن وطوبوغرافيته من جبال وانهار وبحيرات، وثرواته الجيولوجية والمعدنية، ومناخه ومناطقه الطبيعية والسياحية... الخ وتاريخ الوطن القديم كالفرعوني في مصر، والفينيقي في لبنان، والبابلي في العراق... الخ، وكذا تاريخ البلاد الحديث الذي يسرد وقائع مقاومة الاستعمار والجوائح والكوارث العامة وإبراز تعاون وتضامن أبناء شتى الطوائف الوطنية في هذه المقاومة، باعتبار أن هذا التاريخ قديمه وحديثه هو القاسم المشترك الذي يمكن أن يجمع بين أبناء الوطن الواحد، وتُضاف التربية الوطنية التي تركِّز على الانتماء الوطني، الذي يجمع بين كل الفرقاء رغم انتماءاتهم الدينية والمذهبية المختلفة، مشددا على نضالهم المشترك عبر العصور، واضعا نصب اعينهم التحديات المعاصرة التي يواجهها الوطن وتقتضي تضافر جهود الجميع لتخطيها.
ثانيا: مواد ذات طبيعة نظرية وعامة وإنسانية، مثل مقرر حقوق الانسان، الذي يتم التركيز فيه على طبيعة الحقوق الإنسانية العامة، الصالحة لجميع البشر بشكل عام بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو العقيدة أو المذهب الديني أو الطائفة أو حتى المكان، واكتساب الانسان لهذه الحقوق بمجرد انسانيته، وهي حقوق يدافع عنها العالم تحت قبة الأمم المتحدة، بعد أن وقعت عليها الدول. إضافة إلى تدريس الفلسفة التي تعتبر أساسا موضوعيا لفهم الدين والحياة من جهة وإنتاج الحكمة فيهما من جهة أخرى، إذ تعلم الفلسفة النظرة الكلية في مقاربة الظواهر، والتسامح الفكري مع المخالف في الرأي، والتحليل العميق للمواقف والنصوص، ولذة الاكتشاف والفضول المعرفي والتساؤل واحترام الحياة. والاهم هو تعليمها للفكر النقدي اللازم لأي مقاربة تاريخية في نقد الظاهرة الدينية، والتصدي الفكري لدعاة الغلو والإرهاب على أسس متينة.
ثالثا: علوم الأديان:
أ‌- تاريخ الأديان المقارن، الذي من شأنه أن يجعل الظاهرة الدينية قابلة للفهم تاريخيا وعلميا وكيفية تكونها، عندما يسلط الضوء على تطور الظاهرة الدينية بتطور المعارف البشرية، وذلك بربطها بحاجات البشر المتغيرة على مر العصور، ومن خلاله يفهم الطالب أن الشعائر والرموز والعقائد، التي نراها في الأديان الحالية قد تطورت عن شعائر ورموز وعقائد قديمة انقرضت كالفرعونية والبابلية والفينيقية وغيرها...، مما يدفعه إلى الاعتدال وإلى الاستنارة الايمانية، ويخفف في الوقت نفسه من التدين المتزمت والتطرف والعنف، باسم حقيقة وحيدة مطلقة يمتلكها وحده. كما يمكن في هذا الحيز أيضا إعطاء فكرة موضوعية عن العقائد والأديان، التي تعيش جنبا إلى جنب على ارض الوطن وتدريس تاريخها بحيادية تامة.
ب‌- السوسيولوجيا الدينية، التي ترى أن الدين ظاهرة اجتماعية ومن ثم فهو موضوع للبحث والتحليل العلمي، وبأنه مرتبط بالتكيف مع المتغيرات التاريخية وإلا سيصبح عقبة امام التطور المجتمعي. كما تكشف أيضا عن ارتباط تعاليم ونصوص الأديان بسلوك المؤمنين بها، فتقوم بتحليلها وتقيس مدى تأثيرها عليهم، كما تكشف عن الأهداف التي تسعى القوى الاجتماعية وفاعليها للوصول إليها عن طريق توظيف الدين، وتعري نسبية الفهم في قراءة النصوص التي يغلف فيها كل طرف المصالح التي يعمل من أجل خدمتها. الأمر الذي يمكنه أن يمهد لخلق مجال عام لممارسة القيم المشتركة بين المواطنين من كل الأديان والطوائف.
ت‌- الأنثروبولوجيا الدينية، وهي التي يمكن أن تخفف من الغلواء الديني، عندما تربط النصوص الدينية بالبيئة الثقافية التي اوجدتها، فتكشف عن نسبيتها وتغيرها تبعا لعقليات وحساسيات وأسلوب حياة المؤمنين بها، وظروفهم الآنية المتغيرة، والتي تبين أن نص ما يمكن أن يبطل مفعولة إذا كانت حاجات البيئة الجديدة قد تجاوزته، وأن التمسك به يصبح جمودا وعبئا لتجاهله للتغيرات التي استجدت في الزمان والمكان.
ث‌- علم النفس الديني، يبرز هذا الفرع من علوم النفس البعد النفسي للظاهرة الدينية، التي يراها تقوم على الاسقاط الذي يحوِّل حاجة البشر المؤقتة في طفولتهم إلى الحماية والحب المتمثلة في صورة الاب، إلى حماية دائمة تساعده على مواجهة الصعوبات والشدائد والمحن، الامر الذي دفع القبائل البدائية إلى إطلاق مصطلح الاب على الإله، وهو علم يمد دارسيه بالمناهج التي تمكنه من فهم وتأويل الرموز الدينية، فعلى سبيل المثال يفسِّر علم نفس الأعماق "الشيطان"، بأنه رمز يحيل إلى اللاشعور مخزن الغرائز العدوانية والرغبات الجنسية المكبوتة.
ج‌- الفيلولوجيا، حيث تعلم الفيلولوجيا التحقيق والتحليل النقدي والفهم الموضوعي للنصوص الأسطورية والأدبية والدينية للحضارات القديمة من خلال تحليل الكلمات واشتقاقاتها اللغوية.
ح‌- اللسانيات، وهو الذي يدرس اللغات وخصائصها وتراكيبها ومدى تشابها أو اختلافها، ومن خلاله نتعلم بعدم جدوى قراءة النصوص قراءة حرفية، وبأن كل نص عبارة عن مجاز بمعنى يقبل التأويل وعنده تنتهي حرفية النص، بعد مقاربته لسانيا وهرمونطيقيا.
خ‌- الهرمونطيقا، وهو علم يتعلق بمنهجية التأويل، التي تنتقل من: المعنى الحرفي، إلى روح النص، لتصل إلى القراءة المجازية، التي يتردد فيها الدارس بين الترجيح والاحتمال والايحاء، إذ توحي رموز النصوص الدينية بآفاق تأويلية مفتوحة للدارس والقارئ، الذي ينظر إليها في إطار سياقه التاريخي الآني والمعيش، ليعيد فهمها في ضوء مشكلاته المستجدة بإنتاجه لتفاسير جديدة، تجعله قادرا على خلع معاني جديدة، الامر الذي يعطي لهذه النصوص معاني تتناسب مع طبيعة المرحلة الجديدة.
خاتمة:
حاولت ورقتنا العمل على الدفع نحو فك شفرة التناقضات السابقة التي فصَّلناها في بداية البحث، عندما قمنا بالتركيز على قضايا الحداثة والتحديث في المجتمعات العربية، والضرورات التي ساقت إلى الحداثة في ارتباطها بالتعليم الوطني على أرض الواقع، كما حاولنا التركيز على قيم الحداثة الأساسية والاهتمام بمحتوى التعليم ليصبح عصريا، من اجل تعليم وطني يدفع النشء إلى تربية القريحة النقدية، بعيدا عن التلقين والترديد وإعادة انتاج الأفكار القديمة، التي لم تعد توائم العصر، كما ركزنا على ضرورة القطع مع استمرارية أن يتحكم القدماء في حياة ومصائر الاحياء من وراء قبورهم، وغير ذلك من تداعيات هذه القضايا...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يؤكد خلال مراسم ذكرى المحرقة الالتزام بسلامة الشعب الي


.. نور الشريف أبويا الروحي.. حسن الرداد: من البداية كنت مقرر إن




.. عمليات نوعية لـ #المقاومة_الإسلامية في لبنان ضد تجمعات الاحت


.. 34 حارساً سويسرياً يؤدون قسم حماية بابا الفاتيكان




.. حديث السوشال | فتوى فتح هاتف الميت تثير جدلاً بالكويت.. وحشر