الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتخابات في تونس بين النظري والواقع

محمد الهادي حاجي
باحث متحصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع

(Hajy Mohamed Hedi)

2022 / 10 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الانتخابات في تونس بين النظري والواقع:
يمثل العمل السياسي في منطقة البحث الظاهرة الأكثر تعبيرا وحضورا لاستحضار الهوية القبلية، إذ تلعب قيم القبيلة الدور المهم في السلوك السياسي فالانحياز أولا وقبل كل شيء هو لابن العم وابن القبيلة، ولذلك نشأت الجماعات السياسية على قاعدة الانتماء القبلي والتحالف القبلي، وهو ما يجعلنا نعيش في تنظيمات ما قبل الدولة من "عروشية" وقبلية وجهوية، وهي تلوينات تمثل تحديا حقيقيا في وجه الانتقال الديمقراطي في تونس بل أنها ربما تمثل تناقضا واضحا مع جوهر فكر ما بعد قيام الدولة الوطنية نفسها،هذا الفكر الذي يفترض أن الدولة الوطنية بمفهومها الحديث يجب أن تقوم على مبدأ المواطنة الفردية، وعلى هذا الأساس فالدولة لا يتمتع فيها الفرد المواطن بكل حقوقه، بصرف النظر عن انتماءاته الضيقة، ويتمثل معوق الانتقال الديمقراطي المرتبط بالبنية القبلية للمجتمع في عجز الفاعل الاجتماعي عن الانصهار والاندماج في بنيات أو مؤسسات الدولة الوطنية، ومن هذا المنطلق فإن الولاء لتعددية المجتمع ما قبل الدولة سيطغى على الولاء لمفهوم التعددية السياسية في ظل الدولة، وبذلك تنتفي فاعلية الأحزاب كأبرز الظواهر المميزة للحياة السياسية المعاصرة( )، وأحد أهم مقوماتها في العالم المعاصر( )، وغيرها كذلك من هيئات المجتمع المدني، لأن ولاء الناخب لن يكون لحزب من الأحزاب أو لبرنامج من البرامج وإنما سيكون لهذا الشخص أو ذاك، نظرا لكونه ابنا لمجموعة ما عروشية أو قبلية أو جهوية معينة، وهو ما يجعل الولاء العام للدولة يضيع، ومن ثمة تضيع المصلحة العامة، لأنه كلما كانت الانتماءات أرحب، كانت المصلحة أهم، وكلما ضاقت أطر الانتماء وتقلصت، اتجهت المصلحة لصالح فرد أو بعض الأفراد ( )، أو بعض العروش أو القبائل.
و من هذا المنطلق يمكن القول بأن الظاهرة القبلية و"العروشية" قد أسهمت بتأثيرها في الظاهرة السياسية في ظل الدولة الحديثة التي لم تستطع الحد من نفوذ القبيلة، التي مازالت هي الناخب الأكبر في الحياة السياسية في المجتمع، فممارسة الانتخابات بطريقة الاقتراع والتمثيل لم تلغ دور العامل القبلي بتحديد مسارات وخيارات أبناء القبائل، ضمن تركيبة سياسية تتحدد بالقبيلة والحركات السياسية، وهو ما يجعلنا نتحدث عن القبيلة السياسية كشكل من أشكال التنظيم الاجتماعي الذي يختلف عن القبيلة العادية أي مجموعة العلاقات المتبادلة بين الأفراد والمبنية على تراتبية القرابة. والقبليةُ السياسية صارت عقلية عامة تخصب الذاكرة الجماعية وتوفر أساس العصبية( )، وهو ما سيجعل القبيلة والانتخابات إحدى العلامات المهمة في الحقل السياسي في تونس، وهو ما يعني حضور عامل القرابة خلال ممارسة الفعل السياسي، أي بعبارة أخرى مازالت العصبية باعتبارها شكلا من أشكال التضامن تفعل فعلها في ظل واقع عرف تراجعا في الهيكلة القبلية، وحتى في ظل النخب التحديثيةالتي تبنت قيم التحديث. وهو ما يمكّننا من القول بأن الظاهرة السياسية، هي في عمقها ظاهرة اجتماعية( ). حيث أن صنع القرار السياسي أو الممارسة السياسية في تونس لا تحكمه فقط محددات مؤسسية رسمية، بل أيضا محددات اجتماعية وثقافية( )، مسكوت عنها غالبا، إذ أن صعود أي فاعل سياسي إلى حقل الفعل أو مغادرته إياه لا تكون فقط على أساس الكفاءة والقدرة على الأداء والفاعلية والمستوى التعليمي والتجربة الميدانية، بل إن ذلك محكوم بعوامل الانحدار الاجتماعي والقرابي والعائلي والعروشي ورأس المال العلائقي وعلاقات التبعية الشخصية التي يقيمها مع الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي، من أجل تحقيق الصعود وممارسة السلطة، وهو ما يعطي للظاهرة السياسية أبعادا رمزية، مرتبطة بالمعنى كما يبينه ماكس فيبر. هذا التمشي يكشف عن الخيط الرابط بين السياسي والاجتماعي، من خلال هذا الفاعل الذي هو أيضا فاعل سياسي يحمل في داخله تصورات وأهدافاً ووسائل وغايات مختلفة ومتعددة وسواء كان ذلك بشكل واع أو غير واع، فإنه مسلح بجملة من الاستراتيجيات والدوافع، أمام حضور عوامل الانتماء الجهوي والعائلي وعلاقات الدم والنسب خلال الممارسة السياسية، أو المشاركة السياسية التي يعرفها هيربرت كلوسي بأنها العملية التي من خلالها يلعب الفرد دورا في الحياة السياسية لمجتمعه وتكون لديه الفرصة أن يشارك في وضع الأهداف العامة للمجتمع( ).
و يمكن القول بأن القبيلة وإن تراخت علاقتها بأفرادها من جراء التحولات التي استهدفتها، فإنها لم تختف بل تستمر هيمنة العلاقات القرابية والقبلية على حساب علاقات الانتماء الترابي والإداري، وفي هذا السياق تقول رحمة بورقية "إن غياب القبيلة كمؤسسة اجتماعية اقتصادية ليست معناه غيابها كإطار للانتماء والهوية المحلية، وذلك ما يجعل من القبيلة عنصرا من العناصر الثقافية والاجتماعية، التي تشكل موضوع مساومة… تتبلور أيديولوجية القبيلة اليوم داخل الصراع والتنافس من أجل السلطة أو التقرب من تلك السلطة، إن تركيز النخب المحلية على انتماءاتها إلى منطقة ما، مع توظيف العلاقات القبلية والقرابية يتأجج خلال اللحظات الحاسمة في التنافس حول السلطة والتي تكون الانتخابات الإطار الملائم لها"( ) ويقول بوطالب في هذا الإطار بأن المناسبات الانتخابية تعتبر"فرصة لبقايا الظاهرة القبلية لتجديد حضورها بشكل خفي في الحياة العامة، ولكن بشكل صريح في الحياة الخاصة. تعقد الاجتماعات غير الرسمية وتبرم التحالفات بين المرشحين على أسس قبلية أو عشائرية بحسب مستوى دوائر الصراع"( ). وهو ما يعطي للمناسبة السياسية حماسها في ظل ما تشهده من تجنيد قبلي "وعروشي".
و كثيرا ما تجد الناخب لا يعرف اسم الحزب الذي ينتخب له، فقط يعرف اسم المرشح ابن جهته أوعشيرته أو قبيلته. وهو ما يتناقض وعملية التنشئة السياسية كعملية منظمة تمكن الفرد من استيعاب المعايير والقيم الاجتماعية ( )، وليست مجرد مجهودات لاستيعاب الواقع، وإنما من خلال التحديد الواضح للأساليب التي تحقق هذه التنشئة القائمة على الوعي السياسي ونضوجه، على اعتباره ضروريا لضمان وظيفة القيم السياسية المؤدية لزيادة المشاركة السياسية، لأنه من هذا المنطلق يمكن القول بأن ضعف القيم والتقاليد الديمقراطية في بنية الثقافة السياسية، هو أحد أسباب هيمنة الولاءات الضيقة فالديمقراطية ليست مجرد أحزاب وانتخابات فحسب، ولكنها أيضا منظومة من القيم التي يتشبع بها أفراد المجتمع عبر مختلف مؤسساته المعدة للتنشئة والتوجيه، وأهم هذه القيم القبول بالآخر والإيمان بالتعددية، والتسامح الفكري والسياسي، والإيمان بالحوار كأداة للإقناع والاقتناع، ولكن يمكننا القول بأن المبادئ الديمقراطية لا تشكل مكونا رئيسيا في بنية الثقافة السياسية، ومن هذا المنطلق يمكن القول بأنه بعد "الثورة" ضعفت مؤسسات الدولة في تونس وتفككت في بعض منها، فانبعثت القبيلة من جديد لتفتك مكانتها وتؤدي وظيفتها في حماية أفرادها ومصالحهم وهي وظيفة كانت تقوم بها الدولة، وهو ما غذى بروز الايديولوجيا الجهوية والعروشية والعائلية والمناطقية مما جعل العروشية بمعناها الحديث أي التي برزت في السنوات الأخيرة هي في الأصل محاولة لتغطية عن الفشل السياسي والاجتماعي من طرف بعض السياسيين أو للانتقام من أطراف أخرى أو هي ملجأ أخير لا هروب منه أمام ما تعيشه البلاد من تفتت للمؤسسات الدستورية التي كانت تحمي الجميع، وبحث عن مشروعية الحماية والتضامن والإسناد مضمونة الولاء وقابلة للتحريك في أية لحظة إذا تعرضت للمس أو قلة الاعتبار في النفوذ السياسي والتنموي وحتى الرمزي، وهو ما يجعل الحديث عن الرابطة القوية بين المواطنين في ظل الدولة أمرا قابلا للنقاش، وهي رابطة تقوم على عناصر واضحة يحس بها الجميع ويؤمنون بها ( )، وهي التعايش في إطار الوحدة الوطنية بين المجموعات مهما كان انتماؤها داخل الدولة ( ). ومن هذا المنطلق فإن الوحدة الوطنية تعني حاصلاً لإرادات مجموعات بشرية مختلفة النزعات والغايات والمصالح، رأت أن في صالحها قيامها، وبناء على ذلك فهي محصلة مجموع الإرادات المختلفة، والصورة الحقيقية والصادقة لجميع الاتجاهات والأبعاد، وهذا يعطيها قوة تستطيع أن تعكس كل ما كان يحمل في نفوس هؤلاء الفاعلين المختلفين في أصولهم ونزعاتهم، وقد جمعتهم وحدة الأرض والتاريخ والهوية، وهو ما يقيم بينهم اقتناعا شاملا بإبعاد كل ما يعتري علاقاتهم من تناقضات وصراعات وانفعالات، وتوحيد عملهم من أجل هدف واحد وغاية موحدة ( ). في ظل ما يسمى بالتكامل أو الاندماج الوطني المرادف لمفهوم الوحدة الوطنية، ويعني تجميع الجماعة المساعدة من المجتمع ودمجها في كلٍّ أكثر تكاملا من خلال تحقيق التماسك والتضامن فيما بينهما، ويكون الغرض أو الهدف من ذلك هو التحول بالولاء من المجتمعات الصغيرة الماتحت وطنية إلى المجتمع الكبير الواحد والشامل ( ) بحيث يتحقق التفاعل والتلاحم بين جميع أعضاء الجماعة الوطنية، بغض النظر عن انتماءاتهم الثقافية والسياسية والقبلية والجهوية، وانصهار جميع أبناء الشعب في بوتقة واحدة وكيان واحد، وعدم وجود الصراع بينهم.
إنها إشكالية تقبل التحدي في الزمان والمكان نتبع خطاها ولا ندري إلى أين هي سائرة. فالعناصر الموضوعية للظاهرة الاجتماعية تفرض نفسها على ما يطمح إليه السياسي أو ما يريده أن يكون. فالموضوعي والعلمي يتخفى دائما ما وراء المستويات الايديولوجية والسياسية والثقافية والرمزية لأنها حقول لا تخلو من الصراعات والاستراتيجيات، مما يجعلها تفلت من التكهن والتوقع، كما تفلت الظاهرة الإنسانية من الحتمية العلمية.
فكيف نفسر سلوك الناخب من خلال الخريطة الانتخابية في تونس؟
تبين الاستاذة الباحثة عائشة التايب أن ذلك يفسر من خلال ثلاثة نماذج نظرية تعتمد عادة في تفسير وتحليل السلوك الانتخابي في "علم الاجتماع الانتخابي"( ):
- النموذج الأول: يرتكز على العوامل السوسيو-اقتصادية ضمن متغيرات السن والعمر والطبقة الاجتماعية في نتائج التصويت وفي استراتيجيات الناخب، بحيث أن الناخب يحمل تفكيرا سياسيا بحسب انتمائه الطبقي، وهو ما يمكّن من القول بأن الدعاية والإعلام والحملات هي غير مؤثرة على سلوك التصويت لدى المواطن.
- النموذج الثاني: يفسر هذا الإطار النظري نتائج الانتخابات من خلال المرجعية أو الخلفية النفسية السياسية، بحيث يختار الناخب المرشح على اعتبار طبيعة العلاقة العاطفية والوجدانية بينهما، ليصبح من هذا المنطلق الفعل الانتخابي فعلا موجها عبر إدراك الناخب للمواضيع ذات الصبغة السياسية، فهو انعكاس لما يفرضه وجدانه، وبقدر ما تكون العلاقة العاطفية مع الحزب، يكون المواطن إيجابيا مع مرشحيه، وهذه الفئة هي التي تجهل خفايا الصراع السياسي والإيديولوجي، ويعتمد قرار الانتخاب لديهم على رؤيتهم وتصورهم الخاص، ووجدانهم هو المرأة العاكسة والمحددة للأصوات.
- النموذج الثالث: ويعتمد على الخلفية الاقتصادية ويتعامل مع الناخب كفاعل يترقب درجة المنفعة المادية أو الاقتصادية فهو يعطي أولوية لمصالحه فهو "تصويت على الرهانات" من طرف "الناخب العقلاني" و"الإنسان الاقتصادي"، مما يجعل الحقل السياسي كأنه "سوقا انتخابيا" إذ "يصوت الناخب بحسب أنصار هذا النموذج النظري للحزب أو الشخص الذي يعتقد أنه الأقدر على الرفع من مستويات ربحه ويعود عليه بالنفع والفائدة أكثر من غيره".

محمد الهادي حاجي-علم اجتماع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكسيوس: الولايات المتحدة علّقت شحنة ذخيرة موجهة لإسرائيل


.. مواجهات بين قوات الاحتلال وشبان فلسطينيين أثناء اقتحامهم بيت




.. مراسل الجزيرة: قوات الاحتلال تقوم بتجريف البنية التحتية في م


.. إدارة جامعة تورنتو الكندية تبلغ المعتصمين بأن المخيم بحرم ال




.. بطول 140.53 مترًا.. خبازون فرنسيون يعدّون أطول رغيف خبز في ا