الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أطروحات في العلاقة بين الدهماء والسياسة

مصطفى الحسناوي

2022 / 10 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1- هناك دون شك أزمة اقتصادية ،سياسية واجتماعية على الصعيد العالمي،أزمة انهيار المعايير المنظمة للمجتمعات والتي تتجلى ( : الأزمة) كوضعية ، تتقوى داخلها ديناميات الإقصاء والتهميش وقمع الأفراد، تتفاقم وتصير أكثر شراسة.الأزمة دالة بالتأكيد على نهاية شيء ما ،لكنها أيضا صراع لإعادة إنتاج المثيل.داخل هذا الصراع القاتل يلفي الناس ،أي العمال،الطلبة ،المأجورون،الشباب،النساء، الأقليات....الخ أنفسهم مخترقين في وجودهم نفسه ،وأيضا مجابهين لضرورة أو إلحاحية التفكير والفعل في مواجهة أشكال العنف المنعلنة والمشتغلة بفعالية،عنف اقتصادي،اجتماعي وسياسي.لقد صارت السياسة حصة الفقير،حصة صغار الناس المقصيين،المعذبين فوق الأرض،وذلك عبر الصراع،التمرد،الصراخ اليائس ،الإضرابات عن الطعام، والتجاوزات التي يمارسونها.تتعلق المسألة دون شك،حتى داخل الأشكال والممارسات الفوضوية لهذا الصراع ،باستثمار اليأس سياسيا،تحويل اليأس الى قوة سياسية قد تكون خلاقة أحيانا لأفعال تدميرية جارفة، وأحيانا أخرى لمبادرات اقتراحية مواطنة تتوخى التفكير في الأزمة في أفق تجاوزها.
2- الأمر يتعلق بدخول العامة أو الدهماء و الغوغاء مجال السياسة،أي بنوع من السياسة الدهمائية اذا صح القول، والتي ترتبط في العمق ارتباطا غير مباشر بالأسس ذاتها التي تنهض عليها الديموقراطية، وبالأسئلة الملحة التي تنطرح انطلاقا منها : كيف يصير بإمكان المواطنين تملك الديموقراطية؟كيف يتعرفون أو لا يتعرفون على أنفسهم فيها،وكيف يعبرون عبر صراعاتهم عن الطموح إلى تحقق (التحقق في) ديمقراطية تفلت من أسر تلك الدائرة الكلاسيكية المرتبطة بسياسة الديمقراطية التمثيلية(البرلمان والمؤسسات التمثيلية الأخرى )أي تلك الديمقراطية التي تتعايش مع هيمنة الاوليغارشيا.السمة المشتركة بين تجليات السياسية الدهمائية (أو سياسة عامة الناس) سواء في تجربة "احتلوا ووال ستريت" الأمريكية،أو الغاضبين في بويرتا دل سول في مدريد،أو نوي دوبو Nuit deboutفي باريس ،أو ميدان التحرير وغيره من الأمكنة،هو ارتباطها بالظواهر المتنوعة للتمرد التي تتوخى البحث عن أشكال ديموقراطية خاصة بها غير محنطة داخل المؤسسات القائمة.تروم هذه السياسة الدهمائية التحقق في فضاء أخر للمعارضة،فضاء عام لا تسيجه السلطة القائمة ،أي الإفلات من فضاء السلطة ،جعل الآخر المنتمي للحشد أو الدهماء مرئيا وفاعلا، واستعادته من الاقصاءات التي طالته،إمكانية انكتاب ودمج ممارسات وتجارب قد ينظر إليها باعتبارها "قاصرة" ،يتم الاستخفاف بها وتجاهلها ،لكن المطلوب من هذه السياسة الدهمائية إعادة إدماجها في حقل السياسة.الأمر يتعلق بإعادة التفكير في إمكانية اشتغال سياسة الضعفاء،بالحدود التي تحددها والورطات التي تقف كحجر عثرة أمامها .
3- ليست "سياسة الضعفاء أو المقصيين أو المستضعفين" دائما التعبير الملائم عن الوضع الاعتباري، لمن يحتل مكانة دنيا في الهرم الاجتماعي.بإمكان هذه السياسة أن تكون دليلا على قصور الرؤية والتقليدانية والعمى، حين يتم اللجوء إلى العنف واستعماله،المرور إلى الفعل المدمر وعدم احترام القانون .السياسة الدهمائية لا ينفذها بالضرورة حشد من الملائكة،ولا ترتبط أبدا بالتقديس الزائف لشعب ما أو ادعاء طهرانيته .إن الفاعلين داخل هذه الحشود ليسوا ملائكة.السؤال الينبغي طرحه هنا هو تحديدا : ما الذي يقود المقصيين إلى اختيار الفعل السياسي والخروج لمجابهة الماكنة القمعية لجهاز الدولة؟. مؤكد انه ينبغي البحث عن جواب ممكن في الإحساس الذي يحرك هؤلاء، والذي يمتزج فيه عمقيا اليأس والغضب.لكن موقف العمى أحيانا كثيرة، يتجلى في إرادة تجاهل هذه الأحاسيس السلبية العميقة، التي تحضر كأصل للانبجاس العنيف أحيانا للمقصيين داخل الأماكن والساحات.لقد ظلت الأمهات والأرامل المسربلات في السواد يتظاهرن ويدرن سنوات عديدة في ساحة ماي Plaza de mayo في العاصمة الأرجنتينية ،لمعرفة مصير أزواجهن،إخوانهن وأبنائهن الذين اختطفوا وغابوا إبان سنوات الدكتاتورية العسكرية الدموية،وحده الإحساس باليأس والغضب ظل يحركهم إلى أن لاح لهن ضوء عند آخر النفق .أمام جماعات الناس الذين يتظاهرون ويتمردون لا يمكن أن نقول : "لا جدوى من التمرد" ،كما يقول فوكو.من يجازف بعرض صدره عاريا،وتعريض حياته للخطر طلبا لكرامة ممكنة ،لا يمكن أن نقول له :"لا جدوى من تمردك".
4- الفاعلون داخل فضاءات المقاومة،لا علاقة لهم بالشكل الملائم لممارسة السياسة،والذي يخضع لمواعيد مضبوطة ومنظمة للصراع.هنا يكمن الفرق بين الممارستين : المقاومة (بكسر الواو) والممأسسة. الفاعلون الممارسون للمقاومة غالبا ما يمارسون فعلهم وهو محكومين بإلحاحية الوضعية،بضرورة تجاوز النظام القائم وكسر إسمنته،بالتمرد ،وليس بإمكانهم انتظار الأحزاب،والجماعات المنظمة لتقوم برد الفعل وتستجيب للضرورات التي تدفعهم إلى الفعل، وهي كلها أحاسيس سلبية إزاء تجاهل السلطة لمصائرهم.يفلت هؤلاء الفاعلين من الأشكال التقليدية للصراع المألوفة داخل الحركة الاجتماعية التقليدية، كما عهدتها الأحزاب أو النقابات .يحدث هذا مثلا مع أبناء المهاجرين من الشبان في ضواحي المدن ( : فرنسا مثلا )وفي الحركات الاحتجاجية التي عاشتها سنة 2011 مناطق في شمال إفريقيا والشرق الأوسط ،وعندما يفرض بعض الأجراء والموظفين على النقابات أن تلتحق بهم في المناطق القصوى حيث يتلبس الصراع أشكالا أكثر عنفا وتكاد تكون غير شرعية.
5- سنة 1972 اجرى كل من بيير فيدال-ناكي وميشيل فوكو حوارا مع جريدة (بوليتيك ابدو) اليسارية المتطرفة بصدد اشتغالهما/ نضالهما في (جماعة الإعلام حول السجون)المسماة اختصار G.I.P ،و أشارا إلى حدث مرتبط بالتاريخ السياسي الذي عاشاه، وهو قمع تظاهرة الجزائريين من أجل تحرير بلدهم بتاريخ 17 أكتوبر 1961 ،حيث اغتال البوليس الفرنسي يومها ورمى في نهر السين بحوالي 200 جزائري . لكن وسائل الإعلام الفرنسية ركزت فقط يوميا على القتلى التسعة في منطقة شارون، حيث أقيمت بتاريخ 8 فيفريي 1992 تظاهرة ضد منظمة O.A.S للمستعمرين الذين اعتبروا الجزائر فرنسية."في رأينا يقول كل من المؤرخ والفيلسوف،يدل هذا دائما على وجود مجموعة بشرية،تتغير حدودها ،بالمقارنة مع الآخرين.أطلق على هذه المجموعة في القرن التاسع عشر اسم "طبقات خطيرة"والشيء نفسه مازال اليوم قائما. يطرح كل من المؤرخ والفيلسوف مسالة الدهماء La plèbe دون ذكر الاسم .لم يتم الاهتمام بالضحايا الجزائريين لأنهم يشكلون ما يسمى الدهماء أو أنهم يؤدون وظيفتها وما يميزهم من حيث هم كذلك هو اختفاؤهم في نظر التمثلات المهيمنة التي توجه ضدهم ماكنة القتل الهائلة، سواء كسلطة سياسية أو كقوات للقمع بتواطؤ مع وسائل الإعلام."
6- الضحايا الذين قتلوا في التظاهرة ضد المستعمرين الفرنسيين الملقبين "الأقدام السوداء"، اعتبرهم المنتمون الى اليسار هامين،واعتبروا ان قتلهم هجوم على الشعب المنظم والموحدة عضويا المكتسب للشرعية،أي الشعب المرئي المعبر عن نفسه عبر منظماته (اليسارية والمضادة للاستعمار والفاشية )،وعبر زعمائه،تقاليده،أبطاله وأمكنة انوجاده داخل الفضاء الحضري العام.يشير فوكو الى أن شيئا ما يوجد ويستمر منذ القرن التاسع عشر ،"شيء ما"يتميز حسب الأمكنة والسياقات عن الشعب كما هو محدد أعلاه .هذا "الشيء ما " هو ما يمكن تسميته "دهماء"،ويتبدى أولا وقبل كل شيء كوظيفة، شخصية متغيرة،دور يؤدى ربما ،لا كنمط قار،محدد :(يمكن أن يتخذ صفات مهاجرين في ضواحي المدن،عاطلين شباب،مقصيين،منحرفين...الخ).لفظ "دهماء" يظل على المستوى السوسيلوجي غامضا،مثيرا للارتياب،ولكنه إجرائي سياسيا،ربما بالرغم من أنه في المجتمعات الحديثة يوجد "شيء ما " قد يتلبس شكل ويحتل "مكان" الدهماء .يشير فوكو في حوار حول السجن الى الفشل الذي طال الطوبى السجنية لإدماج السجناء،إعادة تأهيلهم اجتماعيا،إعادة أنسنة المساحين وذلك منذ الأصول،أي منذ بداية القرن التاسع عشر.قال فوكو بأنه منذ 1820،صار معروفا بأن السجون بعيدا عن تحويل المجرمين إلى مواطنين شرفاء،لا تصلح سوى لصناعة مجرمين جدد، واغراق المجرمين الموجودين في المزيد من الإجرام .لقد صار السجن معملا لصناعة نوع من الدهماء،ضروري لإنتاج أشكال جديدة لحفظ النظام.يصنع السجن،كما يرى فوكو،قوادين ينظمون بيزنس الدعارة و تجارة الجنس،في توافق مع البحث عن أكبر هوامش الربح.هذه "الوظيفة"بالذات، أو "وظيفة"الدهماء (مثيروا الشغب،الجواسيس،الشباب المنحرف ....الخ)هي ما يصنفه ماركس تحت اسم "بروليتاريارثة".
7- أنتجت المجتمعات الحديثة خطابا موحدا (بكسر الحاء)يضفي الانسجام على الدهماء،اي سردا رتيبا حول الفوضى والجريمة .بهذا المعنى نقرأ أحيانا في الصحافة حكايات عن غزو الفضاء الحضري المتمدن من طرف جحافل تنبجس من مناطق غامضة،كما لو أن الأمر يتعلق بمعركة/معارك جديدة ينبغي الانتصار فيها مجددا على البرابرة.هكذا مثلا يصير العربي في فرنسا مهاجرا بعد أن فلاحا fellagha ضمن خطاب مهيمن حول "الأمن"يعتبر هؤلاء بمثالة racaille أي حثالة ينبغي تنظيفها بالكارشر، وهو الخطاب الأمني الذي غالبا ما تكون هوامش ربحه السياسية كبيرة بالنسبة لليمين المتطرف.تطرح الدهماء دوما مشكلات سواء للسياسات والبرامج التي تروم تسييجها وتأطيرها وتوجيهها، أو للخطابات والتحليلات التي تتغيا فهمها وتحليلها ضبط أبعادها والتعرف على نوعية أهدافها. يتأتى ذلك من أن الدهماء مجموعات من الناس،حشود متغيرة باستمرار، فالتة من أسر التحليل،يتعذر إدراك مكوناتها بشكل عقلاني،ومن الصعب ربطها بمناطق/أماكن واضحة محددة،أو تحديد أدوار قارة لها.إن انعدام الاستقرار والتغير اللذان يسمانها باستمرار ،هو ما يجعلها قادرة على الإفلات من أسر السلطة القائمة، والهروب بعيدا عن علاقاتها.
8- هنا يكمن الرهان الذي تطرحه السياسة الدهمائية على الفضاء العام الممأسس والمتمثل في : السماح للتعبير السياسي عن أشكال يمكن أن تفلت من أسر الشكل المتوارث الملائم لفضاء السلطة.هناك،على ما يبدو،اشتغال لخلق تقاطعات وتواشجات إبداعية على مستويي النظرية والممارسة،خلق ممارسة سياسة أخرى تبرز ما تمت تنحيته وإقصاؤه ونبذه،تبرز ممارسات وتجارب ينظر إليها على أنها "قاصرة" انطلاقا من وجهات نظر "العقل السياسي" الذي يعتبر نفسه "راشدا"،ممارسات يتم احتقارها وإهمالها،لكن السياسة الدهمائية تروم عنوة إعادة إدماجها داخل حقل السياسة.الأهم هو إن تفكر الدهماء وأن تعيد التفكير في حقل الممكنات الخاص بها،حقل إمكانية سياسة الضعفاء التي تحدثنا عنها،وهو ما يدفعها حتما لمجابهة حدودها والوقوع في مطبات وورطات عديدة( :النزوعات الفاشية والتدميرية لدى الدهماء مثلا،ونزوعها الى تعويض الطوبى utopie التحررية بطوبى استبدادية، تخضع عبرها لزعماء فاشيين، ولتصورات ومشاريع سياسية ضد ما يمكن تسميته مصلحتها التاريخية). يمكن القول تبعا لذلك بأن سياسة الضعفاء(السياسة الدهمائية بامتياز) أو المقصيين لا تكون دائما التعبير "الملائم" عن "الضعفاء" أو "صغار الناس" .ينبغي القول بأن الدهماء حشد هلامي "حيوان سياسي"ذا ردود فعل سياسية غير قارة،قد تنتقل من "الوداعة"والخضوع التام الى الشراسة والعنف المدمر.إنها تعبير عن الأشكال الأقل مأسسة داخل فضاء السياسة، والأشكال الأكثر يأسا أيضا.إنها تقوم بالتحول والانتقال من الحقل الخاص للسياسة، الى فضاء متنافر وغير متجانس وغير منظم أحيانا كثيرة، من الممارسات والتجارب وهذه الانتقالات و الترحيلات هي بالذات ما ينظر إليه،بصددها ،باعتبارها سياسية.
9- لقد علمنا سبينوزا بأن الحشد multitude أوالدهماء يكون دائما وانطلاقا من تحديده بالذات،كائنا ما وراء سلطة الأمراء.يقول في (رسالة في السياسة ،الفصل الثالث.2-7)1، (ليست دولة الحق أو السلطة الحاكمة شيئا أخر غير الحق الطبيعي نفسه، والذي تحدده القوة غير المرتبطة بكل فرد على حدة،بل بالحشد،الذي يبدو كما لو أن روحا واحدة تقوده،وبلغة أخرى،مثل ما يحدث بالنسبة لكل فرد ،في الحالة الطبيعية ،فجسد الدولة وروحها،كلها تمتلك حقا يضاهي قوتها(....)ان حق الجسد السياسي،تحدده بالفعل قوة الحشد الذي يقاد كروح واحدة).ليست السلطة أبدا عند سبينوزا تجسيدا،في جسد واحد،لإمكانية لا نهائية من القرارات،لخزان لا محدود من الأفعال السياسية ،المتعذر امتلاكها في تعاليها الغامض.ان السلطة بالاحرى نتيجة طبيعية لقوة طبيعية،تعبر عن نفسها داخل الوحدة،التي تكون سلفا سياسية بين الحشد وروحه.بهذا المعنى ،لا تكون سلطة الحشد،أي قوته،شيئا آخر سوى المحايثة ،البناء الطبيعي للوجود،إثراء التعريفات والتحديدات،والإنتاج المستمر للاختلافات.لهذا السبب تصير قوة الحشد هي الحياة بالذات ،اذ ليست سلطته غير التعبير الأمثل عن قوته وحقه الطبيعي أي حياته .ما طرحه سبينوزا باستمرار كرهان أساس داخل الحياة نفسها،هو السياسة من حيث هي كذلك .لا توجد الحياة داخل السياسة ،بل على العكس فان السياسة هي التي تنوجد/ تشتغل داخل الحياة.السياسة دفق طبيعي ينأسر داخل المحايثة التي هي الحياة بالذات،كقوة للحشود وكحق طبيعي لها في الوجود.
10- تتغيا السياسة الدهمائية التحقق في وجود فعال وخلاق.انها تقوم بترحيل السياسة الرسمية السائدة والممأسسة، نحو مناطق سياسية معارضة ومغايرة ومتنافرة،ضمن منظور تأسيسي constituant ينهض على التأسيس انطلاقا من الفراغ، كما حدث مع ماكيافيلي الذي تبين له بأن الممارسة السياسية تنقسم بين مزاجين،مزاج السادة/النبلاء الذين يريدون الهيمنة، ومزاج الدهماء أو عامة الناس الذين يرفضون الهيمنة عليهم. التأسيس انطلاقا من الفراغ، تلك هي المهمة الأساس،غير الموعى.بها في اغلب الأحيان،التي تقود السياسة الدهمائية.إنها السياسة التي تمارسها حشود غريبة عن الشأن السياسي التقليدي السائد وبعيدة عنه،بمؤسساته ومناطقه الاختلافية.يجب ألاننسى ،في هذا السياق،بأن أرسطو الذي أرسى أسس العقل السياسي الأوربي وطرح الفكرة الهامة القائلة بأن الإنسان حيوان سياسي،لم يكن إغريقيا،ومنع من الاستقرار داخل المدينة لممارسة التدريس، ومن أن يرث مدرسة أفلاطون لأنه كان مقدونيا.الديمقراطية الأثينية النموذجية نفسها كانت في ذلك العصر الذهبي،شكلا سياسيا ناهضا على إقصاء الأجنبي والخلاسي والبربري والمرأة والعبد،وكل هؤلاء ظلوا خارج نظامها. هكذا جابهت الديمقراطية منذ نشأتها الصباحية فوق الأرض الإغريقية حدا أساسا من حدودها، يرتبط بمكانة الآخر داخلها .من نافل القول أن الحديث انطلاقا من اصطلاح الهوية الوطنية الجامعة، يتعارض مع النظرية النقدية التي تقاوم كل تحديد ماهوي لفكرة كليانية تسحق الاختلافات،والأقليات،وتعمل على فرض سردية بارانوية صلبة ومهيمنة، ناهضة على المعمار التاريخي-الأسطوري لهوية وطنية لشعب متجانس.ضد هذه الكتلة البارانوية المتناسقة يمكن طرح اللاهوية ضمن جدل سلبي متنقد للسيادة الدولتية (من الدولة).
11-إنها اللحظة التأسيسية التي ينحفر فيها الفاصل بين السياسة والمؤسسة أو بين نمطين للفعل السياسي.هناك من جهة الفعل الذي يتغيا تغيير النظام السياسي والتدخل في بناء السلطة، والذي سيستثمر تغيير شكل الدولة،ليستحوذ عليها وينسل الى مفاصلها ويستوطن الأشكال السياسية الممأسسة .وهناك من جهة أخرى نوع من الديموقراطية المختلفة وفق نوع من الاختلاف العنيد، اليتعذر اختزاله والذي سينحو منحى المحو التام للشكل الذي تتلبسه الدولة بالذات .تشتغل الأشكال الاحتجاجية السياسية لهذا النوع الثاني خارج الدوائر المتعارف عليها والمنتظرة لسياسة الأحزاب، وخصوصا الأحزاب التي تعتبر تقليديا أحزاب "الطبقة العمالية".تنعلن السياسة الدهمائية داخل هذا النوع الثاني، وداخله تشتغل الأشكال الجديدة لتنظيم الصراعات السياسية التي تتمظهر عبرها.ما ينعلن عبر هذه السياسة الأخرى، هو أن هناك أزمة للتمثيل السياسي وفي نفس الوقت ابتكار للشيء السياسي، لأن الديمقراطية متسمة باختلاف متعذر الاختزال وغير متناغم مع الدولة .تتقوى الصراعات ،تشتغل وتتفاقم وتتخذ شكل احتجاجات وتمردات، في الوقت نفسه الذي تضطلع فيه الحكامة وأشكالها ومعاييرها بالأشكال الأركاييكية الأشد انحطاطا وتدهورا في المجتمع.إن فضاءات التمرد والاحتجاج هي أن ثمرة الأشكال التي من خلالها تعبر أقليات، تتبنى الصراع والمعارضة داخل المجتمع عن نفسها، وتنعلن كذلك. ظل الفعل السياسي دائما عرضة للتحنيط المؤسساتي،و تلبست السياسة دائما شكل الدولة،لكن الهم الأساس للسياسة الدهمائية، هو التحرر من هذا التشييئ المؤسساتي،خلق فجوات واقتراح أشكال أخرى مغايرة.لكن الثورة ،وبعيدا عن كل تصور مثالي لها،من حيث هي تغيير لشكل الدولة ومحتواها، تحتوي ضمنيا نزوعا غامضا للتحقق في شكل سياسي مطلق، حيث تكف الدولة عن حماية الأفراد لتحمي نفسها منهم وضدهم .تؤكد المآلية الكارثية والمأساوية للثورات ذلك، حين يصير الثوري الحامل لوعود التغيير دكتاتورا مرعبا. يمثل الشكل السياسي المحنط التي تتلبسه الديمقراطية أحيانا كثيرة خطرا دائما، يهدد بسقوط الدولة واندحارها.إنها حركة ذهاب نحو سياسة بارانوية صلبة ،نحو سياسة قاسية تعوق كل تطور مرن.هكذا تنفصل الديموقراطية عن النفس والروح الديمقراطيين، اللذين عليهما تنهض في الأصل، حين تخضع نهائيا ومطلقا لعملية تشييئ سياسي دائمة وتفقد زخمها.لكن الفعل السياسي الذي تمارسه الحشود، يسمح بتخيل ممارسة ديمقراطية مغايرة يمارسها الضعفاء والمقصيون والمهزومون، الذين ينحون منحى ديمقراطيا مغايرا، خصوصا وأن القانون يقصي هؤلاء ويمحو وجودهم.
12 -حين ننظر انطلاقا من التقطيع بين الفعلين السياسيين المتعارضين، فإننا نعيد النظر في الممارسة السياسية انطلاقا من الطابع الصراعي الذي يجب أن يحكمها، بعيدا عن اصطلاحات التوافق والانسجام والإجماع،أي بعيدا عن نوع من التمثيلية السياسية التي تطبخ ضمنيا في مطبخ سلطة محنطة وممأسسة،وتعتمد على توزيع الأدوار والولاءات بين فاعلين سياسيين محددين سلفا داخل رقعة الشطرنج، سواء على مستوى الأقوال والأفعال . الأهم هنا هو بناء فضاء دهمائي متميز.هكذا تستعيد الديمقراطية صراعيتها التي يتم دفنها تحت الانتظامات والتوجهات التمثيلية.يعيد الفضاء الدهمائي الصراعي للذاتيات المنسية والمقصية زخم وجودها ،يمنحها إمكانية أن تصير مرئية انطلاقا بالذات من تجاربها الهامشية والمتميزة،تجارب اليائسين والمنفيين داخل صحراء الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية .ضد هذا التوزيع الموروث وشبه المقدس للفضاء العام وللمجتمع، الذي تخضع فيه اللعبة السياسية لبراديغم تمثيلي محسوم سلفا، يطرح الفضاء الدهمائي أنواعا من القطائع والمجاوزات الآتية من ممارسات الناس اليومية خارج ما هو منظم و ممأسس.مؤكد أن الممارسة السياسية ستتغير حينها، لأنها ستتبنى كل ما هو خارج المعيار وأفق انتظارات البورجوازية الاوليغارشية، وضوابطها وأوامرها وعالمها.ستنعلن حينها معايير "الضعفاء والمقموعين" العزيزين على ماركس. الأهم هو إضفاء طابع إشكالي على الممارسات والتعبيرات التي يمارسها /يعبر بها/عبرها أولئك الذين ينبجسون بطريقة غير ملائمة ،ينبجسون كآخر يتعذر اختزاله،لأنه لا يتبنى نفس ممارسات البورجوازية ولا يعبر عن نفسه بلغتها واصطلاحاتها ولا يملك ثقافتها وتجربتها.إن هم السياسة الدهمائية التي تسمح للدهماء بولوج الركح السياسي هو إبراز اختلافها والاعتراف به.
13- النظر انطلاقا من وجهة نظر السياسة الدهمائية،وولوج الدهماء فضاء الصراع السياسي كطرف فاعل، قد يتم لسبب مرتبط بتفاؤل يائس يرمي ،بالرغم من كل إخفاقات اليسار وتيهانه ،الى الحفاظ على الوجهة التي يسلكها الفكر النقدي وإمكانية الفعل السياسي المنسجم مع هذا الفكر. كل هذا الاشتغال يجب إن يتم انطلاقا من ذكاء المفاهيم وقدرتها على الخداع، لمجابهة الخداع الحقيقي المتعلق بالوقائع والأحداث .ينبغي ايلاء الكثير من الاهتمام للممارسات الملموسة،خصوصا داخل العمل الإنساني تماما كما درس / استغور ارنست بلوخ في كتابه (مبدأ الامل)المصادر الطوباوية لذاتية معارضة للهيمنة داخل الحياة اليومية.إنها وجهة نظر مرتبطة باطيقا العناد، بالعديد من الطرق التي من خلالها يتم رفض النظام السائد الذي يؤسس/يؤبد الوضع الاعتباري للقانون،للمعنى بطريقة شبه قدرية.كل هذا ينبغي التفكير فيه من وجهة نظر مادية،لأن ما يهم هو نوع من المقاومة المتنوعة، العنيدة مطلقا،المتحدية لكل منطق والتي نعثر عليها لدى الضعفاء والمقصيين الذين يبدون/يمارسون الفعل باعتبارهم كائنات شفافة .يتربص هذا الحشد من الذاتيات بالسياقات الدوائر ،يربض في فجوات النظام،هوامشه ومناطقه المقصية،حتى تحين فرصته،متمردا على كل شيء بطريقة راديكالية.لا تملك هذه الذاتيات فضاء خاصا بها، أي أولئك الذين يختزلون في الوضع الاعتباري للصمت والمعاناة والهشاشة الاجتماعية والاقتصادية ،والأعمال القذرة،والأحياء المتناثرة في الضواحي كالجرب.
14-التمرد بالنسبة لهذه الحشود الغفل المقصية من دورة الإنتاج ،لهذه الدهماء هو بمثابة ضرورة أنطلوجية شارطة لها،وحين نتحدث عن الدهماء نشير إلى تلك القوة الاجتماعية المدمرة،المؤسسة التي قد تجرف معطيات التاريخ وسياقاتها في اللحظة الصاعقة التي فيها تنهض.الأمر هنا لا علاقة له "بالإرادة المفترضة لشعب ما " كما قال الشاعر ،لأن التمرد الدهمائي يحدث أحيانا كثيرة بشكل فوضوي عشوائي، بلا نظرية ثورية ولا ثوريين محترفين ولا تنظيم ثوري، وحتى حين ينفجر لا يطرح أبدا السؤال اللينيني الذي أكد التاريخ مصداقيته وهو : ما العمل؟.هناك لدى الدهماء استمرارية معاندة في التمرد، هي بالذات الخاصية المؤسسة للحياة الإنسانية للكائنات الأكثر استلابا، والأكثر حقارة وقذارة التي يمكنها أن تتحرك وتتعبأ.حين تتحرك الدهماء بهذه الطريقة فانها لا تطرح أبدا تعقيدات الممارسة، ولا المتاهات النظرية سلفا ولا تنأسر ضمن تصور مغلق للوعي، يعتقد بأن الفعل الثوري فعل ثقافي خاص يفترض وعيا يكون فرديا بالضرورة ولا يستدعي اي ممارسة .ربما نجد أنفسنا هنا ،بصدد السياسة الدهمائية،ضمن تصور مختلف عما حدده فوكو في إطار "السياسة الحيوية" la biopolitique .يتعلق الأمر فعلا بسياسة حيوية لم يعد الرهان الذي تنهض عليه فيها، هو الحفاظ على البقاء بالنسبة "للحياة العارية" بل على العكس ،وجود السياسة نفسها كما تم التعارف عليها.لا يجب "إنقاذ" الحياة داخل السياسة،بل ان السياسة كما تم تصورها وممارستها عند هوبز مثلا و أقطاب آخرين هي التي يجب "إنقاذها" ووضعها في محك هذه "الحياة الجديدة" ،الحياة التي لم تعد تقبل التدخلات فيها والقرارات البرانية،عن حيز المحايثة الذي فيها تنعلن وتنمرس والتي يمكن أن تتخلى عن أوامر القادة والأمراء والمستشارين ومهرجي البلاط.إنها الحياة المغايرة،الكثيفة،العميقة، الملئ ،المتفرقة اللامنتهية المسكونة بالفرح والأحاسيس التأكيدية،التي تتقدم دائما بالعديد من الخطى على حسابات السلطة الحاكمة .إنها الحياة التي تتوافق مع ترجمتنا التأكيدية الفعالة لها مع قوتنا الطبيعية،والمحايثة المشتركة التي ينبغي ان تكون نمطا محددا لوجودنا المادي هنا / الآن .إنها كما قال ماركس في (مخطوطات 1844) : (العمل ،النشاط الحيوية،الحياة المنتجة التي تبدو كلها للإنسان أولا باعتبارها وسيلة لإشباع الحاجة،الحفاظ على الوجود المادي .لكن الحياة المنتجة هي حياة النوع .انها الحياة التي تنتج الحياة).وحدهم الاغبياء والجهلة يمكن أن يروا تصورا ما للحياة خارج مستوى المحايثة..
15- يجب أن نستحضر باستمرار تقلب الدهماء،عدم استقرارها على اختيارات ما ، وصعوبة ربطها بأمكنة أو أدوار معلومة.حاول فوكو عبر الدهماء التفكير في حركية يبرز من خلالها موقف المقاومة،فعل التمرد ،وبشكل عام،الصراع الاجتماعي والسياسي ضد السلط السائدة،أي نوع من الصراع الذي قد يدفعها ربما للإفلات من استعادتها واستثمارها من طرف علاقات السلطة.إذا كانت السلطة كما يقرر فوكو ،ليست كتلة بل شبكة لانهائية شبيهة بامتدادات شريانية،وإذا كانت السلطة تنتقل دون انقطاع ،ضامة سلفا كل بديل أو معارضة للسلطة "القائمة"،وإذا كان بالإمكان رصد تنقلها داخل الدوائر الحميمية للحياة العاشقة تماما، كما داخل المعرفة فان السؤال الذي سينطرح حينها هو كيف يمكن إنتاج فعل / حركة رفض،تمرد ،تحرر لا تستنفذ ذاتها في بناء شكل جديد للسلطة،ولا تكون إرهاصا أو آلية داخل مجرة سلطة ما ؟ .تعرض فوكو طبعا،عبر طرحه لهذا النوع من الأسئلة،لانتقادات وهجومات وصار محط جدل ونقاش، حيث اتهم بتبني نزعة محافظة جديدة فإذا كانت السلطة ،حسب منتقديه،موجودة في الأمكنة كلها،فما الجدوى إذن من مقاومتها بنية قلب سلطة ظالمة،للاستحواذ على السلطة أو إعادة توزيعها؟.لنعترف بأن هذا الاعتراض هو إحدى الرهانات الصعبة والفجائعية التي أكدتها وتؤكدها الكثير من الأحداث التاريخية والتجارب السياسية.
16-كيف يتجاوز فوكو هذا الرهان الصعب أو القياس الأقرن؟يتجاوزه تحديدا عبر اصطلاع الدهماء la plèbe، كما بلوره في (إرادة المعرفة / 1976) الجزء الأول من (تاريخ الحياة الجنسية).يرسم أيضا في حوار شهير مع الفيلسوف الماركسي جاك رانسيير (Pouvoirs et stratégies)2 المخرج الدهمائي من هذه الورطة، كما بلوره في المقطع التالي :(لا يجب دون شك،تصور "الدهماء" باعتبارها العمق الدائم للتاريخ،الهدف النهائي لكل أنماط الخضوع ،البؤرة التي لا تنطفئ نارها أبدا لكل التمردات .ليس هناك دون شك أي واقع سوسيلوجي "للدهماء".لكن هنا بالفعل دائما شيء ما ،في الجسد الاجتماعي،في الطبقات،في الجماعات ،في الأفراد أنفسهم،يفلت ،بطريقة ما ،من علاقات السلطة(...).لا توجد "الدهماء" دون شك ،لكن هناك شيء ما "كالدهماء".هناك شيء كالدهماء داخل الأجساد و داخل الأرواح،داخل الأفراد والبروليتاريا،وداخل البورجوازية،لكن بامتداد،بطاقات ،صعوبات متنوعة في اختزاله .هذا الجزء من الدهماء هو بشكل أقل الخارج، بالمقارنة مع علاقات السلطة،بل هو حدها ،جانبها الأخر،والمعاكس.انه ما يجيب عن كل تقدم للسلطة بحركة انسحاب وتخلص منها ،انه إذن ما يحفز كل تطور جديد لشبكات السلطة .يمكن اختزال الدهماء في ثلاث أنماط : من خلال إخضاعها الفعلي،أو عبر توظيفها كدهماء،او أيضا حينما تتبث نفسها بنفسها وفق إستراتيجية للمقاومة تبني وجهة نظر الدهماء،التي ترتبط بالوجه الأخر وبالحد بالمقارنة مع السلطة. إن من الضروري اذن للقيام بتحليل أشكالها وأفعالها،انطلاقا من هنا يمكن فهم اشتغالها وتطوراتها.لا اعتقد أن ذلك يجب أن يختلط،بأي شكل من الأشكال،مع الشعبوية الجديدة التي قد تضفي طابعا ماهويا على الدهماء،أو مع النيو-ليبرالية التي قد تتغنى بالحقوق الأولية للدهماء).من خلال التعبير "شيء ما كالدهماء" الذي وظفه فوكو يحاول هذا الأخير التفكير في "حركة نابذة"،في "طاقة عكسية"في "الهروب" الممكن خارج علاقات السلطة ،خارج إعادة إنتاجها الدائمة ،إعادة تأسيسها، التفكير الدائم في التخلص الممكن ،الانفصال الممكن عنها.ما يطرحه فوكو هنا لا علاقة له بالنظرية السارترية للحرية، بل يرتبط فقط بالحركات المضادة لطاقات السلطة وزخمها الجابذ.لا توجد حول الدهماء سوى رهانات القوى، وعبر هذا بالذات تتجسدن النزعة الطاقية الاجتماعية والتاريخية عند فوكو أو فيزياء نظريتة.يظل هذا التصور غائبا جذريا عن منظور تكون الذات التاريخية أو السياسية،ذات الوعي التأملي والفاعل العملي عبر الممارسة الخلاقة في سيرورة التاريخ.
17-لا يتماهى التاريخ المفترض للدهماء مع تاريخ شعب ما أو البروليتاريا،لأن هذه الأخير (الشعب/البروليتاريا)ذو تاريخ ناهض على التقديس،وإضفاء طابع بطولي، تاريخ اسموي أما الدهماء فان تاريخها تجرفه حركة غفلية كبرى عبر سيرورة التاريخ وداخل السياسة.ان الدهماء "وظيفة" أكثر منها "ماهية"، وكونها"وظيفة "يعني بأنها داخل التاريخ أو فضاء السياسة،"مؤلف"يصوغ شكلا/يكتب سردية ذات طبيعة مغايرة للسرديات التي يكتبها الشعب أو البروليتاريا، التي اعتبرتها الدوكسا الماركسية بأنها الذات المؤسسة للثورة الروسية.هناك سرد تقدمي تطوري للشعب،كما نجد في رواية تكون وتأسيس الذات السردية/الوجودية للبروليتاريا كما تحكيها الكتابات التاريخية الماركسية،مسار التاريخ،تطوراته وتراجعاته،نجاحاته وإخفاقاته،يمكن دائما تسميتها استحضارها كإرث،ترميزها، الاحتفاء بها باسم المؤسسين الأوائل،الأبطال والشهداء،الزعماء والقادة،والأمكنة أيضا التي شهدت وقوع الأحداث الحاسمة،التواريخ،الشارات والرموز،...الخ، وضع أسماء على كل هذه الأشياء هو ما يحقق ضمانة المعنى،الاستمرارية والوضوح. لكن ما يقترحه فوكو في سبعينيات القرن الماضي هو فلسفة تاريخ "دهمائية" ،تفرز حركة محو وانبناء للمجهول لا تسمية وانبناء للمعلوم.تؤسس السياسة الدهمائية لمعاني مضادة في التاريخ والسياسة،إذ عوض الأسماء الكبرى والتكريمات والأمكنة الرمزية،تنعلن/تنمرس أحداث صغرى مغايرة،كمظاهرة،تمرد،احتجاج ...الخ، يقوم بها أشخاص لا تحتفظ الذاكرة التاريخية بأسمائهم ولا صورهم.هناك التاريخ المعلن للأسماء الكبرى بصفوف التابعين والمريدين الأوفياء، وهناك التاريخ السري للدهماء.الأول يسير وفق خط تطوري تقدمي والثاني لا يتطور ولكنه يمشي ببساطة،كما يرى فوكو،إلى الأمام.من يعرف الآن اسم الشاب المناضل الشجاع، الذي وقف بجسده الهش أمام رتل من الدبابات وسط ساحة تيان مين ابان المظاهرات للمطالبة بالديمقراطية ، من يعرف اسمه أو صورته،أو اسم الرجل الذي خرج فرحا في أعماق الليل إلى شارع بتونس العاصمة ليردد بذهول"بن علي هرب".
18-صحيح أن سياسة دهمائية ممكنة قد لا يكون أبدا بإمكانها أن تستوطن مناطق النضال والاحتجاج المألوفة، المعلومة،المسماة، و ألا تنعلن سوى عبر ممارسات ملموسة تاكتيكية ومؤقتة.إنها ألق الممارسة الخلاقة التي تعلن عن نفسها عبر مبادرة فاقدة لكل ترو أو صبر بدون استراتيجية، كما يحدث لشرخ ينعلن فجأة داخل جدار.صحيح أيضا أن السياسة الدهمائية تنعلن كفضح خالص لنظام الأشياء،وأنها السياسة-الفضيحة بامتياز.لكنها مع ذلك تنطرح بمثابة طوبى سياسية هامة وضرورية،تماما كملح الوجود،كممكنات اختلافية على المثقفين و السوسيلوجيين مساءلتها.

هوامش :
Spinoza. Traité politique .GF Flammarion 1966.p25.27-28.-1
2-Pouvoirs et stratégies In : Dists et Ecrits Tome 2 2001.P.418-428








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية تفرق محتجين اعتصموا في جامعة السوربون بباريس


.. صفقة التطبيع بين إسرائيل والسعودية على الطاولة من جديد




.. غزة: أي فرص لنجاح الهدنة؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. دعوة لحماس من أجل قبول العرض الإسرائيلي -السخي جدا- وإطلاق س




.. المسؤولون الإسرائيليون في مرمى الجنائية الدولية