الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من -غمام- العقول إلى الوعي المختطف ! (2)

محمد البسفي

2022 / 10 / 24
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لماذا "جزيرة غمام" ؟
بالإضافة إلى هدف تلك الدراسة الأعم الذي حددته الأسطر السابقة؛ تظهر محفزات موضوعية وذاتية من داخل مسلسل (جزيرة غمام) تحديدًا سواءً بما ينضح به كمنتج فني أو ما ارتبط عضويًا بمؤلفه؛ تجعله كـ"منتج فني/فكري" خير مثال نموذجي لما يُراد به - من قِبل نظم حكم البورجوازية المحلية أو نظم سياسات النيوليبرالية المعولمة الحاكمة عالميًا على السواء - تصديره للقواعد الجماهيرية وتربيتها عليه من رسائل ورؤى وفلسفات ما بعد حداثية شمولية التأثير وفاشية التأثر.. ويمكننا إجمال تلك المحفزات والدوافع في الآتي:
1 - لما لاقى العمل من حفاوة وإحتفاء على المستويين الإعلامي والثقافي المحليين.
2 - لما يحمله العمل الدرامي أو ما أراد بثه إيديولوجيًا وفكريًا.
3 - لما يُمثله مؤلفه "عبدالرحيم كمال"؛ كنموذج لمثقف عصر الكومبرادور وما يُعانيه من تناقض يدفعه للرقص على جناحي اليمين الرأسمالي المعولم؛ بين أدبيات وموروثات الميثولوجيا السلفية وثقافات ما بعد حداثية.
4 - لما لاقاه الكاتب "كمال" من إحتفاءٍ ودعم من رأس النظام المحلي، وذلك دلالة على مدى ما يُمثله ككاتب نموذجي لعصر التبعية لمجتمعات الهامش في خريطة العولمة.
5 - .. وأخيرًا: لما تُريده الرأسمالية النيوليبرالية المعولمة منا - كشعوب مجتمعات الدول النامية - من تيه داخل الدوائر "المادية/الروحية" والمراوحة بين تناقضاتها الحادة والناعمة؛ عبر بث رسائل ومفاهيم الهوس الديني أو الروحي مغلفة بتنظيرات وأدوات وألعاب ما بعد حداثية.
• * *
.. قبل أن يبدأ الكاتب سرد حدوتة جزيرته أراد أن يُصّحح لنا ملمحها الجغرافي كشبّه جزيرة وليست جزيرة؛ (متصلة باليابسة نافيًا عنها الانفصال)، على لسان إمام المسجد الذي أصر على حكي قصتها "المبروكة" وسر تحول اسمها من "جزيرة غمام" إلى "جزيرة عرفات"؛ أمام ضيف القرية العظيم "أنور السادات"، وربما لكونه الرئيس المؤمن أو لأنه يُحب "الحكايات"؛ كما أعلن بنفسه ذلك لشيخ المسجد، سمح الرئيس بسرد رواية الجزيرة التي ليست بجزيرة.. وهنا يخرج "عبدالرحيم كمال" عن عادته كسيناريست واضح الرموز الدرامية ومباشر في إسقاطاته لحدٍ لا يجهد معه المشاهد من أقل المتابعين والمهتمين بالثقافة العامة والدينية على وجه الخصوص، ليُفاجيء المتلقي في الدقائق الأولى من بداية السيناريو بشبه إقحام لشخصية "السادات" المنفصلة تمامًا عن جسد النص وأحداث ما سيّروي.. ودلالة اختيار الكاتب لشخصية "السادات" بالذات ربما تدور داخل إحدى ثيماتٍ ثلاث أرادها المؤلف من طرف خفي:
هل لأن "السادات"؛ أول رئيس سمح لتيار الإسلام السياسي؛ ممثلاً في "جماعة الإخوان المسلمين"، بلعب دور سياسي/اجتماعي أصبح منذ فترة سبعينيات القرن الماضي مؤسسًا لما قام به - ومازال - الإسلام السياسي من أدوار محلية وعالمية حتى اليوم ؟
أم لكونه أول رئيس جمهورية يُصبح "شهيدًا" للإسلام المتطرف بعد اغتياله؛ بداية الثمانينيات، كما تُحب الآلة الدعائية الغربية وتوابعها من ساداتي الداخل وروافدهما؛ حتى اليوم، ترويجه في تصديراتهما ؟
أو قد أراد "كمال" - بما عهد عن فنياته من مباشرة وتصريح - بشخص الرئيس الراحل؛ ممثلاً لنموذجية "المستبد العادل"؛ إحدى رموزه التي بنى عليها سيناريو العمل؛ كما توضح السطور المقبلة.
حينما ينفصل النص عن أرض واقعه..
.. تحت أجواءٍ كابية يُصارع أهل الجزيرة ثلاثة معوقات ضارية تحول بينهم وبين هدفهم البسيط في عيشٍ كريم.. طبيعة شديدة القسوة لقرية نائية من صعيد مصر أقصى الجنوب المهمش في بدايات القرن العشرين - قبيل الحرب العالمية الأولى - يأكلها ملح البحر المتّسيد فهو يكاد يحّوطها من كافة الاتجاهات ويُظللها غمام متسّلط حاضر دائمًا حتى في اسمها؛ لتُخبز الطبيعة من ملامحها تلك "لقمة عيش" أهل الجزيرة وتحصر قوّتهم في ما يجود به البحر من أسماك.. وتسّيد طبيعة حملت كل هذا القدر من القسوة في معالمها تُمهد لهيمنة الفقر على ساكنيها؛ فصنعتهم الوحيدة الصيد وبيوتهم شبه الدائمة مراكبهم الصغيرة المتهالكة التي يقطنونها جل وقتهم أكثر مما يقضونه بين أطفالهم الجوعى في "عِشش" سكناهم؛ ينتظرون فيض خير البحر البخيل.. والبحر الضنين وطبيعته المتجّبرة ليسا منفصلين عن عدوٍ ثالث لأهالي الجزيرة الحفاة الجوعى مكتسي الآثمال؛ بل تأتي ثالثة الأثافي ممثلة الضلع المفقود في مثلث فقر وسواد عيش مواطني القرية وهو احتكار أسيادها من حكامها الإداريين وأعيانها الماليين لمقدراتها ونتاج خير مياهها من أسماك ومعادن ليمتلكونه ويُتاجرون فيه لمن يدفع أكثر من خارج الجزيرة دون صياديها الفقراء الذين رغم جلبهم لهذه "الثروة السمكية" يُحرمون منها طبقًا للقانون الأزلي للملكية المقدسة في توزيع الأرزاق: "الوفرة للسادة المُلاك والفقر للعاملين عليها وجالبيها"، وحينما يشتد الكساد ويعض أجساد الصيادين الهزيلة ويُهدد حياتهم وبالتالي تكل أيديهم جالبة الخير وتنقص أو تقصر؛ لا مانع من توزيع فتاتٍ نزير من وفرة الأسياد عليهم حفاظًا على دولاب الجلب ودعمًا لآلة الثروة والخير..
.. كل هذا الواقع النابض بحياة صدئة لا يهم "عبدالرحيم كمال" في شيء ولا ينشغل به.. فهو منشغل بما هو أهم بالنسبة له ويعتبره مصيري في حياة القرية ومواطنيها؛ لهذا اهتم الكاتب بما يحدث هناك في منزل شيخ الجزيرة ومكمن علمها "اللدّني".. فالشيخ يحتضر وإرثه يُقسّم على حواريّه الثلاثة كلٍ بمقّدار ولكلٍ قّدره الذي يتناسب ودوره الذي يلعبه كل واحد منهم في قدر الجزيرة ومستقبلها القادم؛ فإرث الشيخ هو مُفّرج الكرب وحاقن الدماء المظلومة وباريء العليل وكاسّي العاري ومطّعم المّحروم وعليه تنعقد آمال القاصي والداني ومطمئن الحيّارى وساكن للقلوب الملتاعة، باختصار هو الحل والإجابة لكافة تناقضات الجزيرة ومشاكل أهلها ومُزيّل حوائجهم ومسّددها.. ولكن؛ السؤال: ما هو الإرث الحقيقي للشيخ العليم بين تركته التي قُسّمت إلى ثلاثة أقسام انفصلت كل منهما في اتجاه ؟.. هذا هو السؤال الرئيس الذي أراده "كمال" لنا أن نغرق فيه بحثًا عن إجابة على طول رحلته في الجزيرة تاركين - معه وبقيادته - أهالي الجزيرة أنفسهم بعذاباتهم وضنك عيشهم وتناقضات نظامهم الاجتماعي على الهامش قليلاً؛ ولا نقلق فلهم دورهم الذي يُناسب قدرهم.. فأهالي القرية هم مجرد "الأدوات" التي يُجسد المؤلف عبرها إجاباته على السؤال القائد بالتدريج وبتمهل الأستاذ على تلاميذه..
وهنا.. اختار المؤلف شخوص السيناريو الخاص به لسرد حكاية الجزيرة وأهلها من نفس المعون الذي عهدناه دائمًا من "كمال"؛ في تحقيق مشروعه - وهمه الخاص - بقراءة واقعنا اليومي العام المعاش - ونحن في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين - بمنظار مثيولوجي بحتٍ خالص النقاء؛ والذي تمدد على طول إنتاجه الدرامي وربما "الفكري" بوجهٍ عام، ليس بداية من مسلسل (الرحايا) المُنّتج عام 2009 ليُسّقط واقع قصة النبي يوسف وإخوته على أرض الصعيد المصري القبلي؛ مرورًا بأعماله: (الخواجه عبدالقادر) و(ونوس) كمثال؛ وإنتهاءً بمشهد النهاية في آخر أعماله المذاعة (جزيرة غمام)، ليُكثف رؤيته ويُعلن انتصاره في فك تلغيز أسئلته وتلبية احتياجات أبطاله عبر محاكاة زاعقة اللون لسفينة نوح كحصن نجاة من طوفان التطهير العاتي الذي سرعان ما ينقشع عن أرض جديدة حبُلى بالأمل والطموح.. يقول "محمد حلمي هلال"؛ الكاتب والسيناريست المخضرم: "عندما يعجز كاتب السيناريو عن إيجاد حل أو مخرج للمشكلة التى صنعها هو نفسه، يلجأ للفبركة، السحر، المثيولوجيا، الميتافيزيقا أو الغيب؛ كما أعتاد الكاتب عبدالرحيم كمال أن يفعل، فكل التيمات التي كتبها منذ مسلسل (ونوس) واحدة: صراع بين الشيطان والإنسان، تبدو تلك التيمات مثيرة في بدايتها ثم تضعف بالتدريج إلى أن يعجز الكاتب عن العثور على حل للأزمة التي صنعها بيده، ولا يبقى أمامة سوى فبركة حل للصراع الأساس لموضوعه بالاصطناع والتخريف، لابد أن يختبر عبدالرحيم قدراته بعيدًا عن الدروشة الصوفيه وحكايات مأخوذة من سير الأنبياء والمرسلين" (1).
.. من هذا النسيج يبدأ كمال غّزل أبطال روايته من أنماط ترقص على نفس اللحن؛ شخصيات تم توظيفها داخل دوائر مغلقة تستمد صراعاتها ومحفزات تناقضاتها من داخل تقعيرها الذاتي وليس من ضغوط اجتماعية أو عوامل خارجية؛ لتدور الشخصية في سيناريو المؤلف داخل ذاتها دورتها الكاملة وقد استمدت طاقات صراعها أمام دائرة مغلقة أخرى للشخصية المقابلة.. القديس أمام الشيطان (عرفات في مواجهة خلدون)؛ الإسلام السياسي ومادية قانون الشريعة أمام الإسلام الصوفي الروحي الخالص (المناظرة بين محارب ويسري من جانب وعرفات من جانب آخر)؛ المستبد العادل أمام بطانة الحكم الفاسدة الرعناء التي يأكلها الطمع والجشع (العجمي مقابل بطلان)؛ الدنس أمام الطُهر (العايقة حينما تُصارع نّواره بداخلها).. حتى كنى وأسماء الشخصيات لجأ المؤلف فيها إلى الإسلوب الكلاسيكي من فنون السيناريو في اختيار أسماء شخوصه الرئيسة شديدة الدلالة على توظيفها الدرامي ونشاطها في مجالها الاجتماعي المحيط.. عرفات (المعرفة/العارف)؛ محارب (التشدد الديني لحد الحرابة من أجل التسلط)؛ يسري (المسّتغل للقناع الديني عبر تيسير مفاهيمه وأحكامه لدرجة الرهافة والتشعوذ تغذية لشهواته في المال والنساء وتنمية مصالحه الشخصية)؛ خلدون (الخالد مع البشرية عبر وسوساته وبث شروره كما يتمثل الشيطان في الروايات المثيولوجية)؛ بطلان (بطانة الحاكم ومساعدوه المنتهجة الباطل فعلاً وممارسة)؛ هلالة (خليلة الحاكم وهلال ظلمته النفسية وهاديه القيمي والعاطفي الدائم)؛ العجمي (الحاكم المستبد العادل؛ وإن تذكرنا الحقبة التاريخية التي تدور فيها الأحداث بدايات العقد الثاني من القرن العشرين فمصر مازالت تحت حكم الخديو عباس حلمي الثاني قبل خلعه من قبل الاحتلال البريطاني لصالح عمه حسين كامل؛ وفضلاً عن كون الإثنين من أسرة محمد علي باشا ذات الأصول الألبانية الأجنبية عن مصر، فسنجد عطفًا ملفتًا لسيناريو عبدالرحيم كمال على واقعة خلع عباس حلمي الثاني يكاد يكون الاهتمام الوحيد للسيناريو بشأن سياسي عام يجري خارج جغرافية الجزيرة، ذلك بمشاهد بدأت بزيارة أحد معاوني الخديو للجزيرة باحثًا عن عراف يقرأ له طالع أمير البلاد ومستقبله في الحكم ونتعرف من خلاله على فلسفة الشيخ عرفات في إدارة الحكم وسياسة العباد، وتنتهي بمشهد مٌنادي القرية - الذي يظهر لمرة وحيدة - مذيعًا نبأ عزل الخديو على أيدي قوى الإنكليز وانتفاضة ثائرة أهل المحروسة غضبًا من ذلك ولا يُعلمنا السيناريست أسباب هذا الغضب الذي عم مصر قاطبة واقتحم جزيرته ذاتها لدرجة حزن حاكمها العجمي لحدٍ قارب البكاء؛ سوى مبرر يتيم وهو أن عباس حلمي كان حاكم "يُحب مصر" !).
..........................................................
(1) الحساب الشخصي للكاتب والسيناريست "محمد حلمي هلال"؛ على موقع (فيس بوك)، في شهر حزيران/يونيو 2022.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في


.. رفع علم حركة -حباد- اليهودية أثناء الهجوم على المعتصمين في ج




.. 101-Al-Baqarah


.. 93- Al-Baqarah




.. 94- Al-Baqarah