الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجريم الإسلام.. دعوة للتنقيب بحثاً عن كل جذور العنف في العراق

سعدون محسن ضمد

2006 / 10 / 3
المجتمع المدني


يخطئ كثيراً من يحسب أن الموجِّهات المتحكمة بالمجتمع يمكن إجمالها بعامل واحد. ويخطئ أكثر من يحسب أن العلاقة بين بعض الموجهات أو المحركات ـ في حال أنها اكتُشِفَت ـ وبين سلوك اجتماعي ما، ستضل ثابتة إلى الأبد. في العراق خرج المجتمع في سلوكه عن حدود المعقول، صار فريداً في غرابته، وحشيته، بشاعته، وصار على هذا الأساس بحاجة ماسَّة لدراسته، دراسة سلوكه الدموي، من أجل تشخيص جذور هذا السلوك القديمة، ومحفزاته ودوافعه الحالية، وغاياته المستقبلية.
في العراق هناك نكوص حضاري واضح، تراجع واضح عن القيم المدنية لحساب قيم الريف، أو حتى لما دونها من القيم. في العراق انقلاب مخيف على مستوى الوظيفة، بين المعايير المتحكمة بالسلوك من جهة، وبين نفس السلوك من جهة أخرى، فبدل أن تكون وظيفة المعايير ضبط المجتمع والتحكم بسلوكه، صار السلوك الاجتماعي هو المتحكم بخريطة القيم والمعايير، لدرجة أن هذه المعايير صارت تتبع تلونات هذا السلوك وتناقضاته، وتلهث وراء شرعنة جميع جرائمه. الأمثلة على ذلك كثيرة، فالدين (وباعتباره منظومة قيم ومعايير) صار يرضخ لضغوط واملاءات ومستجدات الواقع الاجتماعي ويتزيّا بزيها، لقد تحول الدين لِمَرْكَبِ غايات شتى. الجميع يقتل باسم الدين، ينهب باسم الدين، ويحكم باسم الدين. وبدل أن يكون الدين هو الحَكَمِ بين هذه المتناقضات، تحول لمجموعة مراكب تُحَمَّل عليه حمولاتها البشعة، وما ذلك إلا لأن منظومةالمعايير المخزونة في هذا الدين، خضعت لهذا (الانقلاب الوظيفي) وما عادت بالتالي تستطيع أن تؤدي دورها، الأمر الذي يستدعي منّا التوقف للكشف عن أسباب ذلك.
الآيديولوجيا وبوصفها منظومة معيارية ثابتة، هي الأخرى نال منها هذا المرض (الانقلاب)، وبدل أن تعمل الآيديولوجيا على ضبط إيقاع الواقع السياسي، صارت تنضبط بحسب متحكماته، لدرجة أن تصبح الآيديولوجيا في الأحزاب الدينية أكثر علمانية من العلمانية نفسها، والثانية أكثر تديناً من الأولى، وهكذا...
كما قلت في البداية، فإن إلقاء كل المشاكل في سلة عامل واحد خطأ فادح، أن نقول أن الدين وحده هو السبب خطأ، أو البيئة أو العوامل الاقتصادية أو السياسية.. الخ.
الدين فاعل مهم، بكل تراثه الذي يملي التطرّف ويستدعى الفردانية ويسبغ بالتالي القدسية. البيئة كذلك (الاجتماعية والطبيعية) أيضاً بكل مؤثراتها، ابتداء بجفاف الصحراء وما تنتجه من جفاف في الأرواح وانتهاءً بكل التخلف والجهل الذي تسبح به فعّاليات التعليم أو التنشئة الاجتماعية أو ما إلى ذلك، العامل الاقتصادي هو الآخر يلعب بنفس الساحة التخريبية، خاصَّة وهو يعود بالمدينة لأخلاق الريف، من خلال عجزه عن ترسيخ معايير المجتمع الحديث التي تتأسس على حراك اقتصادي يتقاطع بقوة مع أنساق القرابة، وما تمليه من عصبيات مريضة. ولو أننا رسمنا خريطة لواقع العنف الحالي في العراق لوجدنا أن هذه العوامل الثلاثة تتركز وبشكل يثير الحفيظة في جميع مناطق التوتر. معظم ـ إذا لم يكن كل ـ مناطق التوتر في العراق تنتمي لبيئة ثقافية متشابهة، ولواقع اقتصادي متماثل ولمستوى ديني (راديكالي) متقارب.
لا بد من الإشارة إلى أن المبرر الذي يسمح بإخراج الدين من البيئة الاجتماعية ـ باعتباره أحد مكوناتها ـ ومحاكمته منفصلاً عنها، هو أنه، ومن خلال المؤسسات الدينية، تحول لِمَركَبِ غايات مريضة، وبشكل مخيف، فليس هناك خطر كخطر اللصوص الذين يرتدون أزياء دينية، ولا أزمة كأزمة قتل وتخريب يتَّخذ من الدين استراتيجية، ولا هول كهول جماعة تتخلى عن جميع ثوابت دينها الاخلاقية ولا تحتفظ إلا بشعارات الحق التي يراد بها الباطل.
وهنا تكون الحاجة للدقة بالتحليل ملحَّة، إذ الدين هنا ـ وباعتباره محرك سلوك ـ ليس فاعلاً بقدر ما أنه مُنْفَعِل، مُنْفَعِل بباقي عناصر البيئة (طبيعية/ اجتماعية/ اقتصادية). أي أنه يتعرض لعملية إعادة إنتاج، طبعاً لا يخرج منها بريئاً تماماً، لكنه لا يتحمل من وزرها الحصَّة الأكبر. فالتخلف الاجتماعي يؤثر ولا شك على عملية قراءة الدين، إذ من الواضح أن الإنسان ـ ومن خلاله المجتمع ـ يتعامل مع مواضيع إدراكه بشكل انتقائي، وهو في سياق حكمه على أي موضوع لا يأخذ بنظر الاعتبار جميع الحيثيات التي يجب أن يلاحظها في حكمه، بل فقط تلك التي يريد أن يلاحظها، بالتالي فإن القراءة ـ التي تتحكم بها الذات بكل خزينها العقائدي والتراثي والعاطفي ـ ستكون في نهاية المطاف انتقائية.
في الدين مجموعتين من النصوص المتعارضة، نصوص تدعوا للغلظة والخشونة، وأخرى تدعوا للرأفة والإحسان، والمجتمع وهو يختار، يمارس نوع من أنواع التعسف، الذي تمليه الثقافة وربما البيئة أو الظرف السياسي أو الاقتصادي.
إذن عملية تجريم الدين التي تحولت لبضاعة رائجة في سوق الفكر العراقي، تفتقر لدقة القراءة (التحليلية/ الانثروبولوجية). القراءة التي تتأسس على النظرة الشاملة التي تأخذ بنظر الاعتبار جميع مظاهر الأزمة، جميع المتحكمات فيها، لتصل من خلال ذلك لكل الجذور التي تتولى عملية تغذيتها.
بما أن الدين يُقْرأ بصيغ مختلفة ويُنْتِج من ثم نتائج مختلفة، فعلينا أن نبحث عن المتحكمات بهذا الموضوع. لقد كان الكثير من أجدادنا ممن يمتهنون رعي الحيوانات، يجدون في الغارة على الآخرين وسرقة أموالهم، فضيلة حقيقية وعنوان للرجولة؛ وكان سبب اعتبارها كذلك، أنها السبيل الوحيد لكسب الرزق بالنسبة للكثير منهم. والسؤال المهم هو: كيف استطاعوا أن يجمعوا بين كونهم مسلمين وبين كونهم لصوص؟
لقد فعلوا ذلك لأن الثقافة وهي تستقبل الدين وتنفعل به لا تتنازل له عن جميع فعّالياتها، بل فقط عن تلك التي تستطيع أن تتخلى عنها، وعلى هذا الأساس يكون الدين ملزماً بالتنازل أيضاً، وبما أن الدين كـ(بنية نصوص ثابتة) لا يمكن له أن يفعل ذلك، إذن تعمل الثقافة ومن خلال الانتقاء على خلق دينها الخاص، الدين الذي يقبل بالأمر الواقع، واقع أن السرقة ضرورية للمجتمع البدوي. وهكذا تجري عملية مصالحة بين الثقافة ونفسها، فهي لا تستطيع أن تقمع الدين الوافد، وهي من جهة أخرى لا تستطيع أن تتخلى عن ضروريات وجودها، إذن فلا بد من عملية إعادة انتاج للدين، لإرغامه على القبول بـ(الذبح والتفخيخ والتعذيب والتفجير والتهجير....).
لقد قامت الثقافة التي أنجبت التطرف السلفي، بعملية بحث في كل التاريخ الإسلامي سعياً وراء فكر يتلائم وتوجهاتها، وهكذا إلى أن وجدت ابن تيمية، أي أنها نجحت بالتالي من إيجاد ثوب إسلامي يناسب مقاسات واقعها (القبائلي/ الصحراوي). إذن الثقافة لا تتلقى الدين تلقياً سلبياً، والسلوك المجتمعي الذي يتزيّا بزيٍ ديني لا يكون أبناً شرعياً لهذا الدين فقط، بل هو يتزيّا بالزي الديني فقط عندما تكون الشرعية الوحيدة المقبولة اجتماعياً هي الشرعية الدينية، ولو لم يكن المجتمع متديناً، لبحث التطرف عن شرعية أخرى، آيديولوجية مثلاً، وهذا ما حدث فعلاً بالنسبة للتطرف البعثي بحق الشيوعيين، أو التطرف الشيوعي بحق البعثيين، فكلا السلوكيين كانا يتعكزان على الشرعية الآيديولوجية، فقط لأن المجتمع العراقي آنذاك كان قليل التدين، والآن عندما عاد المجتمع متدينا بشدَّة، نجد أن كلا الحزبين أخذا يقتربان من التوجه التديني للمجتمع، وما هذا الاقتراب إلا سعياً مكشوفاً للشرعية الاجتماعية، فلم يعد هناك حاجز (كونكريتي) بين التدين والشيوعية، ولا بين البعثية (العربية) وبين شعارات الجهاد في سبيل الله.
في نهاية المطاف ما السبب وراء ما يحدث، الدين؟ الثقافة؟ الفقر؟ الإقصاء؟ أم الإنسان؟
في النهاية مهما كانت الإجابة على مثل هذا التساؤل صعبة فإن دراسة هذه الإجابة والبحث عنها بحثاً علمياً لن تكون صعبة بنفس القدر. نحن بحاجة لأن ندرس الأسباب بصورة علمية. لقد أثبتت الأيام أن سياسة حرق المراحل كانت وما تزال غير مجدية، وهي تثبت لنا أيضاً بأن تجاهل ضرورات الدراسات البحثية العلمية لمشاكلنا سيوقعنا بمطبات لا يمكن تصورها. فقد يكون من السهل علينا أن نتهم الدين بكل مشاكلنا، وننتظر بالتالي اليوم الذي نفرغ فيه من (بلواه)، كما كان سهلاً علينا أننا توكلنا على الله وشرعنا بتطبيق الديمقراطية، هكذا وكيفما اتفق. لكن إذا كان للأزمة جذور أعمق، فلن تكون عملية حشر الدين وحده في قفص الاتهام غير ممارسة أخرى من ممارساتنا الارتجالية غير المدروسة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأمم المتحدة: نحو نصف مليون من أهالي قطاع غزة يواجهون جوعا


.. شبح المجاعة.. نصف مليون شخص يعانون الجوع الكارثي | #غرفة_الأ




.. الجنائية الدولية.. مذكرتا اعتقال بحق مسؤولَين روسيين | #غرفة


.. خطر المجاعة لا يزال قائما في أنحاء قطاع غزة




.. ما الأسباب وراء تصاعد الجدل في مصر بشأن اللاجئين السودانيين؟