الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان الآلي

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 10 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يبدو وكأن هناك ثنائية جديدة تتعلق بالعقل ذاته هذه المرة، بل تعددية ناتجة عن تضخم النشاط العقلي واتساع الحقول التي يهتم بها فهناك العقل الذي يشرّح جثة الإنسان ويدرس كل جزء منه، من الشكل الخارجي لأعضائه ومفاصله إلى التفاصيل الداخلية الدقيقة للخلايا والأعصاب وصولا إلى البطاقة الجينية لكل فرد على ظهر البسيطة وإنجازات هذا العقل في مختلف الفروع العلمية التي تعني بدراسة الطبيعة تزداد تطورا وتعقيدا وتشابكا كل يوم. والعلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والجيولوجيا وعلوم الأحياء هي من نتاج هذا العقل الذي يقوم بالبحث عن معرفة " الطبيعة " بكل مكوناتها ومن ضمنها الإنسان ذاته كجزء من هذه الطبيعة مثله مثل بقية الحيوانات والأشياء الطبيعية، ويبحث عن معرفة حركة الأشياء وميكانيكيتها وأسبابها والقوانين التي تسيرها. وهناك عقل آخر يتجه إلى الإنسان ويحاول معرفته " حيا " يسير في الشارع أو جالسا أمام بيته يراقب السيارات المارّة أو عاملا يتصبب عرقا ويلعن الدنيا ومن خلق عبودية العمل، ومنغمسا حتى النخاع في الحياة والعلاقات المتشابكة مع أمثاله من البشر. هذا العقل يريد معرفة سلوك هذا الإنسان " المواطن " أو " المهاجر " أو " السائح " أو " المنفي " أو " اللاجيء ".. كيف يأكل وماذا يأكل وأين يأكل ومتى يأكل ومع من يأكل، وما هي طبيعة علاقته بالناس الذين يعيشون بالقرب منه واحدا واحدا، ولكن أيضا تفاصيل أحاسيسه الداخلية وعواطفه ورغباته الخفية والظاهرة وكيف يتعامل معها .. وكيف يعبر عن هذه العلاقة في الفن والأدب والشعر والدين والأساطير، أي دراسة الإنسان وإنتاجه وتفاعله مع العالم من جميع جوانبه. وهو ما كون ما يسمى بالعلوم الإجتماعية أو الإنسانية، لأنها تهتم بالإنسان وعلاقته داخل الحضيرة ببقية البشر مثل علم الإجتماع وعلم النفس والتاريخ والأنثروبولوجيا والأركيولوجيا .. إلخ . في بداية الأمر، كان العقل وحدة متكاملة يتسائل ويبحث وينقب في كل الإتجاهات دفعة واحدة، تحت إسم الفلسفة، حيث كان الفيلسوف يبحث في الطبيعة، في الأرض والسماء، الله والإنسان، فكان رياضيا وفيزيائيا وعالم اجتماع ومؤرخا وعالم في الإحياء وحركة النجوم. وتطورت تدريجيا كل هذه العلوم وظهرت التخصصات المختلفة وانفصلت عن بعضها وكونت مجالات فسيحة ومتسعة تحتاج إلى حيوات عديدة للإلمام بجزء يسير من مكوناتها، حتى لا نكاد اليوم أن نعرف ما يربط الأركيولوجيا أو فن التصوير مثلا بالرياضيات أو بعلم الجينات. وهذا الفصل التاريخي الذي أملته ظروف تطور العلوم واتساع مواضيع بحوثها أدى حتما الى الإنطباع السائد بوجود عدة عقول متصارعة، متناقضة أو متكاملة، بدلا من العقل الواحد مصدر كل هذه العلوم وأدى إلى تشتت العقل والتشكيك في بعض قدراته وخلق نوع من التراتبية بين العلوم المختلفة. واليوم وصل الإنسان إلى مرحلة لم يعد يتحكم فيها في إنتاجاته وإفرازاته العقلية نتيجة تطورات واكتشافات مذهلة، تجاوزت بكثير المراحل السابقة، إلى درجة مرعبة من التقدم العلمي والتكنولوجي، حيث تجاوز الإنسان مرحلة المراقبة الخارجية للعالم والتعجب والدهشة من التركيب العقلي لقوانين الطبيعة، إلى مرحلة التجربة والتطبيق والتدخل في هذه القوانين ذاتها وتغييرها. كما ظهرت العديد من المشاكل التي نتجت بفعل تطور العقل وتدخله المباشر أو غير المباشر لتغيير الطبيعة، كمشاكل تلوث البيئة والاتصالات والطاقة وثقب الأوزون والنفايات النووية والمعادن والإنترنت وأمكانية المراقبة الدائمة لكل سكان الكرة الأرضية والاستنساخ وأسلحة الدمار الشامل والعولمة، ومع التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية صار بالإمكان التدخل في آلية الجينات الوراثية عند الإنسان واختيار إنسان المستقبل. وربما القفز بالإنسان إلى تغيّر نوعي في بنيته العقلية والجسدية مثل الانسان "السايبورج" الذي تدرسه فروع متقدمة من التكنولوجيا الإلكترونية HCI ـ human-computer interaction أوالتفاعل بين الإنسان والكمبيوتر..والتي تهدف الى تحكم وتوظيف الكمبيوتر والآلة في وظائف الإنسان... والجمع بين الأجزاء العضوية والاصطناعية. كيفن وارويك Kevin Warwick العالم وأستاذ علم التحكم الآلي في جامعة ريدينغ Reading في بريطانيا هو أحد العلماء الذين بدأوا في مثل هذه المشاريع وهو الذي قام بدراسة الواجهات المباشرة بين أنظمة الكمبيوتر والنظام العصبي البشري بالاضافة لعدة بحوث هامة في مجال الروبوتات... ولارويك له وجهة نظر و"فلسفة" تشرح وتبرر أعماله المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وتأثيره على الجنس البشري.. ويدعي أن الإنسان يحتاج إلى استخدام التكنولوجيا لتعزيز قدراته على التفكير والتغلب على القيود ومحدودية قدراته الحسية البشرية بواسطة التعاون مع الآلات. وإذا كانت الفلسفة هي البداية في تنظيم المعرفة البشرية وبنائها في قوالب ومنظومات شكلية وعملية في فترة تاريخية بعيدة فما هو دورها اليوم، في الوقت الذي اتسعت فيه مساحة النشاط الإنساني لدرجة لم يعد يميز بين ما يقوم به في المعامل ونتائج هذه الأعمال على الحياة، وهل الفلسفة يمكن أن تعطي معنى لهذا النشاط الإنساني الذي قد يؤدي إلى فنائه وانقراضه ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل.. تداعيات انسحاب غانتس من حكومة الحرب | #الظهيرة


.. انهيار منزل تحت الإنشاء بسبب عاصفة قوية ضربت ولاية #تكساس ال




.. تصعيد المحور الإيراني.. هل يخدم إسرائيل أم المنطقة؟ | #ملف_ا


.. عبر الخريطة التفاعلية.. معارك ضارية بين الجيش والمقاومة الفل




.. كتائب القسام: قصفنا مدينة سديروت وتحشدات للجيش الإسرائيلي