الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مأساةُ الحِمار العَربيّ

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2022 / 10 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لا يَنَي الإنسانُ، مُذْ بدأَ يحبو في أرضِ الوعي تحتَ سماءِ الإدراك، يُحاولُ تأسيسَ مملكتِه الخاصَّةِ على أنقاضِ مملكةِ الحيوان التي ينتمي إليها، جُزئيًا على الأقل. ورغمَ ما تحويه عِبارةُ "مملكةِ الإنسان" من تناقضاتٍ لا تُشبهُ إلّانا، فإنّنا غالبًا ما نُدافعُ عنها لنُبرّرَ إجرامَنا بحقِّ أنفُسِنا من جهة، وبحقِّ الكونِ المُبدَعِ من جهةٍ أخرى. إذ أنّ مملكتَنا تجعلُ من تفرُّدِنا بطبيعتنا مُبرّرًا مقبولًا عندَنا لممارسةِ غطرستِنا واستكبارِنا على كلِّ ما يقعُ تحتَ عُنوانِ الـ «لا إنسان». ولعلَّ أحدَ ما يدفعُنا لفلسفةِ وجودِنا والبحثِ عن معناهُ، أو معنانا، هو رغبتُنا المُلِحّةُ على أنانا، أو أنانيّتِنا، في تقديمِ فكرةٍ، أو نظريّةٍ، مُضادّةٍ لفكرةِ العلمِ الطبيعي الذي لا يَنِي يقولُ لنا ما مَفادُه؛ «ما أنتُم إلّا حيواناتٌ متميّزة.. ولستُم إلّا غُبارَ نجومٍ وتكتّلَ ذرّاتٍ يملؤها الفراغ.. فتواضع قليلًا أيُّها الإنسانُ الحيوان». لكنّنا نشعرُ أنّنا لسنا كذلك، وليستْ تُرضينا كلمةُ «مُتميّزة»، فنحنُ لسنا مُجرّدَ حيوانات مع القليل من بهارات التميّز. نحنُ أكبرُ من هذا بكثير، وتعريفُنا لا بُدَّ أنّه لا يقفُ عندَ حدودِ جُمهوريَّة الحيوان. ورغمَ أنّنا لسنا بصددِ الحديثِ عن تميُّزِ الإنسان، أو فرادتِه، إلّا أنّه لا بُدَّ لنا، حتّى لا نقطعَ الكلامَ من حيثُ لا يُقطع، أن نستفزّ وعيَنا بأنفُسنا، وبإشكاليّة تفرُّدِنا على وجه الخصوص، ثمّ نمضي إلى مأساةِ الحِمار العربيّ.

في الواقع لا يُمكنُ للإنسانِ أنْ يُعرَّفَ، أو أنْ يُعرِّفَ نفسَه، بأنّه حيوانٌ مع وقفِ التنفيذ، إنْ جازَ التعبير. فالإنسانُ، من حيثُ هو، ليس إلّا ثُنائيّةً ماديّة-روحيّة مُتّفقٌ على شُقِّها الأوّل ومُختلَفٌ على شُقِّها الثاني. والواقعُ أنّ التفسيراتِ الماديّة البَحتَة للإنسان وطبيعةِ وجودِه تعجزُ عن تفسيرِ الكثيرِ منَ الوقائع التي تقعُ للإنسان، كما أنّها تحملُ في خفاياها نزعةً جَبريّةً تُشبه القدرَ الذي لا تؤمن به. أمّا الدّين، أو الرؤية الدينيّة للإنسانِ والعالَم، فإنّه يتّسعُ أكثر للوقائع العصيّة على أن تُفسّرَ مادّيًا، حيثُ أنّ الدّين يُقرّرُ، بصورةٍ أو بأُخرى، التميُّزَ الخلّاق المتحقّق في الإنسان، دون أن يُهملَ طبيعتَه الحيوانيّة. وبالتالي، إنّ دورَ الدّين لا يقلُّ أهميّةً عن دورِ العلمِ إذ بكلَيْهِما يتحقّقُ التوازنُ المطلوبُ لتطوّر الإنسان ذي البُعدَيْن المتضادّيْن، أو المتناقضَيْن على الأقل. على أنّ هذا التوازن يبقى مشروطًا بأنْ يُوضعَ كلٌّ من الدّين والعلم في حيّزَيهِما الطبيعيَيْن.

بيدَ أنّنا، بوصفِنا أفرادًا من النوعِ الأسمى، قد بلغنا في سُمُوّنا المَزعومِ أنّنا ترفَعنا عن ذِكرِ شُركائنا في الوجود، والحيوانات على وجه الخصوص وبعضِ أنواع الحيوانات على وجه التحديد، ذِكرًا يليقُ بنا وبهِم. ففي مُجتمعاتنا الإسلاميّة عمومًا، والعربيّةِ على وجهِ الخصوص، يعيشُ الحمارُ، مثلًا، مأساةً إنسانيّة، إن جازتِ النِسبة، لمُجرّدِ أنّه حِمار، إذ أنّنا نتحدَّثُ عن الحمار كما لو أنّه مُنافسٌ لنا على مرتبةِ الكرامة والسُمُوّ. وليس الحمارُ ههنا إلّا مُتحدّثًا بالنّيابةِ عن شُركائه في المأساة والمُعاناة كالكلبِ والبغلِ وغيرِهما. ولو قُدّرَ للحمارِ أنْ يفهَمَ كلامَنا ويسمَعَ كيفيّةَ ذِكرِنا إيّاه لما تأخّرَ في تقديمِ دعوى قضائيّةٍ بحقّنا، نحنُ بنو الإنسان، بتُهمتَيْ القدحِ والذّم، ولَما وجَدَ في نفسِه حرَجًا إن راحَ يرفِسُنا كلّما قُدّرَ له. ومِن حقِّ الحِمار أنْ يُسائلَنا؛ لماذا حينَ نذكرُه على ملأٍ مِنّا نُشفِعُ ذِكرَنا له بعبارةِ تكريمٍ لنا؛ من قَبيل «أعزّكُم الله»، أو «أكرمَكُم الله»؟ سيقول الحِمارُ، نيابةً عن زملائه في هذا الإحتقار؛ لماذا أيُّها الناس تُقابلوننا بهذا الإحتقار؟ وأيّةُ مَذلّةٍ نُلحقُها بكم حتّى تطلبوا الإكرام من الله كلّما ذكرتمونا؟ أم أنّكُم لا تصيرون كِرامًا إلّا بنَفْيِ ماهيّة الحمارِ عنكم؟

من حقِّ الحِمار أن يسألَ عن هذا، ومن حقّي أنا، كإنسان، أن أسألَ عنه أيضًا؛ لماذا حين يُحدّثُني أحدٌ من النّاس ويأتي على ذِكْرِ الحِمارِ يقول لي «أكرمَكَ الله»؟ هل أنتَ تُخبرُني أنّ الله قد أكرمني بأن لم يخلُقْني حِمارًا؟ أم أنّكَ ترجو لي من الله أنْ يُكرمَني؟ وإنْ كان قولُكَ رجاءً فعلًا فلماذا لا ترجو لي هذا الإكرام إلّا عندَ ذكرِ الحِمار؟ لماذا لا تقولُها عند ذكر القطّ مثلًا؟ أم أنّ الحيوانات مثلُنا مقسّمةٌ إلى طبقات؛ فتكون الأسودُ، بالتالي، عائلةً إقطاعيّةً والقِطَطُ عائلةً برجوازيّةً والحمارُ من البروليتاريا المسحوقة؟

تحولُ هذه الثقافة الموروثةُ من السَلَفِ العتيق جدًا، والتي تُبرَّرُ بأنّها تأدُّبٌ في المُخاطَبة، دونَ ترقّينا في مراتِبِ تأنسُنا الذي نادَت به الأديان، والإسلام على وجه الخصوص، والتي يُمكنُ عَنونَتُها بعُنوانِ الإنسجام مع الطبيعة بكلِّ موجوداتِها. فالحمارُ، بما يُمثّلُه هنا، ليس إلّا خلقٌ من خلقِ الله لا يقلُّ في جماليّتِه عن باقي المخلوقات، بما فيها الإنسان، ولا يُمثّلُ حالةً يلزَمُ عنها استذكارُ تكريمِ اللهِ لنا، نحنُ بنو الإنسان. ويُمكنُنا هنا أنْ نستعينَ ببعضِ ينابيع المتصوّفة ونخلُصُ إلى ما مَفادُه؛ لا بُدَّ، حتّى نكونَ مُنسجمِين مع مشروعِ اللهِ في الخلق، إنْ جازَ التعبير، أنْ نكونَ منسجمينَ مع المخلوقات التي أوجدَها الله وأوكلَ إلينا التفاعلَ معها بما فيه منفعةٌ لنا وبقاءً لهم. وبالعودةِ إلى حضرةِ الحِمار ومأساتِه؛ لا بُدَّ لنا، حتّى نكونَ منسجمين مع وجودِ الحِمار، أن نتفاعل معه من حيث هو خلقٌ من خلقِ الله، لا من حيثُ أنّنا خلقٌ متفرّدٌ بطبيعةِ وجودِه. وإلى الحينِ الذي نبلغُ فيه هذا المبلَغ، لن أعتِبِ على أيِّ حِمارٍ يرفِسُني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بهجمات متبادلة.. تضرر مصفاة نفط روسية ومنشآت طاقة أوكرانية|


.. الأردن يجدد رفضه محاولات الزج به في الصراع بين إسرائيل وإيرا




.. كيف يعيش ربع سكان -الشرق الأوسط- تحت سيطرة المليشيات المسلحة


.. “قتل في بث مباشر-.. جريمة صادمة لطفل تُثير الجدل والخوف في م




.. تأجيل زيارة أردوغان إلى واشنطن.. ما الأسباب الفعلية لهذه الخ