الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحُريّة في مفهوم المسيحيّة - المقدِّمة -

نافع شابو

2022 / 10 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الحُريّة في مفهوم المسيحيّة
المقدِّمة

نافع شابو

"روح السيد الربِّ عليَّ ، لأنَّ الربِّ مسحني لهُ ، أرسلني لأُبشِّر المساكين وأُجبر المنكسريَّ القلوب ، لأنادي للمسبيّين بالحريّة وللمأسورين بتخليةِ سبيلهُم "اشعيا 61 :1"
كثيرا ما نسمع اليوم عن أنَّ المسيح حاله حال ألأنبياء السابقين واللاحقين ، فهو جاء برسالة سماوية لبني البشر وجاء لينذر الناس من فعل المعاصي بل دعى الناس للرجوع الى الله ولم يأتي بجديد للبشرية . ولكن ، في الحقيقة ، هؤلاء الناس لا يعرفون رسالة المسيح الحقيقية التي هي أشمل واعمق وأسمى من كُلِّ ما أتى به ألأنبياء السابقين واللاحقين الا وهو أنّ المسيح نفسه قام بثورة عظيمة غيَّر فيها مفاهيم العالم عبر الاف السنين من تاريخ البشرية قبله ، وسوف تبقى المبادئ السماوية التي نادى بها ، ينهل منها العالم بعده الى الأبد ، وهذه المبادئ ان طبَّقها ألأنسان في حياته لأصبحت المجتمعات ودول العالم تعيش في سلام وأمن وسعادة وفرح ، تعيش في مملكة الله الخالق ، لأنها مبادئ وقيم ترقي و تسمو بالأنسان الى الكمال . فيسوع المسيح هو مركز التاريخ وأصبح التاريخ ينسب اليه فنقول :" ما قبل ميلاد المسيح وما بعد ميلاد المسيح " ، لا بل هو مركز الكون ، أي أنّ المسيح هو ما تطمح اليه الخليقة كُلَّها في سعيها نحو بلوغ الكمال . لقد شيّد يسوع المسيح قواعد جديدة للعالم ومعه بدأ عالم جديد ، فهو محور العالم ومحور الكون والوجود ، جاء ليخلّص البشرية من قواعد وانظمة متهرِّئة ، واسَّس كنيستهُ ( الشعب الذي يتبعهُ ، أي المؤمنون برسالته ) على الصخرة .
منذ سنوات إطَّلعتُ على بعض ما كُتب عن المسيح " المحرّر" وقائد لثورة تغيير جذرية ، أستوقفني هذا اللقب الجديد للمسيح ، فبحثتُ في الكتاب المقدس عن حقيقة يسوع المسيح "المحرّر"، وما توصلتُ اليه أدهشني بل صدمني ، عندما أكتشفتُ أن المسيح هو المصدر الحقيقي لكُل الثورات التي تدعو الى ، الحرية ، والديمقراطية والمساواة ، والعدالة ، وحقوق ألأنسان، فرسالته هي رسالة إعادة ألأعتبار للمهمَّشين ، كالمرأة ، والأطفال ، والمرضى ، والفقراء ، والمساكين ، والعبيد ، لا بل جاء من أجل الخطاة ليحرّرهم من قيود الخطيئة والموت ، فكانت رسالته بحق هي رسالة خلاصية للبشرية ، يدعو فيها المسيح الى أحترام حقوق ألأنسان وأعتبار ألأنسان له قيمة عظيمة عند ألآب السماوي لا بل الأنسان هو" صورة الله كمثاله "، ومن يُهين كرامة ألأنسان فهذا يعني إنَّه يهين الله نفسهُ ، وهكذا بعد الحرب العالمية الثانية شُرعّت مواد قوانين حقوق الأنسان التي إستمِدَّت من أقوال الرب يسوع المسيح الواردة في ألأنجيل المقدَّس . ولكن المسيح يختلف أختلافاً كُلِّياً عن قادة الثورات ، عبر التاريخ ، في أنَّه كان يدعو الى تغيير ألأنسان من الداخل ، أي أنّ المسيح قام بثورة لتغيير طبيعة ألأنسان القديمة الساقطة بسبب الخطيئة ليحرِّر ألأنسان ليخلق خليقة جديدة وطبيعة جديدة ، بالولادة الروحية ، بمعمودية الروح القدس يستطيع فيها ألأنسان ، بقوة الروح القدس(لأنَّ الروح القدس يبكِّت ألأنسان على الخطيئة) الساكن فيه ، أن يلجم شهواته الجسدية وأنانيته وأكتفائه الذاتي، وكبريائه في تاليه نفسه ، وبالتالي إنفصاله عن الله ، فكان ذلك ، ولا زال ، السبب الرئيسي في ماساته وسقوطه وتمرُّغه في وحل الخطيئة ، وسبب آلامه وموته الروحي .
نعم يسوع المسيح جاء ليخلصنا ويحررنا من قيود الخطيئة والموت والشيطان ، وهو يدعو البشرية الى السمو والكمال للتألُّه والمشاركة في ملكوت الله ألأزلية ، وانَّ تعاليمه هي تعاليم سماوية روحية. جاء المسيح ليعيش معنا ويشاركنا الآلام وألأضطهادات ، ولكن في نفس الوقت كان يرفض الظُلم أيٌ كان نوعه ، وحارب بقوة كلماته أولائك المتاجرون بالدين ، ، فكان يتكلم بقوّة الحق ، ويقف أمام الفريسين والصدوقين والكتبة اليهود ، مدافعا عن حق الأنسان لكي يعيش في كرامته الأنسانية ، ويدافع عن العدالة في عالم يصنف الناس الى الى طبقات ، بل جعل الأنسان أسمى من الشريعة ( السبت للأنسان وليس ألأنسان للسبت ) .
يسوع المسيح دحَّض النظرية البشرية للديانات والعقائد السابقة واللاحقة التي تعتقد بأنَّ الله هو اله جبار يحكم بالقوّة والبطش على ألأنسان ، وهو كُلّي القدرة ، خلق ألأنسان ليكون عبدا مطيعا له ، ويكبِّله بالشرائع والقوانين ويحمِّله أحمالا ثقيلة من التشريعات من وضع الأنسان كما كان رؤساء الدين اليهوديين يعتققدون في عصرالمسيح وحتى معتقدات المتشددّين من رجال الدين المسلمين في يومنا هذا . وفي نفس الوقت أبطل يسوع المسيح مفاهيم خاطئة للديانات السابقة واللاحقة التي تؤمن على أنَّ معتنقيها هم خيرُ أمّةٍ أُخرِجَت للناس ، أو هم شعب الله المختار، على حساب الشعوب ألأخرى ، هذا الكبرياء والتعصُّب ألأعمى كانا من ضمن ألأسباب الرئيسية للحروب والمآسي وأرتكاب الجرائم عبر تاريخ البشرية ، لأنَّ أقصاء الآخرين هو تشويه لمحبة الله للأنسان ، الذي خلقهُ "كصورته ومثاله " . بينما يسوع المسيح علّمنا أنَّ كُلِّ الناس سواسية طالما عملوا بأرادة الله "متى 21 : 31 ، 32 " . وانَّ الله يشرق شمسهِ على ألأشرار وألأخيار ، لابل أنّ يسوع المسيح ، إبن الله ، أخلى ذاته ليصير بشرا مثلنا ليكشف لنا حقيقة الله "المحبّة " ويعلِّن لنا تظامنه معنا ويَخدِمُنا ويتألَّم معنا ، بل ذهب الى ما هو أبعد من ذلك عندما ضحّى بنفسه من أجل تحريرنا من قيد الخطيئة والموت ، وهو القائل :"أنا الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه من أجل خرافه "يوحنا 10 : 14" .
وهكذا غيَّر يسوع المسيح مفاهيم السُلطة والحُكم والرئاسة والقيادة والرعاة . فهو يدعوهم جميعا ليكونوا هم أيضا خُدَاما لشعوبهم ويضحُّون بأنفسهم ، أذا تطلب ألأمر ، من أجل سعادة شعوبهم . وهو الذي طبقّ أقواله بافعاله لترسيخ هذه المفاهيم الجديدة ليقود البشرية الى الطريق المؤدي الى الفرح والسعادة والحياة ألأفضل . من هذا المنطلق سنجد يسوع المسيح في اقواله وأعماله هو الصوت الهادر الثائر على كُل اشكال قيود العبودية ، والمظالم، التي كانت سائدة في العالم ، ولكن تمرُّد المسيح على الظُلم وألأستبداد ، لايعني دحر الظالمين والمستبدين بكُلِّ الوسائل ، فالغاية عنده لا تُبرِّر الوسيلة - كما نقرأ عن العديد من الثورات عبر التاريخ ، ولا تزال الى يومنا هذا الكثير من هذه الثورات ، تغرق في أنهار من الدماء البشرية - .
اليوم للأسف نقرأ ونسمع ونشاهد عبر ألوسائل ألأعلامية ثورات شعوب تطالب بحقها في الحياة الكريمة ، والعيش في الحرية والمساوات ، يقابلها قمع دموي وحروب ومآمرات دولية فيها الأنسان هو الضحية للأنانية من أخيه الأنسان ، وكم من الضحايا يموتون يوميا ؟ وكم من الدموع تسكب بمرارة وألم في هذه ألأيّام ؟ وكم من ألأمّهات أصبحنَ ثكالى هذه ألأيّام ؟ ، أليست هذه الحروب والمآسي بسبب أنّنا لم نفهم ولم نعرف الى يومنا هذا رسالة المسيح الخلاصية بتحرير البشريّة من عبودية الموت والخطيئة والشر؟ سؤال يحتاج أن نتأمَّل فيه قبل ألأجابة عليه .
اليوم ، وبعد حوالي 2000 سنة على ولادة المسيح ، لا زالت تعاليم المسيح واقواله وأعماله لم يستوعبها الكثيرون ، وللأسف الى يومنا هذا ، نرى قيام الحروب وأرتكاب الجرائم البشعة بحق ألأنسانية من قبل دول أو جماعات أو حكام أو أفراد ، واستغلال الأنسان لأخيه ألأنسان ، وسحق كرامته ألأنسانية . لو فُهمت وطُبِّقت تعاليم المسيح في عالمنا اليوم ، لما رأينا ما حدث عبر التاريخ ، وما يحدث اليوم من الحروب والمآسي والجرائم ، وتهميش وسحق الكرامة ألأنسانية.

اليوم لايزال ألأنسان يأنُّ من قيود العبودية ، التي تُكبِّله وتسحق كرامته وتقيّد حريّته وتشُلُّ ارادته وتقمع طموحاته ، وتحُدُّ من مواهبهِ وأبداعاتهِ ، ورغبتهِ من صميم قلبه وعمق وجدانه وضميره ، للسمو والرقي للوصول الى الحياة ألأفضل . وهذه كانت ولا تزال رسالة المسيح التي هي هي أمس واليوم وغدا ، فالله أرسل ابنه الى العالم لا ليدين العالم ، بل ليُخلِّص العالم ،وليعطي الأنسان الحياة ألأفضل "يوحنا 3 : 17 " ، هذا ألأنسان الذي خلقه الله وزرع في أعماق نفسه الشوق الى الحرية والعطش الى الحياة ألأفضل ، وهو لن يرتوي الا ّ بالأرتواء من نبع الحياة ومصدرها يسوع المسيح الذي وحده يروي تعطُّش ألأنسان الى الحياة ألأبدية "يوحنا4 :14".
المسيح جاء من أجل تحقيق جميع هذه الرغبات عند الأنسان ليُحيي هذا الشوق وهذه الرغبة في أعماق ألأنسان . جاء ليدشِّن ملكوت الله على هذه ألأرض ممهدا بذلك الطريق أمام البشرية وواعدا بمستقبل زاخر بالقيم السماوية ، طاردا الخوف بالمحبة ومحررا الأنسان من الداخل (من ألأنانية والأكتفاء الذاتي والكبرياء )، لكي يعود ألأنسان الى منابع الحياة . فعندما يتغيَّر ألأنسان من الداخل بفعل الروح القدس ، فهو سيبني مجتمعا صحيّا قادرا على العطاء والأبداع وحب الحياة ، فيعيش الناس في حرية وسلام وسعادة وفرح . المسيح يدعونا اليوم لكي نتبعه ونسيرمعه ونعمل بأقواله لمعرفة الحق لنتحرر من كُلِّ قيود العبودية للخطيئة " أذا ثبتُّم في كلامي ، صرتم في الحقية تلاميذي ، تعرفون الحق والحق يحررَكم " يوحنا 8 : 31 "
نعم قدّم يسوع نفسه أنّه مرسل من عند الله ، والحريّة الحقيقية هي ان يتقبّل الأنسان تعاليمه السماوية ، حينئذ يعرف الحق الذي يُحرّر الأنسان من الشر . تعليم يسوع هو حقّ ، ويبقى على الذين آمنوا به ان يثبتوا فيه . والحريّة الحقيقية هي ان يتحرر الأنسان من الكذب ومن الموت . مثل هؤلاء الأحرار يحيون ملئ الحياة . فالحريّة الحقيقية التي جاء بها يسوع المسيح ليست معنى سياسيّ او سيكولوجي ، بل روحيّ . فعلى المستوى السياسي لم يكن اليهود (في زمن يسوع ) أحرارا بل خاضعين للسلطة الرومانية ،ولكن تبقى حريّة من نوع آخر يعطينا إيّاها الله مجانا فنحياها في ألأيمان . والأنسان عبد للخطيئة ولايعود يملك حُرّيته ، فيحتاج الى من يحرّره من هذه العبودية . والعبد لايُقيم في البيت الى الأبد ، بل الأبن يُقيم الى الأبد . فإذا حرّرك الأبن ، صِرتم بالحقيقة أحرارا "(يوحنا 8 :25-36). .
وهنا الفرق بين العبد وبين الأبن .ألأبن هو في البيت ،أمّا العبد فتفصله الخطيئة عن الله . الأبن هو في المعنى المطلق يسوع المسيح. وهو يملك وحده ملئ الحرية ويريد المؤمنين أن يقاسموه هذه الحرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأهب أمني لقوات الاحتلال في مدينة القدس بسبب إحياء اليهود لع


.. بعد دعوة الناطق العسكري باسم -حماس- للتصعيد في الأردن.. جماع




.. تأبين قتلى -وورلد سنترال كيتشن- في كاتدرائية واشنطن


.. تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!




.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي