الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب -الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي-: هل الدولة الدينية ممكنة في ظل الشروط الراهنة؟

صلاح الدين ياسين
باحث

(Salaheddine Yassine)

2022 / 10 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يُعد هذا الكتاب البحثي من أبرز أعمال وائل حلاق، الباحث المختص في الدراسات الفقهية، وتاريخ الفكر الإسلامي. إن أطروحة الكتاب الرئيسية بسيطة، ومؤداها أن نموذج الحكم الإسلامي المعياري، الذي ما انفك يستهوي بعض معاصرينا، يتعذر قيامه في ضوء الصيغة الراهنة من التنظيم السياسي، ونعني بذلك الدولة الحديثة. وفي مسعى منه لإثبات فرضيته، لا يغوص المؤلف في جدال نظري حول ما إذا كان الإسلام دينا ودولة أم دينا فقط. كما أنه لا يسبغ هالة من القداسة على الحداثة، أو يزعم بأنها أقصى مراحل التطور الحضاري، بقدر ما يتساءل - من منطلق عملي وواقعي - حول ما إذا كان نموذج الحكم الإسلامي ممكن التحقق باستحضار الشرط السياسي والحضاري الراهن.
إن مضمون الدولة الحديثة يظل عرضة للتغيير، فقد يتداول على حكمها ليبراليون ويساريون ومحافظون وغيرهم، إلا أن خواصها الشكلية تتسم بالثبات، لكونها تُشَكل جوهر الدولة الحديثة، التي لا يُتصور قيامها من دونها. ويمكن حصرها، بنظر المؤلف، في خمسة محددات أساسية على النحو التالي: أن الدولة الحديثة هي نتاج أوروبي خالص، السيادة الشعبية كبديل للحكم الثيوقراطي، احتكار العنف المشروع كوسيلة لضمان إنفاذ القوانين، الجهاز البيروقراطي للدولة (لاحظ ماكس فيبر أنه بالرغم من الثورات العديدة التي عرفتها الدولة الحديثة، وما أفضت إليه من تحولات، ما فتئ الجهاز البيروقراطي والإداري للدولة عنصرا أساسيا في تشكيلها)، وصولا إلى خاصية الهيمنة الثقافية للدولة.
وعليه انصرف الكاتب إلى تناول تلك الخواص الجوهرية في تشكيل الدولة الحديثة لبيان مدى تَعَارضها مع أي نموذج للحكم الإسلامي:

الطابع المتناقض لمفهوم "الدولة الإسلامية"
إن وصف "إسلامية" لا يسعه أن ينطبق على الدولة الحديثة، بالنظر إلى أن هذه الأخيرة، بما هي الشكل السائد للتنظيم السياسي، نشأت في سياق تاريخي ومكاني خاص، متصل بالظرف الأوروبي في عصر الحداثة والتنوير، بعد قرون مريرة من الصراعات المذهبية والطائفية، وسيطرة الكنيسة على مفاصل المجتمع والحكم. وقد وفرت نظريات العقد الاجتماعي الأساس النظري للدولة الحديثة، بحيث أقامت مشروعية الحكم على أساس تعاقدي ووضعي، عوضا عن مصادر المشروعية التقليدية القروسطية (= الحق الإلهي المطلق للحكام، القانون الطبيعي... إلخ).
وفي المقابل، لم تعرف البلاد الإسلامية على امتداد قرون طويلة أي مظهر للدولة الحديثة، قبل الاحتكاك بأوروبا في الحقبة الإمبريالية إبان القرنين السابقين، إذ كان القانون الأخلاقي للشريعة هو السائد والمنظم للحياة الاجتماعية. لكن الاستعمار قد أَفرغَ قانون الشريعة الأخلاقي من محتواه، حين أقدم على تفكيك النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الذي كانت تنظمه الشريعة دون هوادة، مؤذنًا ببداية احتكاك الفضاء الإسلامي بأشكال وهياكل الدولة الحديثة. ومن ثم، نخلص إلى أن الدولة الحديثة هي منتوج أوروبي خالص، سرعان ما عملت الدول الأوروبية على تصديره إلى مستعمَراتها في مختلف قارات العالم.

السيادة للأمة في مقابل سيادة الخالق
يُعد مفهوم السيادة من أبرز خصائص الدولة الحديثة، إذ كان يحيل، منذ العصر الوسيط، إلى تأكيد سيادة الدولة على حساب تَفَوق الكنيسة وقوى الإقطاع، بفضل آراء ثلة من المفكرين القانونيين (من أبرزهم مارسيل دو بادو)، ثم ما لبث أن اصطبغ المفهوم بصبغة خاصة - تزامنًا مع ظهور الدولة الحديثة - سواء لجهة مصدر السيادة، أو تجسيدها الفعلي.
إن مصدر السيادة في الدولة الحديثة هو الأمة أو الشعب، وتتجسد (أي السيادة) في القانون الوضعي، الذي يسنه ممثلو الأمة المُنتخَبون من لدن الشعب. وغني عن البيان أن المفهوم الحديث للسيادة يستمد جذوره النظرية من رواد الفكر السياسي الحديث، وفي مقدمتهم جان جاك روسو، الذي أفاض في الحديث عن السيادة الشعبية في مؤلفه "العقد الاجتماعي". وعلى الضفة الأخرى، يقابل تعبير السيادة في نموذج الحكم الإسلامي مفهوم الحاكمية، حيث السيادة تنبع من الخالق، وتتجسد في قانون الشريعة الأخلاقي.
الذات السياسية كنقيض للذات الأخلاقية
يذهب المفكر الألماني كارل سميث (1888-1985) إلى أن الدولة الحديثة، هي فضاء للصراع والعنف بامتياز، فالغاية الأسمى هي بقاء واستمرارية الدولة، بصرف النظر عن الاعتبارات الأخلاقية الصرفة. وهكذا فإن النطاق المركزي (بتعبيره) لهذا الشكل الحديث من التنظيم السياسي هو الاقتصاد والسياسة. أما القضايا المتصلة بالأخلاق، فلا تتجاوز كونها نطاقات ثانوية. وعليه ثمة فصل في الدولة الحديثة بين القانون والأخلاق المعيارية، فوظيفة القانون هي محاولة حل المشاكل الوضعية، وليس خلق الحياة المثالية الفاضلة، أو إدخال الناس إلى الجنة، ذلك أن ما هو أخلاقي يعود تقريره إلى ضمير ووجدان الفرد.
تأسيسا على ذلك، وفي أعقاب تَشَكل الدولة الحديثة، ونجاحها في بسط سلطانها على مجمل إقليمها الترابي، بفضل خاصية احتكار العنف المشروع، وجهازها البيروقراطي، سرعان ما فطن حكامها إلى أن فرض السيادة عن طريق استعمال وسائل الضبط والإكراه لوحدها (الشرطة، الجيش... إلخ) لا يعد كافيا، إذ لا مناص من إنجاز مشروع مواز للهيمنة الثقافية على المجتمع، والتوغل فيه رمزيا وإيديولوجيا، مما يصب في صالح خلق المواطن النموذجي، المستعد للتضحية بنفسه في سبيل بقاء الدولة وتَفَوقها. ومن هنا سَيُمَثل إحداث المدارس والجامعات، وإقرار التعليم النظامي، الخطوة الأولى في مشروع الهيمنة الثقافية، إذ ستعكس المناهج التعليمية إيديولوجيا الدولة الحديثة، وأولوياتها، وبرامجها.
وإذا كانت الدولة الحديثة معنية، في المقام الأول، بخلق ذات سياسية – قومية - مواطنة، فإن نموذج الحكم الإسلامي لا يعترف سوى بالذات الأخلاقية، المستوحاة من تعاليم الشريعة. وهكذا يشدد المؤلف على أن الإسلام لم يعرف في تاريخه مفهوم التجنيد الإجباري، بل حتى التضحية في سبيل الله والدين الإسلامي لم تكن ملزمة، فلئن كان الجهاد (خاصةً في حالة تَعَرض دار الإسلام لعدوان خارجي) فرضا دينيا، تؤدي مخالفته إلى عقاب أخروي، فإنه لم يكن يُوَلد عقوبة دنيوية، بخلاف التجنيد الإلزامي في الدولة الحديثة. كما أن نموذج الحكم الإسلامي لم يشهد تعليما نظاميا بالمعنى الحقيقي للكلمة، إذ كان تلقين الطلاب في منأى عن سيطرة الحكام، ويرتكز بالأساس على تعاليم الشريعة وبعض العلوم الطبيعية، التي لا تنال من التصور الإسلامي التقليدي للحياة الأخلاقية والاجتماعية.
التحدي الاقتصادي والأخلاقي للعولمة
بما أن فرضية الكتاب الأساسية، تفيد بأن نموذج الحكم الإسلامي يتعذر تطبيقه راهنا، في ظل رسوخ الدولة الحديثة، فإن تلك الفرضية تصبح أكثر وضوحا، في سياق تغول العولمة بأبعادها المختلفة، التي تغطي كافة مجالات الحياة. وفي هذا الصدد، يرفض الكاتب الطرح القائل بأن العولمة تُفضي إلى إلغاء سلطة الدولة، فلئن كان ذلك ينطبق على الدول الضعيفة، التي أمست فريسة بيد القوى العظمى والشركات الكبرى، وجب التنويه بأن العولمة هي مشروع هيمنة أرسته الدول القوية، وتحديدًا الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أفول نظام الثنائية القطبية، الذي ساد إبان حقبة الحرب الباردة.
إن نظام العولمة يفرض تحديات جمة على دعاة الحكم الإسلامي، ذلك أن خيار العزلة ومعاكسة التيار الجارف يبدو مكلفا للغاية، لما يرتبه ذلك من حصار سياسي واقتصادي، وعقوبات دولية خانقة. فالعولمة في بعدها الاقتصادي، تحيل إلى تعميم النموذج الرأسمالي القائم على منطق نفعي، بالنظر إلى أن هاجسه الوحيد هو تحقيق الربح ومراكمة الثروة. أما الاقتصاد الإسلامي، المستند إلى قواعد أخلاقية، ومُثُل فاضلة، يصعب تصور صموده أمام وحش العولمة الرأسمالية، مثلما يرى الكاتب. كما لا يجب إغفال التحدي الثقافي للعولمة، المتمثل في إشاعة الثقافة الغربية ونمطها في العيش، على نطاق واسع، بفضل ما تُتيحه التقنيات الجديدة من ذيوع واسع لها، يتجاوز حدود الدول القطرية، الأمر الذي يتعارض مع الخصوصية الثقافية المزعومة للفضاء الإسلامي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع


.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية




.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-


.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها




.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24