الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنطولوجيا الأخلاق

هيثم طيون
باحث بالشأن التاريخي والديني والميثولوجيا

(Hitham Tayoun)

2022 / 10 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


بغض النظر إن كان ما تؤمن به حقاً أم باطلاً فقد تسبّب تدينك أنت وغيرك من سكان الكرة الأرضية بصراعات ممتدة لقرون وحروب أنهت حياة الكثيرين وتسبّبت بخلافات عميقة مع غيرك من البشر لمجرد أنك ولدت في طائفة محددة، وتسبّبت ولادتك ضمن هذه الطائفة بتلقينك هذه الديانة وتعصّبك نحوها وتشكيكك في أخلاق ومفاهيم وإيمان الكثيرين.

مستقبلاً قد يؤدي التوجه العلمي والمعرفي وانتشار مفاهيم العولمة وكشف الكثير من الحقائق المزيفة تاريخياً لاختفاء الأديان، و قد شكلت أزمة كورونا العالمية وانتشار الوباء بشكل كبير ومخيف في بداياته أزمة دينية كبيرة لاعتقاد الكثيرين أن إيمانهم ودور عبادتهم وصلاتهم سوف تحميهم من المرض، لكن العلم فرض قوته وسلطته على الجميع لأن الصلوات لم تحمِ أحداً، فأصول مكافحة المرض تعتمد على ترتيبات منطقية وعقلانية تتضمن النظافة والغذاء السليم والإهتمام بصحة الجسم، ونحن هنا لسنا بصدد النقاش الديني أو العلمي لتداعيات جائحة كورونا، وإنما بصدد سؤال استفهامي في غياب الدين هل ستغيب الأخلاق؟!

بإمكاننا القول أن مواطن ياباني أكثر أخلاقاً من كافة المجتمعات المتدينة في الشرق والغرب رغم أنه يُدين بديانة الشنتو (ديانة ليست سماوية بالنسبة لأتباع الديانات الإبراهيمية)، وهو يتأثر بتعاليم الآداب والسلوك والحياة في الديانة الكونفوشيوسية والبوذية، إذ أن اليابانيين يمتلكون قوة الإرادة والمهنية والإخلاص والانضباط في العمل، فلأدبيات العمل لديهم ثقافة خاصة وفلسفة عميقة، وفقط في اليابان يعتبر الإنتحار لغسل العار مدعاة للفخر، حيث كان مقاتلوا الساموراي يقومون بقتل أنفسهم عن طريق نزع أحشائهم في عملية تدعى الهارا كيري وذلك للحفاظ على شرفهم لأنفسهم أو لعائلاتهم الممتدة لعدة أجيال، لذلك يحظى مقاتلوا الساموراي الذين يقومون بالهارا كيري بالتبجيل كثيراً بعد وفاتهم، أما مقاتلوا الساموراي المهزومين أو الموسومين بالعار الذين يختارون الإستسلام بدلاً من الإنتحار فيلعنهم المجتمع في حين أن جميع الأديان المُغايرَة تعلن وتؤنِّب وتُسفِّه الإنتحار وترمي المُنتحِر في النار!

في ظل غياب الأديان كيف سنحدد مفارق الخير والشر، وهل الطبيعة البشرية هي من أملت علينا الأخلاق، وهل يمكن القول أن الإنسان اللاديني أو الملحد بالضرورة هو إنسان بلا أخلاق؟ ... تتواجد الأخلاق في المجتمعات كثقافة سائدة، فقد يكون ما لدينا عمل بطولي أو أسطوري ولدى الآخرين ثقافة عادية لا تستحق الإندهاش والتّعجّب، فالأعراف والثقافة والتقاليد تصبغ الفرد بمكوناتها ومواقفها الفلسفية والعقائدية وحتى السلوكية بعيداً عن الأديان، وكل الصلوات في المشرق مثلاً لم تستطع أن تصنع مجتمعات متحضرة وغنية بأخلاقها يتماشى سلوكها مع فكرها، فالفكر الذي لا يصاحبه سلوك عملي هو فكر ناقص حيث أن الفكرة قابلة للتغيير والتذبذب والتطور وحتى الإندثار لأنها متحولة وغير ثابتة، في حين أن السلوك العملي والممارس قادر على تغيير الحال أو الواقع في المستوى الإجتماعي الواقعي.

وتعتبر العادات والتقاليد مثل الشرف والأكل واللباس والزواج والصدق والشجاعة والكرم واحترام الجار والصداقة هي أخلاق تختلف في تعريفها وتطبيقاتها من شعب إلى آخر، ومن بيئة الى أُخرى، وكذلك اليوم تعتبر المثلية وحقوق الإنسان والإجهاض والإستنساخ وإعدام المجرمين والإلحاد، من القضايا الأخلاقية التي يختلف عليها الناس، ولم تعد ملحقة بالدين أو بالتّحريم الأبدي، أي أن الأخلاق تتطور وتتغير وتتشكل بحسب الواقع وحسب الحياة ومتطلباتها.

ليس هناك مجتمع ديني خالص، وأخلاق دينية خالصة أنزلت من السماء. وإنما الدين يدعو الى الأخلاق الإنسانية الموجودة أصلاً، لكن المشكلة هي دائماً بعدم الإلتزام بها، فالدين يدعو الى الإلتزام والتّمسك بالأخلاق الفاضلة لأن المشكلة ليست وجود هذه الأخلاق أساساً، بقدر ما هي في ممارستها وتطبيقها. كذلك ليس هناك مجتمع علماني أو لا ديني أو ملحد محض وكأنه موجود في فراغ بلا تاريخ سابق وبلا تأثير من الدين. فإذا كان الدين قد تبنى الأخلاق الإنسانية، فإن العلمانية أو اللادينية أو الإلحاد تتبنّى الأخلاق نفسها في إطار النقد وحق الإختلاف.

في المنظور الديني التقليدي ليس للأخلاق وجود مستقل عن الدين، وهي جزء منه، والأخلاق خيّرة لأن الله وصفها بذلك، وليس باستحسان العقل أو تقرير العرف، ولذلك فهي محكومة بالدين لا حاكمة، كما أن هناك حاجة في داخل النفس البشرية لوجود قوى إلهية تراقبنا وتهبنا شيئاً من الطمأنينة لأنها تمدّنا بفكرة "الخلود الشخصي" فتطمئن النفس إلى بقائها واستمرار وجودها بعد الموت الذي يعتبر من أكثر أسرار الحياة عمقاً وجدلية.

وما يثير الحيرة إيمان الإنسان منذ القدم بأشياء خرافية وسحرية يلجأ إليها، لتفسير ما يعترضه من مشاكل دنيوية، فإذا كان الحيوان يجهل الخرافات جهلاً تاماً، فإن الإنسان على العكس من ذلك، هو الحيوان الوحيد الذي يعلق أماله الكبرى في صميم وجوده على أمور وهمية وقوى سحرية غير ملموسة، مما يُبيِّن أن الدين كان وثيق الصلة بالسحر والخرافات والأساطير، وبالتالي فهو وليد حاجة إنسانية محضة.

لا يجوز بأي شكل ربط السلوك البشري الخيِّر والأخلاق الحميدة بالدين حيث أن الدين اعتمد على الأخلاق ليوسع انتشاره وظهوره واعتناقه، لذلك نجد أن معظم الشعوب المتدينة أصلاً تدير دفة سفينتها بحسب مصالحها سواءً أكان هذا الشيء سلوك فردي أو جماعي أم دولي، فالجميع ينظر له على أنه أخلاقي لأن يلبسه ثياب الدين ويفاخر به.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ


.. المسيحيون الأرثوذوكس يحيون عيد الفصح وسط احتفالات طغت عليها




.. فتوى تثير الجدل حول استخدام بصمة المتوفى لفتح هاتفه النقال


.. المسيحيون الأرثوذكس يحتفلون بعيد الفصح في غزة




.. العراق.. احتفال العائلات المسيحية بعيد القيامة وحنين لعودة ا