الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أدراج الحياة المنسية

شريف حتاتة

2022 / 11 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


--------------------------------
خلال السنوات الثلاث الماضـية كتبـت ثـلاث روایات ، نشرت واحدة منها في يوليـو سـنة ٢٠٠٦ ، بعنوان "عطر البرتقال الأخضر". لكن مازالتا الروايتان الباقيتان تعانيان من عمليات الجذب والطرد السائدة في مجال النشر، والتي يواجهها أغلب الُكتاب، ماعدا تلـك القلة التـي رسـخت أقـدامـها فـي أرض العلاقـات الإجتماعية، أو المؤسسية العليا القـادرة علـى فـتـح أبواب النشر، وفي كثير من الأحيـان علـى " تصـوير الفسيخ على أنه شربات لذيذ الطعم".
المهم أننى سعيد بالجهد الذى بذلته، ساعات طويلة من التفكير والتأمل والتخيل وسط الكلمات , وفى كل سطر كتبته . فأنا ممنْ يكتبون ببطئ .
منذ أن كنت في السنة النهائية لكلية الطب قصر العينى ، إندمجت في حركة الطلبة والعمال ، فخشيت من الرسوب فى الامتحان النهائى ، بعدأن تعودت على قراءة اسمي على رأس قائمة النجاح المعلقـة علـى لوحة الحوش. وجعلنى هذا الخوف أن أعبر التخرج بتفوق ، مع الميدالية الذهبية .
أكملت العمل السياسى ، وتم اعتقالى 13 سنة ، ثلاث سنوات متقطعة أيام الملكية فى عهد فاروق ، ثم عشر سنوات متواصلة فى عهد عبد الناصر . وخرجت من السجن عام 1964 ، واستطعت بدء رحلة الكتابة الروائية ، والكتب الثقافية والسياسية . وأنجزت هذه الرحلة الطويلة فى زمن قياسى ، لظروفى الخاصة .
تساءلت بعد نشر رواية " عطر البرتقال الأخضر " ، وبعد اقترابى من الانتهاء من روايتين أخرتين ، ترى لماذا هذه الطفرة المفاجئة التـي حملتني فوق أمواجها ، هل هي إنتفاضة عند الجزء الأخير من العمر ، أم أنني أخيرا وصلت إلى قدر من النضوج بعد أربعـة وثمانين سنة من الحياة في مصر ؟؟.
بعد أن انتهيت من هذا الجهد وجدت نفسي مواجها بسؤال آخر ، ما الذي يمكن أن أفعله الآن؟ . فمع مرور الزمن ، قلت المؤلفات التي أستمتع بقراءتها. ربما العيب فيَ، أو في الأوضاع الثقافية التي نعيشها، أو في الأثنين معا. ليست لي شـلة أستطيع أن أتسامر معها ، صديقى المقرب رحل ، ولا أشارك في جلسات المقاهي، أو كافتيريـات النجوم الخمس. لا أحضر الندوات التـي يتكرر إنعقادهـا أو المؤتمرات أو الإجتماعات السياسية . أصبحت بالنسـبة إلـيَ كالتمثيليات ، التي يلوكون فيها كلاما سمعته من قبـل، وأرى شخصيات سئمت من رؤيتها.
إذا حركني شيء ، أكتب مقالاً . وغالباً ما ترفض الصحف أن تنشره ، بعـقـل بـارد يجيـد الحسابات.
أنا رجل رومانسي، "دونكيشوتي " إلى حد ما ، وهذا لا يوائم زمن الخصخصة والسوق الحرة والدولار وصور السيوف المرسومة على زجاج السيارات . عندما تطورعصرالتكنولوجيا،والحداثة،والبورصات ، لم أتدرب علـى الكلمـات الخاطفة الذكية، أو مسايرة تيارات الإعلام التي تخفي ما يجب إبرازه من حقائق وأفكار ، في طوفان الأصوات الزاعقة.
قلت لنفسي مكانك وسط الغيطان، مع الجلاليب والـدواب. ربما تجد ضالتك في المساحات الخضراء. فقدت سيارتي فـي الصباح الباكر على الطريق الزراعي سـائرا نحـو الشـمـال. توقفت في الطريق بعد كوبري "بنها" عنـد أحـد المقاصـف. تناولت إفطارا من الفطير " المشلتت" و"المش" والشاي ، ضـاربا عرض الحائط بنصائح الأطباء. وعند الساعة التاسعة ، صـعدت السلالم إلى باب البيت الذي أقمته منذ عشرين سنة بعد عودتي من "الهند".
في وقت من الأوقات كنت أواظب على المجيء إلى بلدتي " القضابة "، ففيها كتبت عددا من الأعمال. لكن فـي السـنين الأخيرة قلت زياراتي إليها. تمر الشهور دون أن أقطع مسـافة المائة وثلاثين كيلو مترا التي تفصل بينها وبين العمارة التـي أسكنها أمام جزيرة "الوراق ". لم أعد أقضي بعض الأيام في " الدَوار " ، وهو الإسم الذي يطلقه على بيتي حارسها مـن بـاب المجاز. لم أعد أطل على الترعة ساعة الغروب، أو على صف الأشجار التي أشرفت على زراعتها عنـد الشاطيء، علـت رؤوسها، وتشابكت أغصانها لتصنع مساحة من "الطراوة" في أشهر القيظ، أو على النيل يتعرج بين حقول الذرة والبرسيم. لم أعد أسير على " مدك" من "المدكات" الترابيـة إلـى جـوارمجرى المياه الهادئ ، تظللها أشجار الصفصاف التى تشعرنى بسلام داخلى عميق .
ترتب على ذلك ، أنه في الشهور الأخيرة إنتهز بعض سكان القرية غيابي الطويل فأقاموا عششا للطيور، وزرائب للدواب، وأدوات لصنع المراكب، ووضعوا أكواما من ألـواح الخشب على شاطيء الترعة الممتد أمام " الـدَوار". فـي وقـت مـن الأوقات كان هذا الشاطيء يستخدم "ملقفا" للزبالة، فتلقى عليه كل فضلات القرية وتتراكم عليه تلال من القاذورات ترتفع منها الروائح الكريهة، وتطن حولها سحب الذباب السوداء، وتزحف منها جيوش من الصراصير، والخنافس والجرذان.
إزاء هذا قمت أنا بمعاونة شريكتي في الحيـاة " نـوال "، وبمساعدة بعض شباب القرية بتنظيف الشاطيء. بذلنا في هذا جهدا مضنيا، ثم زرعنا الأشجار ليتحول الشارع إلـى منتـزه ومكان يغسل فيه النساء الآواني، والملابس، والحصر، وأحيانا خزينهن من القمح.
لما وجهت بما حدث أخيراً بحثت عن الإجراء الذي يمكنني إتخاذه، فاتضح لي أنه وفقا للقوانين والأعـراف فـإن حـق الإنتفاع بشاطيء الترعة ، هو من نصيب أصحاب البيت المقـام أمامها، أي من حقي أنا دون غيري من الناس. وأنه لا يجوز لأحد أن يحل محلي ، خصوصا وأنني قمت بتنظيـف الشـاطيء وزراعة الأشجار عليه منذ عشرين سنة.
بناء على هذا في الصباح التالي لوصولي ، توجهـت إلـى الغرفة التي خصصناها للكتابة، وفتحت أدراج مكتبي بحثا عن رزمة من الورق الأبيض وضعتها في إحداها، حتى أقوم بكتابة شكوى لأولي الأمر ، وفقا لنصائح أهل الخبرة في حل المعضلات التي دأب سكان القرية على إبتداعها كلما تغيبت عنها.
وأناأبحث فى الأدراج ، وقعت على أشياء لم أكن أدرك وجودها . أولها رسومات للمنزل سطرت على مناديـل ورقية كبيرة ، فأعادت إليَ جلسة مع " نوال " ، في مطعـم على طريق العودة من زيارة قمنا بها إلى ضريح " التاج محل " يبعد عن " نيودلهي" عاصمة الهند مسافة مائة وثلاثين كيلـو متر.
تذكرت أنه في ذلك اليوم مـن شـهر سبتمبر ١٩٧٤ ، تناولنا وجبة من العدس الهندي الحريف يسمونه "دال" ، ومـن السبانخ بمكعبات الجبن الأبيض يسمونه "بالاك بانير"، وأننـا تحدثنا عن فكرة بناء منزل في القرية نكتب فيه، ونقضي فيـه بعض الأجازات، فأتي إلينا النادل بمناديل من الورق أخـذنا نرسم عليها تصميما للبيت. لكن أثناء النقاش كما يحدث أحياناً ، إختلفنا ودخلنـا فـي نـقـاش حـاد حـول توزيـع الغـرف وإستخداماتها، وقد غاب عنا أن المسافة التـي تفصـلنـا عـن مصر سبعة آلاف كيلو متر، وأن هذا المشروع لن يتحقق إلا بعد سنوات، فأمامنا وقت طويل لإستئناف النقاش الحاد. وفجأة إنفجرنا بالضحك عندما أدركنا أننا كنا كالأطفال إنغمسـنـا فـي عالم من صنع الخيال.
في الدرج وجدت أيضاً خطابات مكتوبة علـى الكـومبيتر وجهها ابني "عاطف" إلى محـافظ الغربيـة، ومدير الأمـن، ومأمور مركز "بسيون" يخبرهم فيها أنه سيقوم بالتصوير" في قريتي " القضابة" و"صالحجر"، مركز "بسيون" ، وهذا في إطـار إخراج فيلمه "عروسة النيل" الذي حصل فيما بعد على جائزة أحسن فيلم، وأحسن إخراج، وأحسن سيناريو فـي مهرجـان "مونبلييه". كان هذا الفيلم ثاني عمل له في مشواره الشـاق عبر عالم السينما وانتهى من التصوير عام ١٩٩٣.
تحت هذه الأوراق ، وجدت صورة لأمى فى سن الشباب ، شعرها الغزيرالكستنائى يلتف حول رأسها ، وفى عينيها النظرة الجميلة والصارمة التى اعتدتها ،وكأنها تسألني : وأنت،ماذاستفعل بحياتك يابني ؟.
في الدرج الثاني وجدت أوراق بخط يدي ، هي أجزاء مـن الكتب التي قمت بتأليفها، وقرارا صادرا من وزير الصحة سنة ۱۹۷۱، بنقل " د/ نوال السعداوي" من القاهرة إلـى "أسـوان" . ثم تذكرت نفسى خارجا من مطار "القاهرة " القديم بعد رحلة عمل إلى "آسيا". على الرصيف الخارجي ، كانت واقفة تنتظرني وعلى وجهها ابتسامة مشرقة. احتضنتني ثم قالت في صوت ينبض بشيء كالتحدي الممتزج بالفرحة : " مش وزير الصحة نقلني "أسوان" !! ". أسقط قلبي ضربتين ثم واصل وقعـه المنتظم. قلت : " أسوان " ؟! لماذا يا "نوال" ؟ . قالت : "عشان كتاب "المرأة والجنس". الأزهر ضغط عليه عشان اللي كتبتـه عـن خـتـان الإناث وعن حاجات تانية".
جلست أتأمل ما عثرت عليه، ثم قربت مقعدي من المكتب وكتبت :
"السيد مدير إدارة الضرائب العقارية بطنطا"
مقدمه لسيادتكم الدكتور "شريف يوسف فتح الله محمـد حتاتة " وعنوانه شارع الجلاء، قرية القضابة، مركز بسيون، الغربية ثم توقفت.
بدا لي أن حياتي ليست سوى خيال.
من كتاب " يوميات روائى رحَال " 2008
-------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صواريخ إسرائيلية -تفتت إلى أشلاء- أفراد عائلة فلسطينية كاملة


.. دوي انفجارات في إيران: -ضبابية- في التفاصيل.. لماذا؟




.. دعوات للتهدئة بين طهران وتل أبيب وتحذيرات من اتساع رقعة الصر


.. سفارة أمريكا في إسرائيل تمنع موظفيها وأسرهم من السفر خارج تل




.. قوات الاحتلال تعتدي على فلسطيني عند حاجز قلنديا