الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روسيا الحديثة 10 العدميون يقتلون القيصر

محمد زكريا توفيق

2022 / 11 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الفصل العاشر

العدميون يقتلون القيصر

في عام 1863، كانت معظم الآمال العظيمة، التي جاءت مع النظام الجديد، قد تبخرت في الهواء، فشعر الناس بخيبة أمل كبيرة.

هذا صحيح بشكل خاص في بولندا المحتلة بالروس، حيث كان الأمل في دستور جديد، واسترجاع أجزاء الوطن المسلوبة، يتزامن مع إحياء الشعور الوطني في كل مكان.

بعض أعمال السلطة التعسفية، تسببت في أزمة. فاندلع البولنديون في ثورة عامة، وشكلوا حكومة وطنية. لكن لم يكن لديهم جيش. وسرعان ما وضع الجنرال القاسي، مورافييف، مع قواته الروسية حدا للمشكلة.

كان يعلن أنه، "من غير المجدي أخذ أسرى". وقام بإطلاق النار على قادة الثورة المقبوض عليهم، أو شنقهم. وعوملت القرى والمدن البولندية بوحشية، مما تسبب في سوء حالتها، أكثر من أي وقت مضى.

واستُبدلت اللغة البولندية بالروسية، ليس فقط في المدارس، ولكن في جميع المصالح الحكومية والأماكن العامة. وشغلت الوظائف العامة بالروس. ونزعت أراضي النبلاء، وأعطت للأقنان الذين يقومون بزراعتها. وصودرت أموال وممتلكات كل من شارك في الثورة.

في نفس الوقت تقريبا، شعر الطلاب في بعض الجامعات الروسية، بأن حقوقهم قد انتهكت. مما جعلهم يصطدمون بالسلطات الحاكمة.

فتم إغلاق الجامعات لعدة أشهر، واعتقال العديد من الطلاب، ومعاملتهم بقسوة. هنا ظهرت عقيدة "العدمية" منذ ذلك الوقت.

"العدمي"، كما يقول باكونين، الكاتب والسياسي الروسي: "هو كل رجل كرس حياته للتعذيب والموت. ليس لديه مصالح شخصية، ولا أعمال ولا مشاعر ولا ملكية. إنه مبشر ورسول لدين اسمه الثورة، مستعد للاشتراك، فيها والموت من أجلها.

بالنسبة للعدمي، هناك شيء واحد في هذه الحياة، هو "الدمار". إنه يزدري ويكره النظام الحالي للأخلاق. بالنسبة له، كل من يؤيد ويشجع على الثورة، هو أخلاقي. وكل من يعيقها أو يمنعها، غير أخلاقي. ما بين العدمي وبين المجتمع، هو صراع حتى الموت، لا ينقطع ولا يمكن رأبه."

بينما كانت الأمراض تدمر روسيا داخليا، كان تمددها الخارجي على قدم وساق. في آسيا عام 1858، تم القبض على الشيخ "شاميل"، الإمام الثائر. بذلك، أمكن القضاء على الثورة الشركسية في القوقاز، التي ظلت مشتعلة لمدة طويلة.

في آسيا، تركستان والأراضي القديمة التي سقطت ذات مرة في يد تيمورلنك، باتت الآن في أيدي الروس. في الشرق، واجهت روسيا الصين. وفي الجنوب، تم تهديد الممتلكات الإنجليزية في الهند. واستسلم خان خوارزم، بعد أن حوصر في واحته عام 1872.

بعد الحرب الفرنسية البروسية، اخترق الإمبراطور ألكسندر معاهد باريس للسلام، وبدأ يستعد للمستقبل. استعاد الحصن وميناء سيفاستيابول في القرم، وقام في نفس الوقت تقريبا بتغيير نظام الجيش بأكمله.

ثم أعلن أن الدفاع عن العرش والبلاد، هما واجب كل روسي. وبناء على هذا المبدأ، تقرر تجنيد الشباب، حينما يبلغون سن العشرين كل عام. يقضون في الخدمة، من ستة شهور إلى ست سنوات، حسب الحاجة إليهم، وحسب درجة تعليم كل منهم.

أما الجيش الدائم، فكان يبلغ تعداده 560 ألف جندي، في وقت السلم، مع احتياطي يزيد عن المليون، يتم استدعاؤهم وقت الحرب.

ثم وضع النظام الجديد للاختبار أثناء أحداث الشرق. بعض الرعايا المسيحيين، الذين كانوا يعيشون تحت حكم الباب العالي، كانوا محبطين. بسبب ما يلاقونه من جامعي الضرائب العثمانيين، فلجأوا للثورة عام 1875.

فقامت انتفاضة الهرسك، وهي ثورة قادها الصرب ضد الإمبراطورية العثمانية في الهرسك بصورة رئيسية، ومن هنا جاءت تسميتها، ثم امتدت إلى منطقتي البوسنة وراشكا. واستمرت في بعض المناطق حتى بداية عام 1878.

وأعلن قادة المتمردين أنهم لا يمكنهم العيش تحت نير الأتراك. " نحن بشر، ولسنا ماشية. نريد حرية حقيقية ومطلقة، ولن نظل أبدا محكومين بالأتراك، ما دمنا على قيد الحياة"

خوفا من انتقال الثورة إلى بلادهما، سارعت النمسا وروسيا بحث الباب العالي على تنفيذ ما وعد به من إصلاحات، تخص الرعايا المسيحيين والأقليات.

فقام الباب العالي بعدة وعود، وأصدر عفوا عاما عن المتمردين عام 1876. لكن، لم يكن لديهم ثقة في وعود الأتراك، وبقدوم الربيع، اتخذت الثورة أبعادا أكثر خطورة.

استغل البلغار حيرة السلطان، وأعلنوا استقلالهم عن تركيا. وانتشر التمرد في القرى كالنار في الهشيم. فقامت قوات من فيليبوبوليس وأدريانوبل وقوات غير نظامية تسمى "باش بازوك" موالية لتركيا، مشهورة بقسوتها، وأحرقوا ونهبوا أكثر من ستين قرية، ودمروا ثمانمائة وأربعين منزلا، وأربعين كنيسة، وثلاث وأربعين مدرسة.

يقال إنهم ذبحوا خمسة عشر ألف مسيحي، كثيرين منهم، نساء وأطفال. الحكومة التركية، بدلا من إدانة هذه الفظائع، أعطت مكافآت وأوسمة لقادة القمع.

لذلك، كان السخط كبيرا في جميع أنحاء أوروبا، وخاصة في إنجلترا، التي كان التجار بها يعانون من فقد نصف فائدة السندات التركية.

ثم تتابعت الأحداث المثيرة في القسطنطينية بسرعة كبيرة. هتف طلبة المدارس الشرعية بشعار: "تركيا للأتراك"، وتحول الهتاف إلى ثورة، أطاحت بالصدر الأعظم، ووضعت السلطة في يد حزب الإصلاح.

بعد ذلك، خلع السلطان عبد العزيز عام 1876، وبعد أربعة أيام، انتحر أو قتل. خليفته الضعيف، حسين عوني، حكم فقط ثلاثة أشهر، ثم خلع بدوره هو أيضا.

شقيقه عبد الحميد، رجل ذو أفكار ليبرالية، متفهم لقضية المسيحيين، اعتلى العرش. في الوقت نفسه، أعلن الأمير ميلان أمير صربيا، استقلال بلاده عن تركيا. ودخل في حرب استقلال مع تركيا، مدعوما بمتطوعين روس. لكن، هزمه الأتراك في كل المعارك، واحتلوا ديليجراد، وأخضعوا صربيا بالكامل.

كان ألكسندر، إمبراطور روسيا، هو المنقذ. أمر مبعوثه بمغادرة القسطنطينية، ما لم يتم منح هدنة للصرب في غضون يومين. فاستسلم السلطان، وتم إنقاذ صربيا.

بناء على اقتراح من إنجلترا، تم عقد مؤتمر للقوى في القسطنطينية عام 1876. لكن رفض الباب العالي الخضوع لأي تدخل من الخارج. وعندما يأس المفوضون من السلام، تركوا تركيا لمصيرها.

بعد أن تأكد ألكسندر أن الدول ستبقى محايدة، جاء لإنقاذ المسيحيين المضطهدين. انضم إلى جيش الجنوب، وأعطى أوامره بعبور الدانوب.

بالقرب من نهاية شهر يونية عام 1877، احتل مائتا ألف روسي جميع الدفاعات التركية على الضفة الجنوبية من النهر، وقاموا بحصار الأسطول التركي.

ثم جاءت عمليات البلقان من قبل الجنرال جوركو، الذي حاصر ممر شيبكا، واحتل مدينة نيكوبوليس في اليونان. وهي بداية جيدة للحملة الصيفية. لكن انعكست الأمور.

فقد جاء. عثمان باشا، مع جيش من أربعين ألف تركي، لمساعدة نيكوبوليس، لكن بعد فوات الأوان. فتحول جانبا إلى بليفنا، وهي مدينة هامة تتلاقى فيها الطرق، وتعتبر مفتاح البلقان.

احتلال بليفنا بواسطة هذه القوة القوية من الأتراك، تمت دون علم الروس. الكازاخ، الذين كانوا يطلق عليهم "عين وأذن الجيش الروسي"، لم يكتشفوا ما حدث.

ثم أقام عثمان باشا المتاريس، وحصن نفسه بطريقة بارعة. لمدة خمسة أشهر، قاوم أفظع هجمات معروفة في تاريخ الحروب.

كان الإمبراطور الروسي مضطرا لتعبئة ثلاثمائة ألف رجل. خلال هذا الوقت، كان يدير شؤون إمبراطوريته من أكواخ بائسة في قرى صغيرة في أراض أجنبية.

لم يمكن، حتى نوفمبر، أخذ بليفنا. حاول عثمان باشا اختراق الخطوط عدة مرات، لكنه كان يجبر على التقهقر، وأجبر أخيرا على الاستسلام.

اقترب فصل شتاء 1878، ومع ذلك، قرر الدوق الأكبر نيكولاي، تعويض الوقت الضائع، ودفع الحملة إلى الأمام. وعبر الجنرال جوركو البلقان مرة أخرى، حاملا أسلحته فوق زلاجات جليد، لكي يأخذ الأتراك على حين غرة، مما جعلهم يهجرون دفاعاتهم.

واصل جوركو طريقه إلى فيليبوبوليس، في اليونان، وقام بتدمر جيش سليمان باشا المكون من ستين ألف جندي. في هذه الأثناء، أسر الجنرال سكوبليف، في عمل جريء، ستة وثلاثين ألف تركي في شيبكا، واحتل أدريانوبل دون طلقة بندقية واحدة.

فر السكان الأتراك في المنطقة بأكملها وهم في حالة ذعر من الروس المنتصرين. الآلاف من النساء والأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة لقوا حتفهم، من الجوع والتعب والبرد.

الانتصارات الروسية في بليفنا وخارج البلقان، كانت متوازية مع أحداث أرمينيا. بعد العديد من الإحباطات الناجمة عن عدم كفاية القوات، جاءت التعزيزات.

بعد ذلك، تم قطع جيش مختار باشا في جنوب شرق كارس، إلى قسمين. كارس نفسها، المنيعة والتي تقع وسط التلال الصخرية، تم أخذها وأسر عشرة آلاف جندي، والاستيلاء على ثلاثمائة بندقية. كما تم استثمار ارزوم.

كان الباب العالي مستعدا للسلام. في 29 يناير 1878، تم إطلاق الرصاصة الأخيرة. في 3 مارس، تم التوقيع على معاهدة السلام في سان ستيفانو.

بدت تركيا تماما أنها كانت في قبضة روسيا. لكن القوى العظمى، بعد أن تركت الحرب تستمر فترة، أوقفت فجأة خطط روسيا.

ثم عقدت مؤتمر برلين، لكي تعيد تركيا إلى الحياة مرة أخرى. كل المكاسب التي حققتها روسيا من الحرب، هي جزءا من من بيسارابيا، وإقليم صغير في أرمينيا، بما في ذلك كارس وباتوم.

كان الروس يشتكون بمرارة. قالوا إن "المؤتمر كان سخافة هائلة، وفشل متخبط، وغضب وقح. لقد تعرضت روسيا للخداع، وتم تلطيخ الشرف الروسي، ودهسه تحت الأقدام"

بدأ الاستياء الذي شعرت به روسيا يعبر عن نفسه في الحراك الثوري والاحتجاجات. أصبحت الحرائق المدمرة والاغتيالات متكررة في جميع أنحاء البلاد.

ثم ظهرت مرة أخرى في الجامعات، منشورات مجهولة المصدر، تم توزيعها في كل مكان. كانت تعبر عن مطالب الشعب، بالتخلص من الجواسيس والشرطة السرية.

وتطالب بحرية الصحافة والتعبير، والسماح بالتدريس دون قيود مزعجة، والعفو عن السجناء السياسيين.

كما وجهت اللجان العدمية مطالبها للجيش: "يجب القضاء على المحسوبية، عاجلا أم آجلا". لكن الأزمة مع الجيش لم تأت لسنوات. وكان الاعتماد على الرجال الشرفاء والمفكرين في الجيش للإسراع بهذه النتيجة".

بعد ذلك، زاد التوتر، بسبب صدور أمر، يلزم صاحب كل منزل في سان بطرسبرج، بتعيين حارس على بابه ليلا ونهارا لمنع نشر لافتات مثيرة للفتنة، والحد من انتشار كتيبات الثورة.

ثم حوصرت المدن الكبرى في الإمبراطورية. في شهر واحد، حدث سبعة عشر ألفا وثلاثمائة حريق، دمر ممتلكات تقدر قيمتها بمليوني روبل.

فتمت محولات الاعتداء على الإمبراطور، وتهديد حياته مرارا وتكرارا. كما أنه أصبح يوصف علنا بالمستبد المتعطش للدماء، وكثر التنديد بحكمه الذي يعتبر لعنة من البداية للنهاية. تحرير القنان الذي تم في عهده، لم يعد يكفي لإنقاذ سمعته، وبات ينظر له على أنه مجرد وهم وكذبة كبيرة.

حدثت إنفراجة صغيرة عند إلغاء البوليس السري، ولكن لا يزال العدميون يمارسون نشاطهم. وقاموا بتهديد الإمبراطور بالقتل إن لم يوافق على دستور جديد للبلاد.

أخيرا، أثمرت محاولاتهم بالنجاح. في 13 مارس، 1881، كان الإمبراطور في طريقه إلى القصر الشتوي، فسقط مصابا بجروح قاتلة، جراء إلقاء قنبلة يدوية، ألقاها رجل يائس.

بالرغم من استمرار تهديدات العدميين، تقلد ابنه، ألكسندر الثالث، العرش، وبدأ حكمه بوئام، في ظل تقاليد الماضي. لكن روسيا، التي بلغ تعدادها خمسة وتسعون مليونا من البشر، لازالت تبحث عن الحرية والعدل، مثل باقي شعوب العالم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعرف على السباق ذاتي القيادة الأول في العالم في أبوظبي | #سك


.. لحظة قصف الاحتلال منزلا في بيت لاهيا شمال قطاع غزة




.. نائب رئيس حركة حماس في غزة: تسلمنا رد إسرائيل الرسمي على موق


.. لحظة اغتيال البلوغر العراقية أم فهد وسط بغداد من قبل مسلح عل




.. لضمان عدم تكرارها مرة أخرى..محكمة توجه لائحة اتهامات ضد ناخب