الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أطروحة المنفى

مصطفى الحسناوي

2022 / 11 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قد نقضي العمر كله في بلاد،تمر سنوات الشتاء ونكتشف في النهاية بأننا عشنا لاداخل منفى واحد،بل منافي كثيرة تسيجنا من كل الجهات،تطلق على نفسها كل الأسماء،حتى تصير المسميات جديرة بها.المنفى/المنافي هنا ليست أبدا ترفا وجوديا بل شرطا شارطا لنمط/ وجود معين يتصف بحدة الغربة بغياب الانتماء،باستحالة اقتسام أية صفة أو خاصية مع هؤلاء،مع الأشباه الذين نتقاسم معهم الخريطة وتلح الكليشيهات الجاهزة بأننا نشبههم.تكتشف في مرحلة متأخرة من العمر بأنك عشت داخل نفقك الخاص،وأن الآخرين عاشوا أيضا،كل واحد على حدة،داخل أنفاقهم الخاصة، وبين الأنفاق تنتصب جدران قد تكون من الزجاج أو الآجر الأحمر.داخل مجتمع آهل بالعشائر والقبائل وما يمكن تسميته افتراضيا أفرادا نتوهم العيش،أحيانا نستسلم لخيالات الكليشيهات الرخوة التي تعفينا من طرح الأسئلة ومن أن يكون لنا وعي/فكر نقدي،لكننا نكتشف بأننا نعيش داخل اللاجدوى،اللامعنى ،داخل التفاهة المتناسلة والشراسة والعدوانية الرخيصة والمريضة، وداخل الفرجة المعممة والمتفاقمة مثل داء عضال.تغوص العشائر والقبائل وجحافل الأفراد المفترضين في وحل المجتمع ،في بركه الآسنة ،وفي مرجاته التي تتناسل فيها البكثيريات، معتقدة أن هذا بالذات هو المجتمع الوحيد الممكن. علما أن الأمر في نهاية المطاف يتعلق بكارثة/كوارث اجتماعية،أكثر مما يتعلق بصيغة ممكنة وعقلانية للعيش المشترك.لن نكرر مع سارتر بأن الآخر هو الجحيم،المقولة السارترية غارقة في النوستالجيا كأنها تتخيل بأن هناك فردوسا بلا آخر،فردوس الذات الملمومة على ذاتيتها المفترضة أيضا.لاتتوفر الذات على فردوس خاص به يمكنها العودة إليه،يمكن أن تلجه.العودة للانغلاق على الذات،على تلك الفردانية المفترضة ليست أمرا جيدا.هذا بالذات هو المغزى من حكاية العودة المفترضة للذات.هنا تمكن ربما دلالة اصطلاح"نوستالجيا"الكلمة ذات النبرة اليونانية القوية بالرغم من أن الباحثة في الثقافة اليونانية باربارا كاسان، تذكرنا بأن كلمة "نوستالجيا"اصطلاح تركيبي سويسري-ألماني أكثر مما هو يوناني نوستوس nostos للعودة وalgos ألغوس للألم.ألم العودة لايعني بأننا نتألم لأننا غير قادرين على العودة،بل أن العودة تسبب ألما بكل بساطة.أوليس نفسه الذي اضطلع بمحك الأوديسة، ملحمة العودة إلى إيثاكا لايشعر بالنوستالجيا لذلك لم يعد.أول من أخبرنا بذلك هو تيرزياس العراف الأعمى في النشيد الحادي عشر من (الأوديسة) (ستعود،ولكنك سترحل وستموت بعيدا).لا مسقط رأس نعود إليه،نلوذ به،نحتمي به من المنفى/المنافي التي تتهددنا،تقترفنا وتصير نمط وجودنا.المنفى ليس سقفا ميتافيزيقيا.المنفى أفق مادي ملموس،عبر الاضطلاع به نكتشف/نعي المسافات التي تفصلنا عن واقع شبيه بحرب أهلية دائمة ،عن صحراء الحياة اليومية حيث يجوس الزومبي ،تلك الأجساد المعطوبة التي تتوهم الحياة ،لكنها لاتحيا بالفعل.نضطلع بالمنفى فنكتشف بأننا أقلية،بل أقلية الأقليات وسط الهذيان الجماعي المتفاقم،وسط الشيزوفرينا التي صارت بمثابة عقيدة وطنية وسط النفاق الاجتماعي الزاحف على الأجساد/الحيوات الموبوءة كخلايا سرطانية .نسميه المنفى الذي نضطلع (قد نضطلع)به، ولكنه الحياة الأخرى التي نأت بنفسها عن النزوعات الفاشية الجماعية،عن سلطة الدوكسا القاتلة،وعن هوس الأغلبية التي تسن القانون وتفرضه وتحول كل اختلاف إلى حالة استثناء.المنفى بالنسبة لمن ينتمي لأقلية الأقليات هو نمط-وجود- في –العالم،إنه شكل انتماء لعدم الانتماء،أرض ،مفازات ،جغرافيا مفتوحة ،رحالة .تبني منفاك الخاص،تشيد معنى لمنفى يليق بعزلتك الواهبة،التأكيدية،الاختلافية داخل حشود المنافي التي تنبت كنباتات ضارة في الفراغات الآسنة.تبني معنى المنفى حتى لاتسقط في هاوية اللامعنى،اللاجدوى ،في الفراغ اللجي الذي لارجعة منه.نبني لمنفانا معنى بانيا حتى نفلت من هذيان منافي الآخرين،ومن سيرورة انبنائها للمجهول.نبني للمنفى معنى المقاومة،نفكر في الأزمة،في الموقف الراديكالي سياسيا،وجوديا،فكريا الذي يمكن أن نتبناه،نرفض الهيمنة.نعيش عمرا بأكمله داخل خريطة قاسية يشبه العيش فيها/فوقها حروبا أهلية دائمة،ونكتشف في السنوات المتأخرة من هذا العمر المستمر نفسه، بأننا عشنا داخل منفى فرض علينا في البداية،لكننا بعد ذلك اخترناه حتى نفلت من هذيانات الكائنات المتوحشة،من الفامبيرات،والزومبي ومن سطوة الخطابات القاتلة التي تحلم بأعراس الدم.المنفى ليس مسقط الرأس، الذي يمكن أن نلجأ إليه/نلوذ به/ننام في حماه/نأوي إلى رحمه .لأن مسقط الرأس مرتبط بالأنساب والعصبيات العائلية القبلية والعشائرية بالانتماء للدم الذي ينتظم الدوكسا.نعود إلى مسقط الرأس لنعود إلى التواريخ السرية لدمنا للأعراف والتقاليد الموروثة للأفكار المعتقدات، السرود التي نتوهم أنها مؤسسة لذواتنا/لوجودنا. أما المنفى فلا ينتظمه غير التحالف والصيرورات المفتوحة على تجارب أفكار كينونات لامسماة ولا مدركة.داخل المنفى لانرتبط بالأخ بل نتحالف مع الرفيق،مع الصديق،لانرتبط بالشبيه بل ننسكن بنداء/وجود المختلف.هكذا نسمي زمننا الآتي،نسمي التمرد الآتي،يصير الوجود بالنسبة لنا سياسة حميمية تحول حياتنا في أدق تفاصيلها إلى مصير نرفض الهيمنة،الخضوع للدوكسا الانوجاد داخل الأطر الذهنية الجاهزة والمتوارثة،لأننا نوجد داخل المنفى،منفانا الخاص،أو منفانا كأقلية الأقليات داخل مجتمع منتظم صلب بارانوي إسمنتي.المنفى أفقنا لاسقفنا المطلق،المنتهي.داخل هذا المنفى الخلاق التأكيدي،الفعال المسكون بالأفراح المادية للصيرورة، نرفض أن نعيش مسنودي الظهر إلى جدار ،لأن العيش أسفل جدار هي حياة الكلاب،ننأى عن أرتال السلوكات المواقف الفاشية التي تمخر الحياة اليومية.لانغادر الحرب ولكننا نؤجل معركة/معارك،المنفي ليس اختيارا إرادويا سعيدا ولكنه قد يصير حظنا في البقاء قيد الحياة حظنا في ممارسة نوع من المقاومة التأكيدية الفعالة،بعيدا عن منطق القتلة وهيمنتهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحة وقمر - قمر الطائي تجهز لنا أكلة أوزبكية المنتو الكذاب مع


.. غزة : هل تتوفر ضمانات الهدنة • فرانس 24 / FRANCE 24




.. انهيار جبلي في منطقة رامبان في إقليم كشمير بالهند #سوشال_سكا


.. الصين تصعّد.. ميزانية عسكرية خيالية بوجه أميركا| #التاسعة




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - الدفاع المدني بغزة: أكثر من 10 آلا