الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين إدراك الألم وفلسفة المعاناة

ثائر أبوصالح

2022 / 11 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يقول الروائي الياباني الشهير هاروكي موراكامي: "الألم أمر لا مفرَّ منه، أمّا المعاناة فهي اختيارية"، أي أن الألم لا بد لأي انسان منا أن يواجهه في مراحل حياته المختلفة، أما المعاناة فنحن نصنعها لأنفسنا. فهل بالفعل نحن من نسبب لأنفسنا المعاناة أم أن المعاناة حالة موضوعية لا مفر منها؟ يقول الفيلسوف فريدرخ نيتشه "هل سبق أن قلتم نعم للذة؟ أوه أصدقائي، بعدها قلتم نعم للألم أيضاً. كل الأشياء مترابطة، متشابكة، في حب بعضها البعض" " ما لا يقتلني يجعلني أقوى". أي أن الألم واللذة من جذر واحد ويلعبان دوراً مهماً في تطورنا، فالألم الذي لا يقضي على صاحبه يقويه. الألم واللذة لا يلتقيان الا في الحالة المرضية كالمازوخيه والسادية. فمن يتلذذ بتعذيب نفسه هو مازوخي أما من يتلذذ فيى تعذيب غيره فهو سادي، تُعّرف السادية على أنها اضطراب نفسي يتجسّد في التلذّذ بإلحاق الألم على الطرف الآخر. أيّ التلذّذ بالتعذيب عامةً، بينما المازوخية فهي اضطراب نفسي يتجسّد في التلذّذ بِالألم الواقع على الشخص ذاته.
الألم واللذة حالتان حسيتان تتعلقان بالجسد المادي، لذلك غالباً ما نستطيع تحديد أسباب حدوثهما، وإذا نجحنا في استبعاد ومعالجة الأسباب، زالت الحالة. وبما أن اللذة والألم حالتان مترابطتان ومتناقضتان وتنفي أحدهما الأخرى، كما الليل والنهار. لذلك لا يبدأ الأول بالظهور الا عنما يبدأ الثاني بالزوال، ولا يبدأ الثاني بالظهور الا عند بداية زوال الأول، فاللذة والألم يحصلان بالتدريج نافياً أحدهما الآخر كما ينفي ضوء النهار ظلمة الليل وبالعكس. بحال استمر الألم لفترة طويلة، عندها يأخذ الألم ابعاداً أخرى، ويتحول الى معاناة. إذن، الألم مرتبط بالجسم المادي أما المعاناة فهي مرتبطة بطريقة فهمنا لهذا الألم أي بالفكر.
ليس بالضرورة أن يكون سبب الألم جسدي مادي، فهو أسهل الأسباب وأبسطها، لأنه غالباً ما نستطيع التغلب عليه والتخلص منه. بل من الممكن أن يكون سبب الألم نفسي عاطفي كفراق الأحباء أو فقدهم، أو قد يكون سببه الفشل في الحياة الاجتماعية أو المادية، أو أي سبب آخر يشعرنا بالألم النفسي. هناك بعض الألآم الجسدية تتحول الى معاناة؛ مثل الأمراض المزمنة على سبيل المثال لا الحصر، في حين أن غالبية الألآم العاطفية تتحول الى معاناة قد تصل الى مرحلة الانتحار. فما هو السبب؟ ولماذا يحصل ذلك؟
لا شك أن المعاناة هي حالة فكرية محضة، والدليل على ذلك أن غير العاقل، أو من لا يملك الوعي الكافي لفهم ماهيات الأشياء، يتألم ولكنه لا يعاني. فالطفل الصغير يتألم ولكنه لا يشعر بالمعاناة، المختل عقلياً أيضاً يتألم جسدياً ولكنه لا يشعر بالمعاناة لأنه غير قادر فكرياً على تقييم وفهم أسس وآفاق تطور الحالة الموجود فيها، كذلك الحيوان يتألم ولكنه لا يشعر بالمعاناة، رغم وجود بعض الحيوانات التي تتأثر كثيراً عند موت أو فراق أصحابها، ولكنها حالة غريزية مزروعة في بعض الحيوانات الأليفة، وليست حالة فكرية نابعة من فهم هذا الحيوان لماهية الموت.
اذن، المعاناة حالة فكرية يختص بها الإنسان العاقل، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو كيف تحصل هذه المعاناة التي تؤدي في بعض الأحيان الى الانتحار؟ على الأغلب، المعاناة تبدأ بحدث مؤلم يترك أثره على الإنسان، كالموت أو الفشل أو الخسارة المادية على سبيل المثال لا الحصر. في المرحلة الأولى يكون الألم النفسي طبيعياً نتيجة للحدث، ولكن من المفروض أن يتناقص التأثير المؤلم لهذا الحدث مع مرور الزمن، فكما يقال؛ كل شيء يبدأ صغيراً ويكبر، الا المصيبة تبدأ كبيرة وتصغر. من هنا، فإن المعاناة تبدأ عندما لا ينجح المصاب بالألم التخلص تدريجياً من ألمه، وهكذا يدخل تدريجياً في حالة من المعاناة التي قد تكون نتائجها خطيرة.
العائق الرئيسي الذي يمنع بداية زوال الألم النفسي، هو الأفكار التي نكونها عن الحدث الذي حصل معنا. هذه الأفكار تولد عواطف مشابهة لها بجوهرها مما يؤدي الى استمرار المعاناة، فمثلاً في حال الفقد، عندما نكون متعلقين جداً بالشخص الذي فقدناه، تصور لنا أفكارنا أن الحياة قد انتهت، ولا يمكننا أن نستمر وحيدين بعد الفقد الذي اصابنا، ولن يكون هناك أي لون او طعم لحياتنا في المستقبل، والى اخره من هذه الأفكار السلبية والتي توّلد بشكل فوري عواطف ملائمة لها فيزداد ألمنا وندخل في معاناة شديدة. اذن، سبب المعاناة هي افكارنا التي وقفت سداً منيعاً أمام بداية تراجع الألم النفسي، والتي بغالبيتها مبنية على أوهام لا حقيقة لها.
من هنا نستنتج؛ أن أفكارنا هي من تصنع واقعنا، وإذا أردنا أن نغير هذا الواقع علينا تغيير طريقة فهمنا له. فالخروج من المعاناة ممكنة فقط عندما نبدأ بتغيير أفكارنا حول الواقع المعاش، وعندما نتقبل الألم برضا، ونعي أن لا مفر من مواجهته في هذه الحياة، وبالمقابل ندرك أن المعاناة هي خيارنا الشخصي، فالتفكير الإيجابي يجعلنا أقوياء، ويمكنا من الخروج بشكل تدريجي من هذا الألم والعودة الى حياتنا الطبيعية، فمعيار الصحة النفسية، يتعلق بمدى قدرتنا على العودة لحياتنا الطبيعية بعد وقوع حدث مؤلم أخرجنا عن مسارنا المعتاد. تماماً كالسائق الذي يتعرض لحدث مفاجئ يخرجه عن مساره، فسلامته تتعلق بمدى قدرته على العودة الى مساره الطبيعي.
من المؤكد أن القدرة على التفكير الإيجابي في أوقات الشدة ليست بالعملية السهلة، خصوصا في بعض الحالات التي يكون فيها الألم النفسي شديداً جداً، كما في حالة فقد الأحباء المفاجئة، على سبيل المثال لا الحصر. فقط الإنسان الناضج روحياً يكون قادراً على تحمل هكذا حدث، لأنه يتقبل حقائق الحياة كما هي، ويدرك أن الموت حقيقة موضوعية لا مفر منها كما هي الولادة. طبعاً هذا لا يعني أنه لا يتألم في حالة الفقد، ولكنه يمتلك الآلية العقلية والنفسية والروحية التي تجعله قادراً على التخلص من هذا الألم مع مرور الزمن، والعودة الى مسار الحياة الطبيعي. أما الشخص غير الناضج ستكون عليه هذه المهمة شاقة جداً، وقد يصل قسم من هؤلاء الى أوضاع صعبة، ويدخلون في حالات نفسية معقدة مثل الكآبة وغيرها من الأمراض النفسية الخطيرة.
المشكلة الأساسية التي تواجه الشريحة غير الناضجة في مثل هذه الحالات، هي منظومة الأفكار السلبية التي تقف سداً منيعاً أمام تقبل الحدث. وهنا يدخل دور الأخصائي النفسي الذي يتمحور جهده حول تفكيك هذه الأفكار الوهمية التي تعرقل عملية عودة الشخص المصاب الى مسار حياته الطبيعي. المهم هنا أن نفهم الدور المفصلي للأفكار في حياتنا، وكيف يمكن لأفكارنا السلبية أن تجعلنا نعيش في جهنم أرضية، وكيف يمكن لأفكارنا الإيجابية أن تجعلنا نعيش في جنة أرضية.
ان الإنسان الواعي والمتطور روحياً يتعامل مع اللذة والألم كرسائل من أجل التنبيه عن وجود خلل ما، أو من أجل الدفع باتجاه التطور. فالألم الجسدي هو عبارة عن رسالة تخبرنا عن وجود خلل في اجسامنا يجب الانتباه اليه، وأن أخطر الأمراض، تلك التي لا يصدر عنها الماً عندما تتشكل، مثل مرض السرطان. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لولا الألم لا نعرف عن وجود التهابات في بعض أجزاء جسمنا والتي من الممكن ان تسبب مضاعفات خطيرة على حياتنا. اذن الألم ليس سلبياً كما نتوهم إذا أحسّنا فهمه والتعامل معه.
يتعامل الأشخاص الذين ارتفعوا في سلم الوعي مع الألم النفسي كرسالة من الذكاء الكوني للارتقاء والتطور. فهؤلاء يتقبلون هذه الألآم ببرودة الحلم وبصدر رحب. على مبدأ: "مبارك كل رسول الم يأتيني منك يا الله". فالموت والولادة والخسارة والمصائب التي تحل بالإنسان ما هي الا رسائل لتوقظه من سباته، وهي ليست شراً على الإطلاق. فكل ما يصيبنا هو لصالحنا " لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع". ان هذه الطريقة بالتفكير تجعل الإنسان قوياً متقبلاً راضياً مسلماً، عندها سيعيش بسعادة الوعي بعيداً عن الحزن والغضب والألم والكآبة، فيصنع جنته على الأرض بيديه. أما الذي يفكر بشكل سلبي فيصنع جهنمه على الأرض بيديه أيضاً.
قد يدعي أحدهم، ويقول هؤلاء قلة الذين يستطيعون أن يتعاملوا مع القدر بوعي ورضا. هذا صحيح، ولكن إذا لم تستطع ان تكون واحداً منهم، عليك على الأقل أن ان تفهم أنك انت الذي تصنع قدرك بيديك، فلا تلوم احداً على ما انت به، وعليك إدراك ان الفكر يصنع الواقع، فاذا غيرنا افكارنا نغير واقعنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل دعا نتنياهو إلى إعادة استيطان غزة؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. روسيا تكثف الضغط على الجبهات الأوكرانية | #غرفة_الأخبار




.. إيران تهدد.. سنمحو إسرائيل إذا هاجمت أراضينا | #غرفة_الأخبار


.. 200 يوم من الحرب.. حربٌ استغلَّها الاحتلالِ للتصعيدِ بالضفةِ




.. الرئيس أردوغان يشارك في تشييع زعيم طائفة إسماعيل آغا بإسطنبو