الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل العلمانية المصرية في أزمة؟

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2022 / 11 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


شوفت فيديو صباح اليوم للأستاذ "سامح عيد" وهو يتحدث عن المصالحة بيني وبين هشام المصري، ويصف نموذج المصري بمصطلح فريد وهو (الإلحاد الصاخب) في إشارة فهمتها إنها لحظة غضب ومشاعر ثورية من اللادينيين للإعلان عن أنفسهم فيندفعون (بصخب) وأصوات عالية لجذب الانتباه...

وفي الحقيقة لم تحدث مصالحة ولا شئ هذا مجرد (تجنّب) يعني يانحلة لا تقرصيني ولا عاوز منك عسل ، وكل واحد يخليه في حاله لا يتحدث عن شخص الآخر بسوء، وكذلك فالحديث عن المصالحة مع شخصية مجهولة بالنسبة لي لا معنى له..

فبعض اللادينيين يكرهون سامح عسكر أكثر من كراهيتهم لعبدالله رشدي، وقد سألت صديق عزيز لاديني عن هذه الظاهرة قال لا أعلم ياصديقي..ولكن عليك أن تعذرهم فهم مضغوطين من المجتمع بشدة وطبيعي ينفجروا في أي حد، قلت: أنا شخص بقالي 20 سنة بكتب تنوير وإنتاجي المعرفي ضد قهر الملحدين وبدافع عن حريتهم في التعبير وضد قانون ازدراء الدين والعقوبة على التجديف..فما تفسيرك لهذا العداء غير المبرر؟..هل لأنني صريح في التعبير عن معتقداتي؟..هل لأنني غير حريص على كسب ود هذه الفئة باستخدام مصطلحاتهم وعباراتهم؟ ..ألم يكفهم أنني تعرضت لمحاولات اغتيال وقطع أرزاق وتهديدات بسبب ما أكتبه دفاعا عن حق هذه الفئة وعن الإسلام الإنساني الذي أعرفه؟

نعود للسؤال: هل العلمانية المصرية في أزمة؟

المقدمة السابقة مهمة لفهم الجواب والذي يتلخص في شئ واحد هو (أزمة الهوية)

فالعلمانية المصرية ليست فكرة واحدة لها بعد واحد، هذه مذاهب واتجاهات مختلفة ومنشقة على نفسها منها المسلم والمسيحي واللاديني والقومي، وهناك من لا يُشغل نفسه بهذه الأشياء ويتبنى جانب العلم التجريبي واعتباره مقدما على أي شئ، حتى الجانب القومي منشق هو الآخر منه القومي العروبي ومنه الفرعوني أو "الكيمتي" مع اعتراضي على كلمة فرعوني ولكني مضطر لاستخدامها في هذا المقال كتعبيرعن الهوية التي عرف بها المصري نفسه بدايات القرن..

فالمصريون منذ أواخر القرن 19 حتى ثلاثينات القرن الماضي كانوا يعرفون أنفسهم بالفراعنة والقومية الفرعونية كانت لها حضور كبير في النخبة، لدرجة غناء الست منيرة المهدية (1885 -1965) أغنية (أبونا توت عنخ آمون) بعد اكتشاف مقبرة توت سنة 1922 وقبل هذا الزمن كانت مصر تحتفل سنويا باكتشاف أثري جديد ظل هذا الوضع حتى صعود الملك فاروق الحكم وبداية الحرب العالمية الثانية..

مصر حتى الثلاثينات لم تكن بينها وبين العرب صلة سوى اعتبارهم أشقاء في الدولة العثمانية، ولما قامت الثورة العربية ضد العثمانيين لم تشترك مصر فيها لأن المصري لم يكن يعرف نفسه كعربي بل فرعوني، حتى قامت الحرب العالمية الثانية وانشغل الاستعمار بنفسه رأينا القومية الفرعونية تتبدل بأخرى (عربية) في مصر، رفع راياتها الملك فاروق وبدأ التبشير بها في المحافل باعتبار مصر قبيلة من قبائل العرب، لكن ظل الاغتراب عن الهوية ملحوظ في كتابات النخبة، فكلما يريدون التعريف بأنفسهم أنهم عرب نجد تاريخ أسبق ينسف ذلك..وكلما يريدون القول أنهم فراعنة نجد اتهامات بالانسلاخ عن المحيط وخيانة العرب في حربهم ضد الاستعمار.

وبعد تولي عبدالناصر السلطة وزيادة حضور الإسلاميين بدأوا في اتهام من يروج (للهوية الفرعونية) باعتبارها كافرة وثنية وأن الاكتشافات الأثرية التي حدثت وسجلها المرحوم "سليم حسن" (1886 -1961) وغنت لها منيرة المهدية ، هي ليست مشرفة ولا تستحق الذكر بل الهدم والتحطيم...وفي ظل هذا الاحتقان خرج (بعض) الفنانين المصريين يعلنون تمسكهم بالإرث الفرعوني فكان فيلم "عروس النيل" وتعزيز الاحتفال بيوم وفاء النيل، وهو العيد الثاني والوحيد الموروث منذ العهد المصري القديم مع شم النسيم..وخرج البعض الآخر بأفلام تمجد الإرث العربي كالناصر صلاح الدين ، وإسلاماه، وخالد بن الوليد، فضلا عن اتجاه بتمثيل أفلام التراث العربي الإسلامي كهجرة الرسول والشيماء..وغيرهم

انتصر الاتجاه الثاني العروبي بالطبع وهيمن حتى جاءت اتفاقية كامب ديفيد 1978م وما أعقبها من مقاطعة عربية وهجوم القذافي على مصر ونقل الجامعة العربية إلى تونس لتعلن موت القومية العربية في نفوس النخبة المصرية، ليبحثوا عن بديل ويجدوه في القومية الفرعونية ليبدأوا الكتابة من جديد، لكن للأسف: غابت المرجعية العلمية وافتقر العقل المصري للوعي والربط الوجداني مع حضارتهم القديمة، فكان الحل هو (ترجمة أعمال الأجانب عن مصر) كجيمس هنري بريستد، وأنا مانسيني، وويليام سيمبسون، وأليسون روبرتس...وغيرهم، فالعقل المصري فقد الموسوعة سليم حسن ولم يعد بإمكانه إخراج عقلية فذة مثله، وكان غياب الحديث عن الهوية الفرعونية منذ العهد الفاروقي حتى طرد مصر من الجامعة العربية وهي مدة 40 سنة تقريبا كافيا (لتصحر الثقافة المصرية) وغياب الرابط بينها وبين أصولها القديمة..

باستثناء طبعا محاولات طفيفة لأبكار السقاف وإبراهيم الشتلة وترجمات صفاء محمد، لكن محاولات هؤلاء كانت ضعيفة جدا بالمقارنة مع ما أنجزه سليم حسن..

كان لعدم القدرة على التبشير بالهوية الفرعونية من سنة (1940 – 1980) له سببين:

الأول: اكتساح القومية العربية البديلة
الثاني: زيادة نفوذ الإسلاميين

فطغت الثانية على الأولى في عهد مبارك وركلتها خارج التاريخ لعوامل منها سوء معاملة المصريين في الخليج وهجوم الفلسطينيين على مصر، وبرغم محاولات مبارك العودة لما يسمى (الحُضن العربي) لكنها ظلت سياسية على استحياء لم تشارك فيها النخبة والشعب نفسه فقد الثقة فيها في ظل دعايا الإسلاميين ضدها من جانب، والأزمة الاقتصادية المصرية من جانب آخر..

الخلاصة مما سبق: العلمانية المصرية اكتسبت نفوذا وقوة عندما كانت الهوية الفرعونية واضحة ولها شعبية، لأنها الهوية المصرية الوحيدة البعيدة كل البعد عن (الحُكم الديني) أو الوحدة على أساس قبلي متصلة بالحكم الديني، ولا تعاني من نظرة عنصرية تجاه الغير، هي فقط تبحث وتعتز بأصولها التاريخية لكنها لا تعاني من فوبيا التفوق أو احتقار الغير بمجرد الانتماء...وكانت هذه الفترة ممتدة من عصر محمد علي باشا (1769 -1849) حتى الحرب العالمية الثانية (1939 -1945) وهي حقبة 100 عام تقريبا، وهي التي عرفت لاحقا بالحقبة الليبرالية المصرية التي عرفت فيها مصر (تنويرا) وزخما معرفيا وإنتاجا فكريا هائلا لم تعرفه طوال تاريخها..

لم تنحط مصر مباشرة ولكن ظلت فترة عدة سنوات متصلة بهذه الحقبة كحاجز بين زمنين، وهي الفترة التي شهدنا فيها صعود الإخوان المسلمين السياسي ومقتل حسن البنا وثورة يوليو

وصلنا الآن للنسخة الأحدث من الهوية الفرعونية وهي (الكيمتية) لكنها تعاني من التطرف والدونية بدرجة كبيرة، وتنظر باحتقار للعرب والأفارقة باعتبارهم إما مُحتلّين أو تهديد بالاحتلال (بدون تعميم طبعا لأن منهم مثقفين مميزين) فضلا عن ارتباط هذا النوع من العلمانية بالإلحاد والترويج أن المصري الكيمتي مرتبط بدين آمون ورع أكثر من ارتباطه بالإسلام، وبالتالي فعليه تطوير هذا الدين الكيمتي القديم أو تركه وتقديم العلم باعتباره منجزا عصريا عجزت عن تحقيقه الأديان..

وبرأيي لولا الصدامات السابقة للمصريين مع (العرب والجماعات الإسلامية) ما بحث هؤلاء عن هوية مصرية جديدة لا دين لها، وبرغم انتمائي لهذا التيار الكيمتي ورؤيتي له كبديل جيد عن الهوية العربية الضائعة ولأن المصري بحاجة لتعريف نفسه من جديد إلا أن الكيمتية تم القفز عليها من المتعصبين القوميين، وصارت دعاوى العلمانية المصرية باسم الحضارة المصرية القديمة تساوي الانقلاب على ثقافة وهوية سكان وادي النيل (مسلمين ومسيحيين وعرب)..وسوف يظل هذا القصور ما دامت نوايا الانقلاب موجودة، والسكان يرون الانقلابيين خطرا يتهددهم، والسلطة تراهم مجموعة مشاغبين يريدون فرض نمط فكري وديني وسياسي واحد على 100 مليون مصري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي