الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النمل وكلام الله

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 11 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تمكن العقل الغيبي خلال العصور المتتالية من تطوره من خلق عالم سحري مليء بالعجائب والغرائب مواز للعالم الحقيقي أو الطبيعي الذي نعيش فيه. عالم متخيل بني حجرا حجرا وصورة صورة خلال آلاف السنين، تصورات عقلية أوعقلية خيالية تتشابك وتولّد بعضها البعض، تتحرك وتتغّير الصور والشخصيات حسب الظروف والمواقف والأزمان المتعاقبة. ولهذا العالم الذي تفوح منه رائحة البخور والتعاويذ والإبتهالات، بعد زمني، سحري هو الآخر، حيث بداية الخلق هناك بعيدا في السماء، الله يخلق آدم من الطين ويتركه وحده يتسكع في الجنة بين الملائكة والشياطين، يلحقها زمنيا ما سميناه مجازا بثورة إبليس، بالأحرى محنة إبليس الذي رفض أن يسجد أمام هذا المخلوق الطيني المزري فيلعن الله إبليس إلى ايوم القيامة ظلما، لأن إبليس رفض أن يسجد لغير الله، هذه المحنة التي حللها صادق جلال العظم ببراعة في كتابه نقد الفكر الديني. ثم تأتي قصة خلق حواء من ضلع آدم، وإغواءها من قبل الشيطان الذي تنكر في صورة الحية لتأكل من الشجرة المحرمة ثم هبوط آدم وحواء على الأرض بعد غضب الله عليهما وطردهما من الجنة، ثم أول جريمة على ظهر الأرض حيث قابيل يقتل أخيه هابيل بحجر .. وهكذا تستمر الاسطورة حتى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من قبيلة الأنبياء. وهذا البعد التاريخي المتخيل، أصبح اليوم في نظر العديد من العقول الغيبية حقيقة تاريخية لا سبيل إلى الشك في مصداقية أحداثها، مثلا يقولون أن نوح (شيخ المرسلين) لبث في قومه 950 سنة ودفن في مسجد الكوفة، وقيل في الجبل الأحمر أو في المسجد الحرام. أما إبراهيم الخليل (أبو الانبياء) فقد عاش 200 سنة، ولد بعد الطوفان بـ 1263 سنة ودفن في الخليل (فلسطين) وفيها قبر زوجته الأولى سارة. وهكذا تتحول الأسطورة والقصص والخرافات إلى حقائق وأحداث وشخصيات تاريخية وأماكن جغرافية يمكن زيارتها، بل يمكن على أساسها تبريرطرد شعب كامل من أرضه لإنشاء دولة وعد بها الله شعب آخر. ولكن هذا لايمنع أن هذا العالم الخيالي له عقلانيته ومنطقه وقواعده وتفاصيله الدقيقة، له العلة الأولى والسبب الأول والمهندس العبقري الذي رسم خريطة الكون ثم نفذها في ستة أيام ليستريح في اليوم السابع. العقل الغيبي إذا يعيش محاصرا داخل سور ضخم من التصورات العقلية يشكل حدود هذا العالم وحدود العقل ذاته، حيث تتحقق فكرة الله وخلق الإنسان والكون وموقع الإنسان داخل هذه المسرحية ودوره كعبد يحمد الله وينبطح أمامه خمس مرات في اليوم ويطيعه إطاعة مطلقة ويسلم له مقاليد أمور الدنيا والآخرة ليفوز بالثواب بالجنة وما فيها من حوريين وحوريات وأنهار من العسل والحليب والكوكا كولا. وعندما يحاول هذا العقل المنفي عن ذاته أن يلقي نظرة من شق صغير في هذا الجدار، ينتابه فورا نوع من الرعب والهلع والخوف الميتافيزيقي، حيث يكتشف أنه وراء هذه الجدران المحيطة به يوجد العالم الفسيح المتمثل في فراغ سديمي كاسح يستدعي قوة خارقة للإحاطة به ولمواجهته والحياة بين ثناياه ونتوءاته، فيعود مسرعا إلى معبده وسجادته يسبح بحمد ربه الذي حصنه وراء أسواره ويتعود من الشيطان الرجيم الذي ينتظره في كل خطوة. ذلك أن العالم الحقيقي يعد مصدرا للرعب والفزع لمن اعتاد الإعتماد على القوى الخارقة للإجابة على تساؤلاته، ويبعث على القلق لفساحته ولا نهائيته ولضآلة الإنسان الذي لا يستطيع أن يزيد قامته طولا وعظمة إلا من خلال الختم الإلهي. ولا يستطيع العقل المحاصر إلا أن يعود لزنزانته وسلاسله وعالمه اليقيني المنظم عقليا بطريقة لا يدخلها الشك، حيث لكل دوره المرسوم مسبقا، الخالق والمخلوق، السيد والعبد، الجنة والنار، الخير والشر وحيث لكل حدث سبب وتفسير موثق في الكتب المقدسة، ولكل عمل ثوابه أو عقابه. محنة هذا العقل المنفصم تكمن في كونه هو الذي خلق هذا العالم ونظمه بالطريقة التي هي عليه، هو الذي تخيل السيناريو وأبدع الحوار ووزع الأدوار، وهو مخرج المسرحية من ألفها إلى يائها، ولكنه أيضا هو الممثل والمشاهد، وفي هذه الحالة لا مفر له من مواصلة اللعبة والتظاهر بمواصلة نشاطه الطبيعي. ولهذا السبب نجد العديد من المفكرين والمثقفين الإسلاميين يرددون دون كلل بأن العقل هو ركيزة الإسلام وضرورة حيوية تقود إلى الإيمان كما نشاهده في الأدبيات الدينية المتعددة كما في هذا المثال الذي ذكرناه في مقال سابق: "بالعقل يمكن الاستدلال على اثبات وجود الحق سبحانه، وفي هذا السياق سأ ل الامام الأعظم أبو حنيفة النعمان امرأة عجوزاالسؤال التالي: ما دليلك على وجود الحق سبحانه؟ فردت بلغة العقل ومنطق العقل قائلة: بحار ذات أمواج، وسماوات ذات أبراج، وجبال ذات فجاج، الأثر يدل على المسير والبعرة تدل على البعير أليس هذا دليلا على وجود اللطيف الخبير؟ فما كان من أبي حنيفة(وهو امام مدرسة العقل والرأي والقياس) الا أن أجابها قائلا: لا ايمان الا ايمان العجائز" وهكذا بواسطة إستقراء الظواهر الطبيعية يستنتج العقل الغيبي بأن العالم هو بعرة الله، متناسيا بأن فكرة الله ذاتها هي التي يجب مسائلتها قبل الذهاب إلى قضية وجوده من عدمه. وهذا الفكر الذي يلجأ إلى آليات العقل ويستعمل أدواته الأولية في الإستقراء والإستنتاج بطريقة بدائية، مرتكزا على تجاربه العاطفية والنفسية دون أن يتحقق من مصداقية هذه التجارب وموضوعيتها، هذا الفكر ينتهي به الأمر إلى أن يفقد إتصاله بالعالم الحقيقي والواقعي ويسقط في غياهب الوهم والضباب، رغم بقائه فكرا عقلانيا. فمثلا هذا الخبر الذي تناقلته الصحافة والعديد من مواقع الإنترنت الإسلامية، يقول الخبر " أتلف النمل الأبيض مخطوطة نادرة لمصحف عمره 100 عام في مدينة حيدر آباد في الهند، والغريب في الأمر أن النمل أكل اجزاء الصفحات بدون أن يمس كلمات القرآن الكريم … سبحان الله … كيف عرف هذا النمل الابيض أن هذا كلام الله " الخبر يبدو صحيحا وموثقا بالصور، حيث نرى مجموعة من الهنود يعرضون شرائح المخطوطة ونرى بوضوح كاف إختفاء أجزاء الورق غير المكتوب والذي بين السطور ولم تبق إلا الشرائح التي تحتوي على الكتابة. ومن المعروف أن النمل الأبيض يسبب أضرارًا جسيمة وخسائر فادحة من جراء تغذيتها على المواد السليولوزية للأخشاب، مثل سطوح المنازل الخشبية، وجذوع الأشجار وجذورها، وأعمدة التليفونات والأثاث، والأقمشة والمفروشات والخيش والموكيت والورق والكرتون، وكذلك الحبوب المخزونة كما عرف عنها بأنها تتغذى على المادة النباتية الحية؛ إذ تلتهم الحقول والبساتين والمراعي ومشاتل أشجار الزينة والمحاصيل الزراعية المختلفة، ويهاجم أيضا الكتب والأوراق والسجلات والمخطوطات، وقد يلتهم مكتبات بأكملها. غير أن هذا النمل لا يعرف القراءة ولا يفرق بين محتوى مخطوطة وأخرى، ولكنه بلا شك يفضل مواد سيلولوزية على أخرى، ويفضل الورق النقي على الورق الملطخ بالحبر إلخ. والعقل الغيبي لم يحلل طبيعة ورق المخطوطة التي أكلها النمل ولا الحبر الذي كتبت به وإلا لأدرك أن الأمر لا يتعلق بثقافة النمل ولا بإيمانه وإنما بما يتغذى به في الطبيعة، بما يأكله وما لا يأكله. والقول بأن النمل الأبيض لا يأكل كلام الله المقدس هو استنتاج مقولة دينية سابقة على عملية الإستقراء العقلية ولا ترتبط بالبحث العلمي عن مسببات هذه الظاهرة وتفسيرها. فالأمر يبدو وكأن هذا العقل الغيبي يقفز مباشرة إلى النتيجة، التي يعرفها مسبقا متخطيا أو مختصرا السلسلة المنطقية الطويلة التي قد تأخذ وقتا من الزمن في التحليل والدراسة. لأنه حتى لو قام بتحليل المخطوطة في المعمل وعرف بالتفصيل طبيعة الورق ومركباته وطبيعة الحبر الذي كتبت به فإنه سينتهي بالقول: سبحان الله، ويستنتج بأنه ما دام الأمر هكذا فهي إرادة الله على كل حال. فهذا العقل يبحث عن المؤكد واليقيني ويتفادى المحتمل ويرفض الشك، ويفضل أن يعيش في جنة اليقين المريحة الخالية من القلق والتردد والتساؤل وخالية من الفراغ الناشيء عن علامات الإستفهام الذي يؤرق العقل العلمي ويعذبه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكونغرس يبحث تمويلا إضافيا لإسرائيل| #أميركا_اليوم


.. كبير المفاوضين الإيرانيين في الملف النووي: لدينا القدرة على




.. الخارجية الأمريكية: التزامنا بالدفاع عن إسرائيل قوي والدفاع


.. مؤتمر دولي بشأن السودان في العاصمة الفرنسية باريس لزيادة الم




.. سر علاقة ترمب وجونسون