الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الابداع وتجربة الوعى الباطنى

شريف حتاتة

2022 / 11 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الإبداع وتجربة
الوعـى الباطـنى
-----------------------------------------
أثناء الحديث مع الآخرين كثيرا ما نقول: "جاءتني الفكرة فجأة .. أو سقطت على رأسى هذه الفكرة من السماء" .. أو
"لا اعرف من أين جاءني هذا الخاطر" .. وهذه الجمل المختلفة تعبير في الواقع عن شيء واحد، عن ظاهرة الأفكار،
أو الخواطر الـتى تصعد من منطقة اللاوعي إلى الوعي، كأنها تخترق الفاصل بينهما فجأة لتظهر إلى النور.
كان "فرويد" أول العلماء النفسيين الذي كشف عمـا يسمى بالعقل الباطن أو اللاوعي . وقد قدم بذلك مساهمة مهمة للغاية في فهم مكنونات النفـس الإنسانية، ودوافعـها والحالات المختلفة التي تطرأ عليها ... ومع ذلك فإن الحديث عن وجود اللاوعي أمر يفتقد إلى الدقة. فهو ليس إلا اصطلاحا يقصد به وجود إمكانيات للفكر، وللفعل، للوعـى في نفـس الإنسان لم تستخدم أو تستغل بعد .. إنها إمكانيــات واعيـة، ولكنها كامنة في الأعماق، أو في حالة بيات شتوى تنتظـر الشرارة أو الدفء الذي يطلقها.. تنتظر الحدث أو الاحتياج، أو عملية التنقيب الداخلي التي نقوم بها لاستكشاف واستخدام الأفكار، والتصورات المدفونة في النفس. إنها طاقات، وقدرات، وخبرات مختزنة تنتظر الإشارة المناسبة لكي تظهر على السطح، فيصبح الإنسان واعيا بوجودها.. وهذه الطاقات والإمكانيات الخفية ، التي لم ننتبه إليها هي أحد ، هى المنابع الهامة والأساسية لما يمكن أن نسميه بالإبداع الحر، وكأن في أعماق النفس كنزا ثمينا مـن آلاف الأشياء اختزنت فيه.. ثروة من المواد الخام، تنتظر عمليـة الكشف والاستخراج من باطن العقل.
البطل في رواية كريمة
-------------------------
هذا هو ما أخذت أتبينة منذ أن شرعت في كتابة روايتي الأولى، "العين ذات الجفن المعدني" سنة 1968. وبالتدريج تطورت خبرتي في العمل مع الطبقات "اللاواعية" للعقـل .. ففي هذه الرواية الأولى مثلا ، ظللت أبحث عن الخط الأساسي الذي يمكن أن يحكم سياقها عدة شهور ، إلى أن اهتديت اليـه وهو تجربة القهر النفسي والإنساني الذي يتعرض إليه السجين... ومحاولة الإحاطة التفصيلية به، وبالوسائل والأساليب التي يلجأ اليها للتغلب على هذا القهر ... ثم الدخول في أعماق عملية المقاومة بما يعترضها من حالات القوة والضعف ... فلما أمسكت بطرف هذا الخيط "كرت معى البكرة". وظللت أكتب كل ليلة دون انقطاع لمدة سنتين ، وكأني انهل من "عين" في أغوار النفس لم اكن واعيا بوجودها من قبل. ولا مدركا لما تحتوى عليه من الوعي المدفون. ولكن من بين مختلف التجارب مع رواياتي ، تظل التجربة التي خضتها مع اللاوعي أثناء كتابة رواية "كريمة" ، ماثلة أمامي بشكل خاص، ربما لارتباطها بكثير من الأشياء الحميمة في النفس... أو لأن عقلي نجح في تسجيلها مرحلة بعد مرحلة ، وكأنه يستعد لاستخدامها فيما بعد.
وتتميز رواية "كريمة" بأنها تتعرض للعديد من القضايا ، التي تشغل بال العاملين في حقل السياسة من مفكرى اليسار. وأنها تتضمن، من بين ما تضمنته نقدا لبعض المظاهر الفكريـة والسلوكية ، في حياة ونضال تيار اليسار الاشتراكي الذي انتمـى إليه ... مظاهر مثل تفشى ما يمكن أن اسميه المنهج "النفعي" أو "البراجماتي" في المواقف الشخصية والسياسات العامة ، للذيـن يتصدرون العمل في مختلف ميادين النشاط ، والجنـوح إلى الاهتمام بالاعتبارات التكتيكية دون ربطها بالأهداف أو المبادئالأساسية . بل وفي كثير من الأحيان على حسابها .. ذلـك الجنوح الذي لا يستقيم مع المميزات المبدئية التى ينبغـى أن تشكل العمود الفقرى لليسار الاشتراكي ، بوصفه تيار يسعى إلى مجتمع تنقضى فيه كل صور الاستغلال، والقهر، والتفرقـة... كما تتضمن نقدا لمظاهر سلبية أخرى في النشاط السياسي لهـذاالتيار، ومنها الافتقاد إلى الصراحة الواجبة في مواجه الأخطــاء.خصوصا إذا كانت صادرة من المستويات العليا المسئولة، وتغليب العلاقات الشخصية على حساب العلاقات الجماعيـة السليمة.
ويدور صراع في الرواية بين البطل، وهو شاعر يدعى "حمدان" وبين الجماعة التي وضع مع أفرادها داخل المعتقل في قلب الصحراء ... وفي هذا الصراع ينضم إليه شاب، وامرأة اسمها "كريمة" ، هي ابنة قائد المعتقل الذي أقامته السلطات على مقربة من طريق الأربعين ، المتجه جنوبا إلى السودان على بعد قليل من الواحات البحرية "الفرافر" ، و "باريس".
وخلال الفترة السابقة على كتابة هذه الرواية ، كنت مشحونا بالغضب والاستياء ، من تلك المظاهر السلبية نتيجـة مشاركتي في بعض الأنشطة السياسية التي جعلتنى المسها عـن قرب... وعندما شرعت في كتابتها وجـدت نفسـي اخـتـارشخصية شاعر ليكون بطلها ، دون أن أعى أسباب هذا الأختيار بالتحديد ... فالشاعر شخص ذو تركيبة نفسية خاصة ... الشعور عنده قوى، وعميق ... الحـب، والكراهيـة، والغضب، والاقتحام ، مسائل تلعب دورا مميزا في حياته ... إنه يميل إلى التطرف، والى الإطلاق في أحكامه، ولا يقبل بـالحلول الوسط، أو المساومات ...
وهكذا صورته في الفصل الأول. تعرضت لطفولته، وشبابه، ثم لحادثة القبض عليه، ونفيه في الصحراء بسبب الأشعار لتي كان يلقيها في الشوارع، والجوامع، والميادين. وتعرضت للعوامل التي دخلت في تكوينه منـذ سـنه المبكـر وعلاقته بأبيه، وتحمله مسئولية أمه بعد وفاة الرجل ، الذي ورث منه الكبرياء والصلابة، وحب النغم الجميل والشاعرية في لغـةالقرآن.
في هذه المرحلة المبكرة من الرواية ، أخذت تتجسد المعـالم الأساسية لهذه الشخصية ، دون أن أدرك الدوافع الـى جعلتـنى اختارها بالذات. فلم يكن لها مثيل، أو حتى شبيه في أي روايـة من روایاتی السابقة ... وجدتها تكاد ترسم نفسها بنفسها، كأنها تعده للقيام بالدور الذي يستجيب للأحاسيس الـتي انتابتنى ، وخلقت عندي حالة نفسية تتسم بقدر كبير مـن السخط، والغضب على المظاهر السلبية التي لعبت، ولازالت تلعب دورها ، في عرقلة مسيرة التيار الاشتراكي...
كنت أعاني شعورا من الإحباط في المجالين الشخصي والعام إزاء نواحي القصور في نشاطنا، وكأننا مصابون بمرض عضال استعصى على العلاج ... فتولد عن ذلك تلك الشخصية الرومانسية للشاعر ، التي تتجسد فيها مميزات نحن في حاجة إليـها، للخروج من الردة التي وقعت فيها البلاد، ولتخطى الأزمة التي تعانى منها قوى التقدم والاشتراكية منذ سنوات.
شخصية رومانسية ولدت كاستجابة لكل شئ جامح في الحياة .. فيها ذلك الميل الغريزي إلى المطلق الذي هو سمة من سمات الفن ... فالفن يرسم الأشياء بألوان قوية لا تساوم ... الفن نور كاشف ...قوة ناقدة للعيوب والأدران التي نعاني منها في كل المجالات بما فيها التيار الاشتراكي ، لأنـه أحـد الأدوات الأساسية في تغيير المجتمع، وتطويره ... قوة طليعية لها دور بلوز في تحقيق التقدم ... والفن مارد متمرد في أعماق الإنسان ضـد الزيف، والفشل، واللامبالاة، والطغيان ... ثائر يريد أن يبـدل كل الأشياء...
وهكذا أخذ ينصهر في أعماقي ذلك البطل احتاج إليـه لإعادة ترتيب الحياة .. للتيقن من وجود قوى قادرة على إزاحة العقبات، وإعطاء نموذج أريد أن أؤمن بوجوده ، حتى وان قتل في يوم ما أو مات ... فالنموذج كالعدوي تتوالد عنه عشرات من النماذج. كالفن والخلق يولدان قوى جديدة قادرة على الإبداع ... هكذا صنعت الرجل الذي سيحقق ما أصبو إليه أنا، بكـل كياني، والذي سيُقتل هو و "كريمة" في نهاية المطاف ، بمدفع رشاش يصوب إليهما وهما يهربان في الصحــراء مـن طـائرة هليكوبتر استقلها أبو "كريمة" قائد المعتقل ... عقل جبار وقلب بلا مشاعر ... أداة من الأدوات المستخدمة للقهر والسحق كالقضبان، والقيود، والدبابات المحتررة .
البطل ... وقود المأساة
صنعت البطل، وفي النهاية قتلته. كان يمكن أن أبقيه على قيد الحياة .. ولكن في الزمان الذي نعيشه الآن الأبطال لا يبقون على قيد الحياة ... انهم يُقتلون دائما بشكل أو بآخر ، لأنهم نماذج تسري كالعدوى وتتكرر، لأنهم خطرون على ملوك المال، والاستعمار، على الظالمين في كل مكان ... والبطـل في عصرنا هذا ، دائما ما يكون وقود المأساة. لذلك ينبغـى لـه أن يحترق ... إنه إنسان يحلم بالغد ... وكثيرا ما يعجز عن تحقيـق الأحلام ... ولكنه إذا مات يظل حيا في الخيال ... عن طريـق الذكرى أو في كتب التاريخ أو رواية تستمد صورها من واقـع الحياة... إنه يظل مصدرا للحب، وللحماس ...
ومنذ مرحلة مبكرة من الرواية ، ولان "حمدان" كان رجلا، وشاعرا ثائرا، قادته حياته إلى المعتقل ... وحتى اللحظة التي هبط فيها من السيارة "الجيب" على أرض المعسكر المحاط بالأسـلاك الشائكة، بعد رحلة طويلة في الصحراء لم أكن أعى الموضـوع الأساسي للرواية، ولا حتى مغزى الأحداث التي سار معها قلمي . كنت مدفوعا بإحساسي، وبالتجارب المختزنة في الأعمـاق . تلك التجارب التي عشتها مرات، ومرات حـتى أصبحـت قادرا على أن أحياها من جديد بأدق التفاصيل ... لم أكن قـد أمسكت بخيوط القصة التي أكتبها ، و لم اكن قادرا علـى رؤيـة الطريق الذي يمتد أمامي رغم إحساسي بالرضا عمـا كتـبـت ، وكأنه تفجر بقوة دفع دافئة، ونقية لا علاقة لها بي ، سوى أنـــني الوعاء الذي تفجرت فيه ... قلمي عبارة عن أداة مطيعة تجـرى فوق الورق مدفوعة بتيار يأتى من اللاوعي، مـن شـحنة لا أعرف كنهها، ولا إلى أين ستقودني ... ولكن بعد أن وصـل "حمدان" إلى المعتقل بدأت أشعر بالقلق ... لمــاذا أدخلتـه في المعتقل ؟ .هل كان لابد من ذلك ؟ . هل ستفرض علىَ تجربتي الطويلة في السجن ، تكرار ما كتبته من قبل في "العين ذات الجفن المعدني" ، ولو حتى بصورة أخرى، أو من زاوية جديدة ؟.
مرحلة القلق والصراع
------------------------------
قلت لنفسي: " لم لا ؟". إنه موضوع خصب أستطيع أن أكتبه عن معرفة، فقد شكل جزءا أساسيا من تجربتي في الحيـاة ، نفذت إلى كل ما فيها من أطوار، وأبعاد، وأعماق . ولكننى لم أكن راضيا عن هذا الكلام. ثمة صراع كان يدور بين عقلـي الواعي، وبين أشياء مدفونة في الأعماق . وعندما أعود إلى تلك الليالي التي قضيتها سيرا على الأقدام حول شاطئ النيـل في الجيزة ، أحيا من جديد التناقض و القلق العميـق ، الـذي ظـل يطاردني طوال الساعات وكأنني إنسان ممزق، كائن منقسـم عقله الواعي يريد أن يسير في اتجاه ، وعقله الباطن يقول له "لا" انك تهرب من شئ ما . وكان ذلك الإحساس الباطني هو مصدر القلق، والمعاناة .
وفجأة أخذت شخصيات أخرى تفرض نفسها ، "كريمة" حبيبة الشاعر الأولى ... ثم "كريمة" حبيبته الثانية، ابنـة قائد المعتقل ... وقائد المعتقل نفسه ورجل السياسـة "بيومـى حسنين". وكأنني اعد الممثلين للدور الذي سيلعبونه على مسرح الرواية ... وفي هذا الصدد أتذكر أنه عندما انتهت ، وتقدمت بما إلى إحدى دور النشر ، كتب المستشار الذي أنيط إليه بقراءتها ، تقريرا سلبيا أوصى فيه بعدم نشرها ... ومن بين ما قاله أن هذه الطريقة في الكتابة ، بقصد وصف الشخصيات، وماضيها ، قبل إدخالها في صلب الأحداث المرتبطة بالرواية أصبحت قديمة وعفى عليها الزمان . فتساءلت آنذاك ، ومازلت أتساءل ، هـل توجد طريقة في الكتابة الروائية عفى عليها الزمـن ؟ . ... أم أن الأشكال الفنية والروائية يمكن أن تتكرر، ولكن على مستوى أعلى يحددها العصر، والواقع الثقافي، ومضمون القصة ..؟. أليس المهم في كل ذلك هو ، مضمون الرواية ومدى النجاح في صياغتها صياغة فنية مؤثرة ؟. أدركت أن الميول المدرسية عند عديد من النقاد ، وتدفعهم إلى التمسك بـالقوالب والتصنيفات الجامدة ، كمعيار للحكم على فنية الأعمال الروائية ، مازالت راسخة . المهم أنني وجدت نفسى بعد ذلك ، منهمكا في رسم هذه الشخصيات الجديدة بطريقة تقترب من السرد التقريرى . وربمـا كان هذا السرد ، من الأشياء الأخرى التي طبق عليها السـيد المستشار مقاييسه الجاهزة منذ زمن بعيد، ثم أوصلتها جميعـا إلى ارض المعتقل الذي أصبح بذلك، ودون وعى مسبق منى، معـدا ليكون المسرح الذي ستدور فوقه الأحداث.
طوال هذه المرحلة الثانية ، ظل التفاعل قائما بين العقل الواعي والباطن ، كما هو الحال دائما في كل عمـل إبداعـي . ولكن كان يغلب عليه طابع التنافر، والاضطراب، والقلق الدائم .. كنت أعانى من إحساس عميق بوجود تناقض، لا أستطيع أن أحدده ولكنه قائم في الاعماق.
مرت عدة أسابيع، وفي إحدى ليالي شهر أغسطس ، كنـت مستغرقا في النوم بعد أن هدأ ضجيج الشارع الذي أسكن فيه .. فتحت عيني فجأة وأخذت أحملق في الظلام .. ذهني يقظ تمامـا كأنني نمت نوما طويلا، ومريحا .. من أسفل العمـارة تـأتيني أصوات السيارات القليلة وشئ آخر كالتنفس العميق للنائمين في المدينة .. أحسست أنني أحملق في الصمت الـذي يسبق الفجر. دلفت إلى الصالة .. أضأت المصباح، وجلسـت علـى أحد المقاعد ثم مددت ساقي فوق الكليم .. جاءتني صورة للمعتقل الذي كنت أفكر فيه طوال الأسابيع المنصرمـة. مـن حوله تلتف الأسلاك الشائكة تحول دون خروجنا من المسـاحة الضيقة التي نتحرك فيها .. ترمز إلى الإحباط الذي أعانيـه .. إلى الحواجز التي تسد الرؤية، وتمنعنا من الانطلاق نحـو الآفـاق البعيدة .. وظلت هذه الفكرة تنمو، متخطية الحــاجز الـذى يفصل بين التفكير الواعي والأحاسيس .. إلى أن أصبحت كالضوء الباهر يضيء حتى الأركان الدفينة.
أدركت في تلك اللحظة ، أنني أهتديت أخيرا إلى مفتاح اللغز الذي ظل يحيرني .. أنني وصلت إلى لب الموضوع الذى أريد أن أتناوله في رواية "كريمة". تملكتني راحة عميقة، وكـان الاتجاه الأصيل في نفسي وجد طريقه الى نفسى ، أو أن ذاتي الحقيقية هي التي انتصرت على المنطق المدروس، والحجج التي ألجأ اليها لتفادي الحقيقة. وكان هذا هو جوهر الصراع الذي دار طـوال الفترة السابقة ، بين إحساسي الباطني الغامض، وبين العقل الواعي بحساباته ..
فأنا إنسان جئت إلى الأدب بعد سنين طويلة من النضال السياسي.. أنا مؤمن بالعمل الجماعي، بضرورة وجود حزب اشتراکی طلیعی .. عقلى الواعي الـذي صقلتـه بالتجـارب والأحداث التي شهدتها منذ عهد فاروق والاستعمار الإنجليزي، والعمل المتواصل في إطار حزب سياسي له جـذور قديمـة .. عقلى الواعي هذا يقول لي ، أنه لا يجوز أن أتناول بالنقد العلـنى أمام قراء رواية "كريمة" ، تلك المظاهر السلبية الـى أعيشها في التيار السياسي الذي انتمى إليه .. فالرجعية وأبواقها لا يكفون ليل نهار ، عن التقطيع في اللحم الحي للقوى التقدمية والاشتراكية أينما وجدت .. وهي لا تترك فرصة للنيل منها دون أن تستغلها إلى أقصى حد ممكن ، بوسائل كثيرا ما تخلو من الخلق والمبادئ .. مستفيدة في ذلك من إمكانياتها الهائلة .. من مساندة الدوائر الاستعمارية العالمية، والصهيونية، والمال، والأجهزة القمعية ووسائل الإعلام العصرية .. بينما تيار الاشتراكية في البلاد مازال يحاول الخروج من الحصار المضروب حوله ... كيـف يرتفع صوت ناقد من بين صفوفه ؟.
كانت كل هذه الاعتبارات كالغطاء الذي يضغط علىَ، ويمنع الشيء الصاعد من التعبير عن نفسه . ومع ذلك انتصرت الأحاسيس المدفونة في أعماق العقل الباطن . انتصرت التجربة الطويلة المختزنة التي كانت تنتظر فرصتها للخروج إلى المساحات المفتوحة. فترى ما الذي حدث بالضبط في تلك اللحظة الحاسمة ؟. انها الرؤية الجديدة للمعتقل، لا كشيء فرضته السلطات فقط ، وإنما كرمز للحصار المضروب من التيارالاشتراكي نفسه حول ما يمكن أن أسميه "بقدرات الخيال الفكري" وآفاقه .. هذه الرؤية اخترقت الفاصل بين باطن المـخ، "والإدراك الواعي العلوي" ضد مقاومة عنيدة ، مصدرها الحجـج العقلانية المنطقية ، التي كنت مؤمنا بها لحظة أن جلست لكتابـة الرواية . فدار الصراع بين "الوعى الباطني" و "الوعي الواعى" ، قبل أن تصعد التجربة الأصلية إلى المستويات الواعية...
الفنان والمنظر السياسى
-------------------------------------
إن عملية الاختراق من "اللاوعي" إلى الوعى ليست مجرد انبثاق ، أو نمو لفكرة كامنة في الاعماق ... وهي ليسـت مجرداتساع في نطاق الوعي... إنها معركة تدور بين ما يفكـر فيـه المبدع منطقه وعقله الواعـي وبين رؤيـة تصـارع لكـي تولد... وعندما رسمت المعالم الأساسية للشـاعر بطـل روايـة "كريمة" كان "حمدان" هذا تجسيدا لرؤية تجاهد لكي تبعث إلى الحياة والنور. كان يمثل ذلك الجزء الباطني المدفون في أعماقي الذي يريد أن يخرج إلى الوجود .. كان عليه أن يطلق الجـدل الدائر بين الفنان و المنظر السياسي .. وحتى تكتمـل الرؤيـة وتخرج بكل كيانها النابض إلى النور، أصبح من المحتم أن تتمـــيز شخصية "حمدان" والطريق الذي اختاره بالدفاع عن الحق أينما وجد .. أن يكشف الزيف، وضيق الأفق في كل مكان حتى عند أقرب الناس إليه .. فالصدق عند الفنان لا يمكن أن توضـع له حدود .. أن يطبق معاييره عندما تتعلق المسألة بالآخرين أو بهيئات ومؤسسات لسنا مسئولين عنها، أو عن تسيير أمورهـا .. ثم يتوقف عن تطبيقها أو يتركها تتجمد أو تمـوت، عندمـا يتناول التيار الفكري أو النضالي الذي كرس له عمره..
إن كل عملية إبداع أو خلق ، هي في الوقت نفسه عمليــة تدمير لأشياء أخرى .. وفي التجربة التي هي موضوعنا كنـت أحطم في داخلي تلك التحفظات القديمة الراسخة إلى حد كبير، والتي تقول أنه ليس من حقى عندما أكتب رواية أن انقد ذلك التيار الذي أنتمى إليه أمام جمهور القراء .. كنت أحطم أشياءوأفكارا راسخة في ذهني منذ أن دخلت صفوف الحركة الاشتراكية في سنة ١٩٤٦ ... وكـان هـذا الصراع بين الإحساس الجديد الذي تولد في أعماقي وبين الأفكار المسيطرة على عقلى الواعي حتى ذلك الحين ، مصدر القلق الذي انتابني طوال الأسابيع التي تبلورت أثناءها فكرة الرواية. ولحظة أن اكتملت الفكرة في ذهني ، زحف على الاحساس بالانسجام بين العقل، والشعور ... بين الجسم والروح ، وكأنني أصبحت إنسانا متكاملا بعد أن كنت مجزءا، مثخنا بالجراح. اختلط الرضـى بالنشوة، كأنني طائر أحلق فوق المروج الجميلة. بدت كل الأشياء من حولى، شديدة الشفافية والوضوح ، كأنني اكتسبت قدرات خارقة على رؤية الجمال، والنفاذ إلى أسراره ... وتحولت الألوان الباهتة في شوارع المدينة، في أحجارها وأسفلتها، وكباريها العلوية ترتفع كالضلوع العارية لقفص كبير إلى ألوان نابضة قوية ... اختفى قبح الحواري الضيقة، بمياهها الآسنة، وبيوتها الفقيرة .. أصبحت أحيا لحظات مـن الكثافـة الشعورية ... لكن لم تكن للحالة التي استولت علىَ ، ادنى علاقة بالشعور الذي ينتاب الانسان أثناء الحلم .. على العكس ، كانت قدرتي على الإدراك الحسي بالأشياء والمظاهر مضاعفة..
ثمة ظاهرة أخرى لاحظتها عندما اتضحت الرؤية أمامي، وتحدد الصراع الأساسي فى الروايـة ، هـي أن اتضاح هذه الرؤية لم يكن وليد الصدفة و لم يأت بلا جهد، أو ممارسة إراديه من جانبي . بل كان جزءا من عملية متكاملة، جزءا من جهد متصل وتمسك بالوصول إلى الهدف. عمليـة بحـث مستمر، وتفكير، وتخيل مرهق للغاية ... وهذا يعنى أن الرؤية ، بمعنى صعود الفكرة من العقل الواعي الباطن إلى الوعى ، لا تأتى بالصدفة من خارج المبدع .... إ ليست ذلك الوحي الذى مازال يتحدث عنه بعض الفنانين المؤمنين بكهنوت الفـن وبالخرافة. إن الرؤية تتولد من مناطق اللاوعي في ارتباط وثيـق بالموضوع الذي يبذل فيه الفنان جهدا متصـلا، وبالمحـاولات المستمرة للوصول إلى حل مناسب للمعضلة أو المشكلة الي تشغله ... أي بمعنى آخر هي نتاج التزام، واستغراق، وعمـل شاق ...
وأخيرا فمن الملاحظ أن عملية الرؤية هذه ، هي عادة ما تحدث في فترة ينتقل فيها الفنان من العمل الشاق إلى حالة يعد فيها نفسه للراحة والاسترخاء الكامل .. تختار لنفسها تلك المرحلة الانتقالية التي تقع ما بين الجهد والاسترخاء.. تنبثق من الأعماق ليس في لحظة عمل مركزة، ولا في لحظة راحة تامة ... وكأن التركيز المستمر، المكثف، على المشكلة التي يفكـر فيها، والمحاولات التي لا تنقطع للوصول إلى حل مناسب لهـا ، تساعده على الاقتراب من هدفه، على اكتشاف الثغـرة الـتى يمكن النفاذ منها، أو الفكرة الوليدة التي تتصارع حتى تخرج من الأعماق الباطنة إلى النور ... ولكنها تخرج من خلال مسالك أخرى غير التي كان يتوقعها... وكأن التركيز على جانب معين يؤدى إلى نوع من الشد والتوتر الذي يغلق منافذه أو يسده.
لذلك فإن هذا الانبثاق للفكرة المحورية في العمل الإبداعي ، كثيرا ما يتعثر إذا ظل الكاتب منكبا على عمله، مستغرقا في الجهد، عازفا عن الترويح عن نفسه وإعطائها فرصة للراحة . فهو عندما يركن إلى الراحة، أو إلى فعل شيء آخر ، يكون في الغالب مشغولا بفكرة ، غير تلك التي تخرج من تلقاء نفسها من الظلمات إلى النور ...
فلابد من إزالة التوتر الذي يغلق منافذ المخ، والذي يحول دون أن يصبح واعيا بطبقات المعرفـة الأخـرى المدفونة في الأعماق، أو دون أن تصعد إلى مستوى الوعى ... ومـن هنـا تلك الظاهرة المعروفة، ... ظاهرة تولد الفكرة المحورية نتيجـة تتابع فترات الراحة والجهد.
لقد تساءل "اينشتين" العالم الرياضي المشهور ومكتشـف نظرية "النسبية" ، لماذا تأتيه أحسن الأفكار في الصباح و هو يقـوم بحلاقة ذقنه أمام المرآة فأجاب أحد أصدقائه من الأطباء.
"لأنك في تلك اللحظة ترخي حبال التحكم والقيـود المفروضة على المخ" ...
العقل المبدع في حاجة إلى السرحان ... إلى التخيل ... إلى ترك زورقه على الأمواج الحالمة تقود إلى شاطئ المجهول. وأثناء فترات الاسترخاء هذه ، تصعد الأفكار من باطن المخ الواحدة تلو الأخرى كالفقاقيع الملونة ، فيتأملـها العقـل الواعي، ويقلبها، ويخضعها للتجربة السريعة .. ثم يطردها عندما تعجز في حل العقدة . من بين عشرات الأفكـار تتولد فكرة معينة، أو خاطر، أو صورة ... شئ في الإدراك الحسى يقول: "حقا إنها رائعة" .. ولا يعرف المبدع لماذا يأتيـه هذا الإحساس بالنسبة إلى هذه الفكرة أو الصورة بالذات .. ولكن السبب يتضح بالتدريج ... إنها تتسلل إلى نسيج العمـل ، فتستقيم كل الأشياء، ويكتشف أنها تحقق الوظيفة التي افتقدهـا في كل الأفكار التي خرجت قبلها من مختلف طبقات المخ.
منذ اللحظة التي اتضح فيها محـور الصـراع في روايـة "كريمة" ، وتخلصت من كل تردد في كشف مـا أراه الحقيقـة ، تفتحت في أعماقي أشياء كثيرة .. انهارت سـدود في خضـم التجربة الجديدة ... تجربة الكشف عن أعماق في الآخرين، وفي نفسي كنت أخفيها .. فالمبدع ينبغي أن يتعلم ، كيف ينصت إلى صوت الأشياء التي تضطرم في أغواره البعيدة.
-------------------------------------------------------------
من كتاب " تجربتى فى الابداع " 2000
-------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. زراعة الحبوب القديمة للتكيف مع الجفاف والتغير المناخي


.. احتجاجات متزايدة مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية




.. المسافرون يتنقسون الصعداء.. عدول المراقبين الجويين في فرنسا


.. اجتياح رفح يقترب.. والعمليات العسكرية تعود إلى شمالي قطاع غز




.. الأردن يتعهد بالتصدي لأي محاولات تسعى إلى النيل من أمنه واست