الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أساطير الأولين2

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2022 / 11 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


أساطير شهيرة من هذه الأنواع
تأتي أحد أكثر الأساطير السببية شهرة من اليونان في صورة حكاية إلهة الحبوب والحصاد ديميتر وابنتها بيرسيفوني التي أصبحت ملكة الموتى. في هذه القصة، نجد إله العالم السفلي حادس يختطف بيرسيفوني وينزل بها إلى عرشه في مملكة الظلام. تُفجع ديميتر وتجوب كل مكان بحثاً عن ابنتها دون جدوى. خلال هذه الفترة من حزن ديميتر، تذبل المحاصيل ويجوع الناس ولا توفى الآلهة مستحقاتها. وعليه، يصدر ملك الآلهة زيوس أوامره إلى حادس لكي يعيد بيرسيفوني لأمها ويطيعه حادس، لكن بعدما تكون بيرسيفوني قد تناولت عدداً معيناً من بذور الرمان أثناء إقامتها في العالم السفلي، ومن ثم أصبح يتعين عليها قضاء نصف العام تحت الأرض ثم الاستمتاع بالنصف الآخر برفقة أمها في العالم فوق.

هذه القصة فسرت تغير المواسم في اليونان. حين كان الطقس دافئاً والحقول يانعة، كانت بيرسيفوني بصحبة أمها وديميتر فرحة وهو ما جعل العالم مزدهراً؛ وأثناء فصل البرد والأمطار، عندما تكون بيرسيفوني تحت الأرض لدى حادس كزوجة له، كانت ديميتر حزينة وهو ما جعل الأرض جدباء وقاحلة. بالتالي، في مجرى الحكاية، كانت ديميتر تعلم شعب إليوسيس أسرار الزراعة. وبالإضافة إلى فائدة هذه الأسطورة في تفسير كيف تعلم الناس زراعة الأرض لأول مرة، فقد علمتهم أيضاً الطريقة الصائبة لاسترضاء ديميتر واستعطافها، ومن ثم عبادة الآلهة.

أشهر الأساطير التاريخية في الغرب حكاية الإلياذة الملحمية لهومر من القرن الثامن قبل الميلاد وتحكي قصة حصار وسقوط مدينة طروادة. وفيها هربت هيلين، زوجة مينلاوس ملك الآخايين، برفقة الأمير الطروادي باريس؛ يحلف مينلاوس أغلظ الأيمان على استعادتها بالقوة إلى الديار ويلتمس العون من شقيقه أجَامِمْنُون، الذي بدوره يلتمس العون من ملوك وأمراء سائر المدن-الدول الأخرى ويبحرون جميعاً لمهاجمة طروادة. ثم أثناء المعركة يشعر بطل الآخايين الهمام آخيليس، المشهود له بالقوة والجسارة، بالإهانة من أجَامِمْنُون ويأبى مواصلة القتال، الأمر الذي يفضي إلى وفاة محبوبته باتروكلوس ومعها نفر كثير من الجمع الآخاييني. سنلاحظ أنه رغم سرد الإلياذة العديد من القصص المختلفة، إلا أنها جميعاً تبرز وتصب في موضوع محوري يتعلق بمخاطر الكِبْر كقيمة ثقافية. إذ حين يكون المرء صاحب عزة نفس وكبرياء اعتبر فضيلة، لكنه حين يفرط يتحول إلى كِبْر يؤدي بصاحبه إلى المهالك.

استكشف الصينيون هذا الموضوع بطريقة مغايرة من خلال حكاية إله النار فوشي. بوصفه إله، كان فوشي منشغلاً بمسؤوليات جمة ورغم ذلك لم يرفض حين طلبت منه صديقته، الإلهة نوا، يد المساعدة. كانت نوا قد فرغت لتوها من خلق البشر لكن لسوء حظها اكتشفت عدم كفاءتهم في القيام بأي شيء ذي جدوى وما كانت تملك من الطاقة والصبر ما يكفي لتعليمهم. لذا جلب فوشي النار للبشر، وعلمهم السيطرة عليها، وكيف يستخدمونها لطهي طعامهم وتدفئة أنفسهم. ثم علمهم كيف ينسجون شباك الصيد ويصطادون الطعام من البحر، وأكسبهم فيما بعد فنون العبادة والموسيقى والكتابة. هناك من يعتقد أن حكاية فوشي قد نُسجت من قصة ملك قديم فعلي عاش خلال الفترة بين 2953-2736 قبل الميلاد والذي ربما قد مهد الطريق لظهور أسرة شيا (حوالي 2070-1600 ق.م)، وهي أول أسرة ملكية صينية في التاريخ المدون. في هذه القصة، يضع فوشي كبريائه كإله جانباً ويتواضع ليضع نفسه في خدمة صديقته نوا والبشرية.

لا غرابة في أن تكون أقدم أسطورة في التاريخ أسطورة نفسية تتصل بحتمية الموت وسعى الفرد لإيجاد معنى في الحياة. تطورت ملحمة جلجامش (المكتوبة بين حوالي 2150 - 1400 ق. م) في بلاد ما بين النهرين من قصائد سومرية تدور حول جلجامش التاريخي، ملك أورك، الذي ارتقى لاحقاً إلى منزلة نصف إله. تحكي القصة عن جلجامش كملك متكبر ومغرور بنفسه إلى حد الوقاحة، ما جعل الآلهة تشعر بالحاجة لتلقينه درساً في التواضع. ولهذا الغرض يدعمون إنكيدو الوحشي في خصومته مع الملك ويتقاتل الاثنان، لكن حين لا يتمكن أي منهما من القضاء على الآخر، يصبحان صديقين حميمين. ثم في وقت لاحق تقتل الآلهة إنكيدو على خلفية إهانته لهم ويشرع جلجامش، من شدة حزنه على فراق صديقه، في رحلة البحث عن معنى الحياة كما يتجسد في مفهوم الخلود. ورغم إخفاقه في الفوز بالحياة الأبدية، إلا أن رحلته تلك تثريه ويعود إلى مملكته رجلاً أفضل وأكثر حكمة وملكاً.

يشتهر عن جوزيف كامبل تسميته نوع الأسطورة النفسية الأشهر "رحلة البطل" التي تبدأ فيها القصة ببطل أو بطلة، عادة من أصول ملكية، ينفصلان عن شخصيتهما الحقيقية ويعيشان في عالم أو مملكة من الفوضى. ثم يجتاز البطل مراحل شتى في القصة، تأخذ في العادة شكل رحلة مضنية، حتى يكتشف من يكون هو في الحقيقة ويستطيع تقويم خطأ ما جسيم يستعيد الصواب إلى نصابه. هذا التطور السردي يشتهر في العصر الحديث في الحبكة الدرامية لفيلم ’حروب النجوم‘ الذي يشهد ما حققه من نجاح مدوي على مدى القوة الحية الكامنة لا تزال في الموضوعات والرموز الأسطورية.

الخاتمة
كان، ولا يزال، لكل ثقافة في العالم نوعها الخاص من الأساطير. سنجد أن الأساطير الكلاسيكية لقدماء اليونانيين والرومانيين هي الأكثر ألفة وانتشاراً وسط الشعوب الغربية لكن الدوافع المكتشفة في تلك القصص تنعكس في أخريات مثلها من حول العالم. سنلاحظ أن الحكاية اليونانية عن بروميثيوس جالب النار ومعلم البشرية لها أصداء في الحكاية الصينية عن فوشي. وقصة نوا وخلقها للبشر تتوازى مع أخريات من الجانب الآخر من العالم: قصة الخلق من كتاب المايا المقدس بوبول فوه التي يخلق فيها بشر لا يستطيعون القيام بشيء وعديمي النفع لكن، حسب قصة المايا، تهدمهم الآلهة لتعيد خلقهم من جديد. ويظهر نفس الدافع في أساطير بلاد ما بين النهرين حيث تعاني الآلهة الأمرين في خلق البشر الذين يظهرون إلى الوجود بشكل سيء المرة تلو الأخرى.

يمكن العثور على نفس الأنواع من القصص، وغالباً القصة ذاتها، في أساطير من أنحاء مختلفة من العالم. وهكذا سنلاحظ أن أساطير الأفارقة أو الأمريكيين الأصليين أو الصينيين أو الأوروبيين كلها تخدم نفس الوظيفة المتمثلة في التفسير والطمأنة وإضفاء المعنى. سنلاحظ تطابقاً لافتاً بين قصة الخلق كما ترد في سفر التكوين بالكتاب المقدس، على سبيل المثال، حيث ينفخ إله عظيم روح الوجود في الخلق وبين قصص الخلق من سومرية ومصر وفينيقيا والصين القديمة.

كما يمكن العثور على قصة الطوفان العظيم في الأساطير من كل ثقافة تقريباً على وجه الأرض لكنها تأخذ شكلها في الكتاب المقدس اقتباساً من أسطورة أتراحاسيس من بلاد ما بين النهرين. كذلك شخصية الإله الذي يموت ثم يبعث (معبود يموت لخير شعبه، أو للتكفير عن ذنوبهم، ينزوي متغيباً في غياهب الأرض، ثم يبعث مجدداً إلى الحياة) يمكن تتبعها عودة إلى سومرية القديمة في حكايات جلجامش، قصيدة ’نزول إنانا‘ وغيرها وإلى أسطورة إيزيس المصرية، والقصص اليونانية عن ديونيسوس وعن ادونيس وعن بيرسيفوني، ودورة البعل الفينيقية، وكريشنا الهندوسية (من بين أخريات) وصولاً إلى الأكثر شهرة على الإطلاق من بين جميع مثل هذه الشخصيات، عيسى المسيح. يدعي الإصحاح 9:1 من سفر الجامعة بالكتاب المقدس أنه "ليس من جديد تحت الشمس" وهذا يصدق مع نظم الأساطير والرموز والشخصيات الدينية بقدر ما يصدق على أي شيء آخر. يذكر جوزيف كامبل:

"في كل أنحاء العالم المسكون بالبشر، في كل الأزمان وتحت كل الظروف، قد ازدهرت الأساطير حول الإنسان؛ كانت الإلهام الحي لكل ما تفتقت عنه أنشطة البشر الجسدية والذهنية. وليس من قبيل المبالغة القول إن الأسطورة هي السر الذي أطلق العنان لطاقات كونية لا تنضب صبت في نهر التجليات الثقافية الإنسانية. الأديان والفلسفات والفنون والتشكيلات الاجتماعية للإنسان البدائي والقديم، والاكتشافات الأولية في العلوم والتكنولوجيا، وحتى الأحلام أثناء النوم، جميعها تنبثق من حلقة الأسطورة الأساسية والسحرية."

تحاول الأساطير الإجابة على أصعب الأسئلة وأكثرها بدائية عن الوجود البشري: من أكون؟ من أين أتيت؟ لماذا أنا هنا؟ وإلى أين سأذهب؟ بالنسبة للقدماء، كان معنى القصة هو الأكثر أهمية، لا الحقيقة الحرفية لتفاصيل نسخة معينة من الحكاية. على سبيل المثال، هناك تنويعات عديدة حول ميلاد وحياة الإلهة المصرية حتحور، ومع ذلك ما كان المصري القديم سيأبى تصديق أي منها أو يعتبرها ’زائفة‘ ويختار أخرى بوصفها ’الحقيقية‘ والصحيحة. بل كانت الحقيقة تكمن في رسالة الأسطورة نفسها وليس في تفاصيل قصة بالذات، وهو ما يتجلى في الجنس المعروف باسم أدب نارو ببلاد ما بين النهرين الذي تتحرر فيه الشخصيات التاريخية من سياقها التاريخي.

كان مفهوماً في العالم القديم أن الغرض من الأسطورة هو إمداد المستمع بحقيقة يفسرها فيما بعد بنفسه لنفسه داخل النظام القيمي الخاص بثقافته. كان إدراك الحقيقة متروك لتفسير المتلقي الفرد للقيم المعبر عنها في الأساطير بدلاً من أن يُعهد بتفسير الحقيقة إلى شخصية ذات سلطة.

ويظل ذلك هو الاختلاف الأساسي بين العظة (الخُطبة الدينية) والتجربة الفردية مع الأساطير الدينية؛ فالعظة، ضمن منظومة المعتقدات الثقافية للمرء، قد تشجع أو تعزز فقط المعتقدات السائدة بينما الأسطورة، حتى لو كانت تفعل الشيء نفسه، بمقدورها الارتقاء بفهم الفرد وتطويره من خلال الطاقة الكامنة في المشاهد والشخصيات والصور والموضوعات الرمزية. الأساطير القديمة لا تزال تروق للمتلقي الحديث تحديداً لأن كتبتها القدماء صاغوها باتجاه أن يُترك تفسيرها للفرد ذاته، ويُترك لكل من يسمع القصة أن يتعرف بنفسه على المعنى الكامن في الحكاية ويستجيب له بطريقته الخاصة.
______________
ترجمة: عبد المجيد الشهاوي
رابط المقال الأصلي: https://member.worldhistory.org/mythology/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكسيوس: الولايات المتحدة علّقت شحنة ذخيرة موجهة لإسرائيل


.. مواجهات بين قوات الاحتلال وشبان فلسطينيين أثناء اقتحامهم بيت




.. مراسل الجزيرة: قوات الاحتلال تقوم بتجريف البنية التحتية في م


.. إدارة جامعة تورنتو الكندية تبلغ المعتصمين بأن المخيم بحرم ال




.. بطول 140.53 مترًا.. خبازون فرنسيون يعدّون أطول رغيف خبز في ا