الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جمالية المكان في الريح الشتوية

محمد الفهري
أستاذ باحث

2022 / 11 / 12
التربية والتعليم والبحث العلمي


يختلف الفضاء الروائي في تشكله عن الفضاءات الأخرى الخاصة بفن الرسم أو المسرح أو السينما، فهو فضاء لا يتحقق إلا بواسطة اللغة، ويتخذ طابعا رمزيا بحيث إن صنعة الأماكن في الرواية تفقد كثيرا من السمات الواقعية على اعتبار أن طبيعة العالم الروائي تقوم أساسا على التخيل.
إن كل ملفوظ روائي يشكل فضاءه بطريقته الخاصة، بحيث يتلون برؤية الكاتب ونفسيته، فيبدو كأنه مسكون بأرواح المؤلفين. ويقع أن يصور كاتبان مكانا بعينه، غير أن تصويرهما قد يرد مختلفا، إذ يمكن أن يصفه أحدهما بالألفة والرحابة والشساعة، بينما يصفه الثاني بالوحشة والضيق والقتامة: وبغية استجلاء طريقة تشكيل الفضاء في رواية الريح الشتوية لمبارك ربيع، سنقوم برحلة قصيرة في بعض الفضاءات مركزين ملاحظاتنا أساسا على فضاء الأمكنة.
أعتقد أنه لا يمكن أن نجد نصا روائيا لا يشير إلى الأماكن التي تجري فيها وقائع الرواية، فكل نص يحدد إطارا لأمكنته. ويتحدد المكان بواسطة تقنية الوصف الذي يعد مكونا أساسيا لتجسيد الفضاء المكاني في الرواية، ويمكن أن يتشكل –كذلك- هذا الفضاء من بعض المؤشرات التي ترد منفصلة عن السرد أحيانا.
إن المكان في رواية "الريح الشتوية" يولد مشاعر خاصة لدى المتلقي. فهو يثير إحساسا بالمواطنة والهوية، وهو يختزل مرحلة معينة من تاريخ المغرب، وبذلك يصبح واقعا ورمزا. وقد لجأ المؤلف إلى أن تكون الأماكن في روايته مماثلة للعالم الخارجي حتى يوهم بالحقيقة وبالواقع. وكما يقول هنري متران: "إن اسم المكان يعلن عن حقيقة المغامرة بنوع من الانعكاس الإيحائي الذي يثير شكوك القارئ: بما أن المكان حقيقي، فإن كل ما ارتبط به وضم إليه حقيقي". كما أن توظيف المكان في هذا العمل لا يخلو من قيمة دلالية ورمزية، بحيث إن وظيفته ليست تزيينية فحسب، بل تصبح، أحيانا، شعرية أو إيديولوجية.
يمكن أن نصنف المكان في رواية الريح الشتوية إلى ثلاثة أصناف تحضر بشكل متجانس ومنسجم:
أولا. المكان الأليف: ونقصد به ذلك المكان الحميمي الذي ترتبط به الشخصيات على امتداد المتن الحكائي. والملاحظ أن جميع الشخصيات التي سلبت أراضيها ظلت تحلم بفضاء القرية الذي اقتلعت من جذوره، وتتحسر على فقده وضياعه، وتحمل ذكريات جميلة عنه، ولعل هذا المقطع الزجلي الذي كان يتغنى به على الجليد يعبر عن هذه المشاعر:
أمي أنا على بلادي
أنا وبلادي مول الحصايد
أنا النخيل والجريد والحجل نايض
خلوني نبكي أنا
وأمي أنا على بلادي
نلاحظ أن الشخصيات التي اضطرت إلى الهجرة من البادية إلى المدينة تشترك جميعها في الإحساس بالغربة؛ إنها غربة مكانية تولدت بفعل اصطدام هذه الفئات بواقع مغاير وجديد، وغربة نفسية تتجلى في ذلك الحنين المستمر إلى أجواء القرية.
ثانيا. المكان الخارجي: نعني به ذلك المكان الذي قد لا يولد لدى الشخصيات إحساسا معينا، ويتجسد خارج الأماكن الأليفة، مثل الشوارع على اعتبار أنها فضاء منفتح على اتجاهات مختلفة ومتعددة عن طريقها تنطلق الشخصيات أو تتوقف، وداخلها تتجول أو تتصل ببعضها البعض، وهي فضاء محدد أيضا لأن ثمة حدودا تسيجه كالبنايات والأسوار والجدران...الخ.
وفي رواية الريح الشتوية نجد السارد يلمح في فضاء العتبة إلى المدينة التي سوف تجري فيها الأحداث، من خلال حديثه عن كراج علال، وهو أحد فضاءات مدينة الدار البيضاء، حيث يصف لنا حركة الناس بالمحطة، وانبهار البدويين بزيارتهم المدينة مع التركيز على شخصية العربي الحمدوني الذي كان ينتظر أهله، وينظر إلى "دروب المدينة الأهلية الحديثة نسبيا، ترتفع مبانيها المتلاحقة عن الأرض طابقا أو طابقين، تفصل بين أجزائها بين الحين والحين مساحات فضاء تكون مزابل ومراتع للمشردين وجامعي النفايات...".
ويلحظ القارئ أن السارد لا يعلن عن اسم المدينة منذ الوهلة الأولى، بل يجعل القارئ يكتشفها بشكل تدريجي، بحيث يقدم له مجموعة من فضاءاتها مثل: محطة كراج علال - بن مسيك - الحي الصناعي – درب غلف – سيدي بليوط – رحبة الزرع ...الخ.
إن هذه الأماكن وغيرها تحيل على مرجع موجود بالفعل، وهذا ما يجعلها توحي بالواقعية، وتجعل المتلقي يعتقد بأن الكاتب اختار مدينة حقيقية تجري فيها أحداث الرواية. غير أن ثمة ملاحظة مهمة وهي أن "بيضاء" مبارك ربيع تختلف عن "بيضاء" العقد الأربعين أو الخمسين من القرن العشرين، لأن الروائي مهما حاول أن يقترب من الواقع تظل هناك مسافة تفصل بينهما على اعتبار أن المكان في الرواية ورقي يتم تشييده باللغة كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وتبقى "بيضاء" "الريح الشتوية" رمزا ملأه الكاتب بمجموعة من الدلالات، فهي رمز للضياع والفقر والاستغلال كما شخصت ذلك الرواية في جزئها الأول، ورمز للثورة والنضال والمقاومة كما جاء في جزئها الثاني.
لقد ساهم الفضاء الخارجي في جعل رواية "الريح الشتوية" تتميز بطابع دينامي، وذلك من خلال خلق حوافز جديدة تصبح منطلقا لأحداث متباينة، وفي هذا السياق يمكن أن نشير - مثلا – إلى فضاء حلقة العالم، هذا الفضاء التنويري الذي كان يسعى – في البدء – إلى تغيير عقول سكان "كريان سنترال" ليصبح – بعد ذلك - عاملا من عوامل التغيير والتحرر، وشكلا من أشكال العمل الوطني.
ثالثا. المكان المتوحش العدائي:
يتجسد هذا المكان في الداخل والخارج معا، ويتمثل الشكل الأول – أساسا – في فضاء السجن، وهو فضاء مغلق أعد لكبت حرية الشخصيات الوطنية مثل كبور وباقي زملائه الوطنيين. ويخلق هذا الفضاء حوارية خاصة تتمثل في سبر أغوار السجين، وكشف معاناته من جراء التسلط والتعذيب والقمع. كما يمكن اعتبار فضاء المعمل، أيضا، فضاء عدائيا لما يكشف عنه من وجوه معاناة العمال من جراء التسلط والاستغلال والممارسات المنافية للأخلاق وحقوق الإنسان. أما الشكل الثاني فيتمثل في "الصحراء"، وهو فضاء التيه والغربة، وقد تم نفي الكثير من الوطنيين إليه.
وعموما إن هذه الأنواع الثلاثة من الفضاءات لا تعمل بشكل منعزل، بل تتآلف فيما بينها، وتنسجم مع بقية المستويات الأخرى لتخلق جمالية الرواية، وليؤثر اشتغالها داخل المحكي في القارئ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البرازيل.. سنوات الرصاص • فرانس 24 / FRANCE 24


.. قصف إسرائيلي عنيف على -تل السلطان- و-تل الزهور- في رفح




.. هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟.. أندري


.. رفح تستعد لاجتياح إسرائيلي.. -الورقة الأخيرة- ومفترق طرق حرب




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا قصفت مباني عسكرية لحزب الله في عي