الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفارقات المجايلة في سيكولوجيا الجماعات العراقية

ثامر عباس

2022 / 11 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هناك خاصية فريدة يتميّز بها مجتمعنا العراقي يقل – أو قل يندر - وجودها في المجتمعات الأخرى ، وهي إن الجماعات المكونة لهذه المجتمع تنطوي في كينونتها على كم هائل من المفارقات والتناقضات ؛ لا في مجال (الواقع) المعيش من علاقات وسلوكيات يكاد أغلبنا يلمس أنماطها الغريبة ويدرك طبيعتها الشاذة فحسب ، بل وكذلك في مجال (الوعي) المجرد وما يختزنه من تصورات وتمثلات لا تخرج عن كونها تعبيرات بدائية وتمظهرات نمطية ؛ إما نتيجة لمخلفات طوباويات قديمة متوارثة تارة ، أو حصيلة لإيحاء إيديولوجيات حديثة متداولة تارة أخرى . لا تفتأ تفرض حضورها في كل مجال وتمارس تأثيرها في كل مضمار .
ولعل من أبرز تلك المفارقات التي يمكن تشخيصها بيسر وسهولة ، هي ما يتعلق بفلسفة (المجايلة) وما تنطوي عليه من تصورات / تمثلات وعلاقات / سلوكيات ، تحرص تلك الجماعات المعنية على تناقل أرشيفها المعلن وتداول شيفراتها الخفية بين الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة ، دون أن يكون لاعتبارات المكان والزمان أي دور أو تأثير يمكن أن يحدث فرقا"بين سياقات الماضي وسياقات الحاضر . والأمثلة على ذلك كثيرة اخترنا أكثرها شيوعا" وتداولا"؛
1 . من الملاحظ انه بقدر ما يحاول الأبناء التمرد على سلطة الآباء (البطريركية) بوزاع من نزعة الاستقلال الفردي واسترداد حق الوعي بالذات – وهي من الأمور التي تعتبر مخالفة للأعراف ومنافية للتقاليد الأبوية – من جهة ، بقدر يحافظون – وهنا مكمن المفارقة – على سريان قيم تلك السلطة البطركية كما لو أنها أشياء مقدسة لا يجوز المساس بها والعبث فيها من جهة أخرى . كأن تفرض – على سبيل المثال لا الحصر – عادات وتقاليد وأعراف وقيم (الريف) ذات المضمون العشائري والقبائلي ، على أنماط التواضعات والمناقبيات الحضرية السائدة في (المدينة) . هذا دون أن يجدوا في ذلك ما يعتبر تناقضا"يستدعي النقد والمساءلة ، لا بل قد يرونه من دلائل الحفاظ على الأصالة ومؤشرات التمسك بالعراقة .
2 . على قدر ما يجتاف (الأبناء / الأخلاف) مضامين خطابات (الآباء / الأسلاف) ، حول مزاعم النزاهة الوظيفية والعدالة الاجتماعية والهوية الوطنية – مثلما يحصل في المجالس الخاصة والعامة ، الرسمية والشعبية - بقدر ما لا يعدم هؤلاء وسيلة من الوسائل أو يهملون طريقة من الطرق – بصرف النظر طبعا"عن مشروعيتها وأخلاقيتها - دون اهتبالها في بلوغ مآربهم الشخصية وتحقيق مصالحهم الفئوية ، حتى ولو كانوا على دراية كاملة بأن سلوكهم هذا يتناقض جذريا"مع ما سبق وأعلنوه ورددوه في تلك المجالس والمضافات . بالإضافة إلى قناعاتهم بأنه سيلحق ضررا"بليغا"في مصالح الوطن وحقوق المواطنين ، ليس فقط على مستوى الأجيال الحالية التي تكابد الأمرين من هذه المفارقات والتناقضات فحسب ، بل وكذلك على مستوى الأجيال التالية التي سيكون المجهول مصيرها الحتمي .
3 . ومن الأمثلة الأخرى البارزة التي يمكن عدها من مفارقات المجايلة في سيكولوجيا الجماعات العراقية ، ما يظهر على مواقف وسلوكيات قطاع واسع من أفراد تلك الجماعات ، والتي تتمثل بظاهرة ادعائهم (الانسلاخ) عن ماضي آباؤهم وموروث أجداهم في طور من أطوار حياتهم العملية (الوظيفية) ، ثم لا يلبثون في طور لاحق من (اجترار) ما كانوا قد ازدردوه سابقا"من عادات وأعراف وقيم وتقاليد ، للحدّ الذي لا يجدون غضاضة في استلهامها والتماهي معها مجددا". وهكذا ما أن يحال أحدهم (أستاذ الجامعي) أو (مسؤول الإداري) على التقاعد أو يترك منصبه الوظيفي لشتى الأسباب والدوافع ، فانه سرعان ما يشرع بترأس عشيرة من العشائر أو بتزعم قبلية من القبائل أو بقيادة بطن من البطون ، معلنا"عودته لأصوله العصبية وشاهرا"توبته لمرجعياته البدائية ، دون أن كون للسنوات التي أمضاها يحاضر في التنوير والحداثة بالنسبة للأول ، أو يجاهر بالحضارة والمدنية بالنسبة للثاني ، مانعا"من انحرافه صوب مضارب العصبية البدائية ، أو حائلا"دون سقوطه في مستنقع الانتهازية .
قد يكون من الصواب أن نعزو إلى الظروف الشاذة والأوضاع المزرية التي مر ويمر بها المجتمع العراقي طيلة عقود وزر هذا الظاهرة ، ومن ثم إلقاء تبعاتها وتداعياتها على عوامل موضوعية وأطراف خارجية ساعدت في خلقها ، وساهمت في ترويجها ، وحرصت على تكريسها . ولكنه من خطل الفهم وجهل المعرفة في نفس الآن محاولة تبرأت سايكولوجية الجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية من أعراض هذه (اللوثة الحضارية) القارة في قاع اللاوعي الجمعي العراقي . ذلك لأن هناك تاريخ طويل وحافل من التجارب القاسية والممارسات المريرة ، أثبت إن سيكولوجية الشخصية العراقية كانت – ولا تزال – بمثابة حاضنة لشتى ضروب المفارقات والتناقضات ، التي شكلت عائقا"منيعا"أمام أية محاولة لاستنهاضها من عثرتها وحثها على استعادة عافيتها الاجتماعية وسويتها النفسية ، بما يضمن تطورها الحضاري ويحقق طموحها الإنساني أسوة بغيرها من الشعوب والأمم .
والحال انه على فرض إن هذا النمط من الظواهر السوسيو- ثقافية موجود ، بلّه ، شائع لدى بقية المجتمعات القريبة منا والبعيدة عنا ، كراسب تاريخي يعود لحقب ماضية لا زال عالقا"في بنية الوعي الجمعي يفرض إيحاءاته بقوة ويمارس تأثيراته بعناد ، إلاّ انه ربما يظهر بصيغ مختلفة من الشدة وبمستويات متباينة من الوضوح ، بحيث لا تؤثر – في الحصيلة العامة لسيرورة المجتمع - بالقدر الذي يجعل المعايير المنظمة والمقاييس الضابطة تحيد عن المقبول اجتماعيا"والمعقول منطقيا" والمشروع إنسانيا"، مثلما هو الحال لدى الجماعات العراقية المبتلاة بنوازع (الازدواج) ؛ ما بين الظاهر والباطن ، ما بين الإشهار والإضمار ، مابين القول والفعل ، ما بين الفكر والواقع ، ما بين النظرية والممارسة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رغم تراجع شعبيته.. ماكرون يكثف حملاته الدعائية | #غرفة_الأخب


.. اتهامات متبادلة بين فتح وحماس بعد تأجيل محادثات بكين | #غرفة




.. أنقرة تحذر.. يجب وقف الحرب قبل أن تتوسع | #غرفة_الأخبار


.. هل تنجح جهود الوساطة الألمانية في خفض التصعيد بين حزب الله و




.. 3 شهداء إثر قصف إسرائيلي استهدف تجمعا لفلسطينيين شمالي مدينة