الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الريف المصري ومدنية الدولة

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2022 / 12 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في سؤال ورد على الخاص: هل يمكن أن تتخلف مصر دينيا عن إيران والسعودية أستاذ سامح؟..نشهد تطورات دينية إصلاحية في كل الدول عدا مصر..

قلت: مصر لا زالت دولة مدنية ولن تتحول لدينية على المدى المنظور لعوامل سقتها كثيرا منها الأقباط والوعي الشعبي الجمعي والمشبع بكل أنماط الثقافة والفنون والرقص، علاوة على رسوخ التدين الصوفي المحب للفنون والزهد، هذه كلها عوائق ضد التحول..

وما يحدث في المملكة وإيران مجرد استفاقة جزئية تمس شريحة محدودة، لكن غالبية هذه المجتمعات لا زالت متأثرة بالوهابية وولاية الفقيه، أي أن الإصلاح في هذه الدول مهم لكن لا تنتظر تحولهم لسويسرا هذا الزمن، وفي تقديري لو دام الإصلاح هناك على نفس النمط لعقدين أو ثلاثة سيتغير وجه الشعب مع الجيل الجديد..لكن الآن (لا)

أما مصر فبرغم أنها دولة مدنية لكن الشعب في غالبيته ليس مدنيا للأسف، تسود أنماط سلوكية ودينية ومعتقدات شعبية غاية في الخطورة والعدوانية، وعند استقراء التاريخ نجد أن هذه الأنماط لم تكن قبل 50 عام، ففي هذا الزمن كان التصوف الديني سائدا ويستحيل على متدين أن يرى نفسه حاكما لمصر ويفرض شريعته الخاصة، وهذا سر من أسرار غياب فرضية الحجاب وحكم الشريعة الإسلامية قبل السبعينات من مصنفات الشيوخ.

مصر حدث فيها زلزال إسمه (الإسلام السياسي) الذي نشر فيروس الأصولية والعدوانية بين كل فئات الشعب تقريبا، بحيث تحول المتدين من باحث عن الأخلاق والفضيلة إلى باحث عن السلطة والقانون، وهذا الذي جعل المتدين المصري يخلط فورا وبشكل آلي بين الدين والسياسة، ومن لا يخلط لا يسموه متدينا

من حظ مصر العاثر أن شعبها جغرافيا يعيش في منطقة ضيقة للغاية تشكل 5% تقريبا من مساحة الدولة، هذا جعل فرصة نقل الأعراف والتقاليد والأفكار سهلة وبسيطة، وبشئ من التلقائية والمنطق يمكنك التأثير في الملايين في زمن قصير وبجهد بسيط، بينما هذا غير متوفر في روسيا وأمريكا مثلا الذي حين تخطب لا تكون مؤثرا سوى في فئة محدودة هي من تسمعك وتعرفك، وأقصد هنا قبل ظهور الإنترنت، لأن الشعب المصري تحوّل قبل ظهور الإنترنت وما نراه من أجيال وشباب متطرف هم تربية الجيل الذي أصابه الفيروس السبعيناتي..

التدين المصري ليس خطيرا في ذاته فهو عبارة عن مجموع (فلكلور واعتقادات شعبية مرتبطة بالدين وطقوسه) فهو مزج فريد بين عقائد واقتباسات وحكم وأمثال شعبية تمثلت في الأخير عبر الاحتفالات وعشق المصريين للموالد، فهو تدين من النوع المُبهج مصحوب بالخرافة لحد كبير، وكذلك هو من النوع التواكلي القدري الذي ينسب أفعال الناس ومصائرهم لله، والتصوف الأشعري لأنه (جبري) حصل على ثقة المصريين من تلك الزاوية، بينما السلفية الوهابية حصلت على الثقة من طريق آخر وهو الأسطورة السياسية والدينية أو الحكايات التي كان يحكيها السلفيون على المنابر والأشرطة خصوصا ملاحم آخر الزمان وقصص التوبة للعصاة والمذنبين وحكايات العذاب الإلهي لمن يسمع الموسيقى والغناء وخلافه.

أيضا فالتدين المصري لا يميل للدين المؤسسي لأنه يراه جزءا من الحُكم، والمصري منذ أن وعيته وقرأت تاريخه ناقد وناقم على كل أنظمة الحكم، أو على الأقل لا يثق فيها..لذا فكل مؤسسة دينية مصرية هي ليست شعبية إلا عبر (وسيط) مثلما حدث مع الأشراف الذين كانوا وسطاء بين الأزهر والمصريين مما جعل الشيوخ في حقبة سيطرة الأشراف في القرنين 18 وبدايات 19 حكاما فعليين لمصر، ومرشدين روحيين لكافة أمراء المماليك، ولولا انتفاضة محمد علي ضدهم لظلت مصر تحت سيطرة الأشراف والأزهر (سياسيا) حتى اليوم..

حاليا يقوم الإخوان والجهاز الدعائي للجماعات بنفس دور الأشراف في القرن 18 م وهو أن يكون وسيطا بين الشعب والأزهر ليحكموا مصر من خلال (المؤسسة الدينية) وبعدما كان الإخوان والسلفيين ناقمين على الأزهر ويحكموا على شيوخه بالبدعة والهرطقة وأنهم قبوريين مشركين وأنهم أشاعرة معطلة وجهمية، صار الأزهر لديهم (حصن الإسلام) وملاذهم الأخير وأي نقد موجه للمؤسسة أو شيخها الأكبر هو نقد موجه للإسلام، وأي اعتراض على قراراته هو اعتراض على الله...تابعوا تكفير زعمائهم لمفتي الجمهورية ووزير الأوقاف وأي مسئول أو مفكر أو رجل دين يخالف أو ينتقد قرارات واتجاهات الأزهر، حتى أي فتوى وتصريح مستنير للشيخ أحمد الطيب يفسروه على أنه ضغط سياسي لا يمثل قناعاته الحقيقية ولا موقف الأزهر الرسمي..

باختصار: مصر على مستوى الدولة والمؤسسات لا زالت مدنية ، والطرح السالف يفسر فقط ظاهرة التشدد الديني الذي لو قارناه عمليا بما يحدث في إيران والمملكة من الأغلبية سنجد اختلافا كبيرا، فلا زالت أغلبية السعوديين لا تحب الاحتفالات والموالد ولا تسمع الموسيقى بالخصوص في مناطق الريف والبدو النائية وهؤلاء يشكلون أغلبية المجتمع السعودي، وما يحدث في المهرجانات (جدة – والبحر الأحمر – وموسم الرياض) هو تفاعل فقط من النخبة والمسئولين مع العصر ، واستجابة جزئية لنظام الحكم مع الحداثة، لكن التغيير الحقيقي يبدأ من التعليم والمنابر وفتح القنوات والمطابع والمؤتمرات للمفكرين والأدباء والناقدين، وكل هذا لا زال غائب عن السعودية بشكل كبير، وشرحه بالنسبة لإيران فلا يزال الشعب هناك لا يتقبل فكرة (ليبرالي يخطب فيهم) أو يظهر على القنوات يعطيهم محاضرات في فضائل العلم والعقل والحريات ، وأن دولتهم على مستوى الدين والسياسة متأخرة عن العالم، وأن تطورها الذري والعسكري هو مجرد استجابة لتحديات وجودية لنظام الحُكم لا يعكس تطورا حقيقيا في الفكر والمجتمع..

أما مصر ففكرة أن يخرج ليبرالي يخطب في الناس تحدث كثيرا في الانتخابات وبالتلفزيون، وشعار لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين له قبول شعبي واسع، وفيروس الأصولية الوهابية رغم انتشاره وفتكه بنصف خلايا الجسم تقريبا لم ينجح في تقبيح هذه القاعدة ولا زالت تشكل قاعدة أساسية في عمل الأحزاب مثلما حدث مع حزب النور الذي اضطر للإيمان بالقاعدة عمليا خوفا من حظره بموجب الدستور..

الخطير في التدين المصري هو من الريف وليس من الحارات الشعبية، فالشعبيون لديهم إمكانية لقبول الحداثة إذا احتكوا بالطبقات العليا أو ظهروا في القنوات وأعطيت لهم مساحات للتحدث بشكل عام ستجد أن سلوكهم في الغالب يتطور، ذلك لأن النسق المعياري الذي يحكمهم هو (الحاجة الشديدة للمال) واعتبار الفئات الناجحة قدوة في حد ذاتها تصلح للتقليد ، لكن هذا غير متوفر (غالبا) في التدين الريفي ، لأن الشباب الذي خرج منه له تجربة في (القمع الديني) ضد التصوف منذ السبعينات وتكفير رواد الأضرحة والمتوسلين، وأكثر قابلية لأدلجة الإسلام بحكم انتقال أعرافه وتقاليده الريفية (المحافظة) بسرعة ، نظرا لأن فلاحين مصر أكثر قربا لبعضهم وتداخلا في حياتهم الخاصة، ونادرا ما تجد ريفي لا يتدخل في حياة جاره أو صديقة أو قريبه، والأزمات الناتجة عن ذلك تشكل قهرا كبيرا ومدخلا لصنع أزمات وصاية أخرى تخلق مراكز قوى يتحكم فيها الأكثر تدخلا في حياة الغير..

كذلك فالتدين الريفي بعيد جدا عن سيطرة الدولة ومؤسساتها الدينية، فهو ينظر للدولة بشكل طبقي ومن ينضوي تحت لوائها من مسئولين ورجال دين يراهم بشكل طبقي أيضا، لذا كنت من المحذرين لحصر قضية تجديد الخطاب الديني في الأزهر لأنها لن تجد قبولا في الريف من ناحية، ولأن الخطاب الديني الرسمي للدولة لن يتعزز إلا بتطوير ونقل حياة الفلاحين للأفضل وهؤلاء يشكلون نسبة 60% تقريبا من مجتمع مصر، ولو أضفت هذه النسبة لدراويش الطبقة الوسطى والعاملة والنخب الفنية والشخصيات العامة سترتفع النسبة ل 80% تقريبا يعانون من التشدد الديني وعدم الثقة في أجهزة الدولة وخطابها الديني الرسمي..

لذا كنت ولا زلت أطالب بأن التجديد الحقيقي في مصر سيحدث بحرية المفكرين وحمايتهم ليتفاعلوا مع التدين الريفي ويؤثروا فيه، وبنهضة فنية مسرحية سينمائية كبيرة تنقل أعمال الممثلين للريف وتنهض بها قصور الثقافة مثلما فعل عبدالناصر، وكذلك عدم التضييق على الفلاحين اقتصاديا وتسهيل حياتهم بالوظائف والدخل الجيد، عدا ذلك سيرى الفلاحون خطاب الدولة هو (خطاب استسلام) وإشارة ضعف تستوجب منهم النقمة والرفض الدائمين لكل ما يمثل الدولة من شخصيات ومسئولين ورجال دين..وحتى قيم أخلاقية، وسيعود الريف مستنقع للتشدد الديني مرة أخرى وبيئة طاردة للكفاءات والعقول وحاضنة شعبية للإرهابيين إذا نجحوا في لملمة جراحهم والعودة بتنظيمات أكثر قوة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 110-Al-Baqarah


.. لحظة الاعتداء علي فتاة مسلمة من مدرس جامعي أمريكي ماذا فعل




.. دار الإفتاء تعلن الخميس أول أيام شهر ذى القعدة


.. كل يوم - الكاتبة هند الضاوي: ‏لولا ما حدث في 7 أكتوبر..كنا س




.. تفاعلكم | القصة الكاملة لمقتل يهودي في الإسكندرية في مصر