الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفن وضرورة العدم

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 12 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفلسفة كما سبق القول هي إنتاج عقلي وأحد إفرازات العقل التي يحقق فيها هويته ومشروعه الوجودي ورسم حدود إمكانياته النسبية والمطلقة. تاريخ الفلسفة هو بطريقة غير مباشرة تاريخ مسيرة هذا العقل في محاولاته اليائسة للخروج من ذاته وإيجاد الأدلة "العقلية" على مشروعيته وكفائته للوصول إلى حقيقة الأشياء ومعنى الكينونة وهدف الوجود. غير أنه منذ البداية كان هناك تصدع في هذا الجهاز العقلي ولم يكن يفكر أو يتكلم بصوت واحد، منذ البداية حدث شرخ قسم هذا العقل إلى عقلين، وربما عدة عقول متصارعة ومتناقضة يتجه بعضها إلى السماء وبعضها الآخر إلى الأرض وبعضها ينكفيئ على ذاته ليسبر أغوار قوانينه الداخلية. ونظرا لأن العقل ليس ظاهرة ميتافيزيقية أو متعالية ولايمكن أن يتواجد خارج الحضور الإنساني الفردي، فمن الطبيعي أن يتشتت العقل ويتبعثر في إتجاهات مختلفة وتتكون المدارس الفلسفية المتناقضة حسب الزمان والمكان والظروف السياسية والإقتصادية والفكرية لكل مجموعة بشرية تمارس هذا النوع من الرياضة. ولا شك أن الفلسفة كنشاط عقلي واكب البشرية في جميع العصور وكل المجتمعات، والقول بأن الفلسفة هي نشاط عقلي يخص الحضارة الغربية وحدها كما يدعي هيدجر، هو تأكيد أيديولوجي محض ويخلو تماما من الموضوعية، إلا إذا افترضنا أن المشروع الفلسفي برمته يتلخص في كلمات مثل sein, esse, être, being وأن المجتمعات التي لغاتها لا تحتوي فعل الكينونة هي مجتمعات تقع بالضرورة خارج الميدان الفلسفي وليس لها الحق في ممارسة هذه الرياضة. وحتى لو كانت الفلسفة تنحصر في البحث عن معنى الكينونة وأن الفلسفة واللغة مرتبطتان انطولوجيا برباط أساسي داخلي، فإن هذا الرابط وهذه العلاقة لا يمكن اختزالها في أربعة حروف أبجديه ذات مصدر يوناني أو لاتيني كما فعل هيدجر. فلكل مجتمع ولكل عصر رؤيته للمشكلة الأساسية والأسئلة الحيوية التي تؤرق وجوده والتي يريد الإجابة عليها بطرق مختلفة، منها الفلسفة والشعر والمسرح والفن عموما، ولكن أيضا الدين والحرب والإقتصاد والهيمنة .. إلخ، وقد ساهم كل ذلك في تشتت العقل الفلسفي وتطوره بطريقة لولبية فيها العديد من الذهاب والإياب والتقدم ثم التراجع بحيث تبدو الفلسفة اليوم وكأنها ما زالت في مراحلها اليونانية الأولى أو حتى قبل ذلك. ولكن في نفس الوقت ساهم هذا التشتت والتنوع في انفتاح العقل وإثرائه وتغذيته بمصادر مختلفة على مر العصور. ولا نشك لحظة واحدة في أن إكتشاف "العدم" في قلب الوجود هو أحد الأسباب الرئيسية لتطور الفكر الإنساني ليصل إلى ما وصل إليه اليوم على جميع المستويات من العلوم التجريبية والعلوم النظرية، وهذا الإكتشاف هو تجربة وجودية أساسية عرفتها كل المجتمعات البدائية منذ أزمان سحيقة وحتى قبل ظهور الحضارات الزراعية. العدم ليس ككلمة néant, nichts, nothingness أو ما يقابلها في لغات أخرى، وإنما كواقع وتجربة وجودية يعيشها الفرد في حياته في ظروف معينة، ولكنها يمكن أن تكون أيضا نتيجة تجربة جماعية، كالتهديد بانقراض مجموعة بشرية نتيجة الظواهر الطبيعية كالمجاعة أو الطاعون أو نتيجة إرادة وطنية عنصرية تجاه جماعة أخرى. فالعدم يمكن أن يتجلى فجأة في تجارب إنسانية عديدة مثل الخوف من المجهول مثلا وهي تجربة "القلق"، حيث يبدو المستقبل القريب نوعا من الفراغ السرمدي المرعب، أو الخوف من الموت في حالات المرض الشديد أو في الحروب أو في أروقة الموت في السجون الأمريكية، أو في ظاهرة النسيان وفقدان الذاكرة الجزئي أو الكلي وكذلك ظاهرة الغياب والعزلة وغيرها من الظواهر النفسية التي ننعتها عادة بالسوداوية والتشاؤم والعداء للحياة إلخ .. العدم يمكن أن يتجلى أيضا في ظاهرة الحرية، حيث إختيار أحد طرفي المعادلة يعني إلغاء الإحتمال الآخر كليا، وكذلك في ظاهرة النفي في اللغة، وفي الوعي الخيالي وبالذات في الفن وفي ظواهر أخرى عديدة سنعالجها في مواضيع قادمة. ملحمة جلمامش، باعتبارها من أقدم ما وصل إلينا من الفكر الإنساني البعيد يمكن إعتبارها مصدرا لبداية التفكير في قضية العدم وعلاقتها بالوجود البشري المتعين، وذلك من خلال طرحها لقضية الموت كمصدر للوعي الإنساني المعذب والمهدد بالفناء. التطور الروحي والتغير المفاجئ الذي حدث في حياة جلجامش بعد موت إنكيدو يعتبر روح الملحمة والمركز الحيوي الذي تدور حوله الأحداث اللاحقة. بعد موت أنكيدو يصاب جلجامش بحزن شديد وينتابه نوع من الإحباط النفسي ويرفض أن يصدق حقيقة موت صديقه ويرفض بالتالي أن يقوم أحد بدفن الجثة إلى أن بدأت تتعفن وتبث رائحة تفسخ الجسد وتخمره وبدأت الديدان تخرج منها، فيضطر جلجامش بدفن جثة أنكيدو بنفسه، وينطلق شاردا في البرية خارج أسوار أوروك وقد تخلى عن ثيابه الملكية الفاخرة المعطرة وارتدى جلود الحيوانات بدلا منها. بالإضافة إلى حزنه على موت صديقه الحميم أنكيدو وفقدانه له إلى الأبد وشعوره بالوحشة والوحدة، كان جلجامش في قرارة نفسه خائفا من حقيقة الفناء وأنه لابد من أن يموت يوما مثله مثل بقية البشر ويأكل الدود والتراب جسده مثل أي حيوان ميت، لأنه بشر وهو يعرف بأن الآلهة وحدها تحتكر الخلود والدوام والحياة الأزلية. ولكن جلجامش ليس إنسانا عاديا يخضع للظواهر الطبيعية أو الإلهية، إنه بطل ملحمي نيتشوي يريد حياة مكثفة مليئة بالقوة والحيوية والإتجاه الدائم نحو الأعلى. وبدأ جلجامش رحلة طويلة مليئة بالأخطار للبحث عن الإنسان الوحيد الذي أعطته الآلهة حق الحياة الأبدية بعد الطوفان وذلك ليأخذ منه سرالخلود والحياة الأبدية، ولكنه في نهاية الأمر يفشل في رحلته ويعود خائبا، ولا يجد أمامه سوى أن يسطر رحلته وكل ما شاهده وينقشه على الحجر. لا شك في أن ججامش قد تقبل فكرة الموت وبأن حياته فانية وأن العدم ينتظره في يوم ما، ولا شك أن الكتابة أو ترك أثر ما بعد الموت هو بديل موضوعي على ما يبدو لبحثه عن الخلود. ولا نبالغ إذا قارنا بين جلجامش وأنطوان روكنتان، بطل رواية سارتر "الغثيان" الذي ينقذ نفسه من العبث والفراغ الوجودي والخواء الذي يعانيه والذي يجعله يكاد يتقيأ لمجرد رؤيته لجذع شجرة، أو لملمس حجر أملس بواسطة مشروع الكتابة وقراره بأن يكون كاتبا، رغم أن رعب روكانتان كان من إكتشافه للكينونة وليس للعدم، ولكننا نعرف أن الكينونة والعدم هما شيء واحد منذ هيجل. الوعي بالعدم كمكون أساسي للوجود، هو شرط إنبثاق الخيال في الحياة الفردية والجماعية وشرط لظهور "الفن" لجعل الحياة محتملة. فالفن هو العمل الإنساني الوحيد الذي يبني حياة كاملة من العدم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ليست مداخلة ، بل مجرد خاطرة
محمد بن زكري ( 2022 / 12 / 12 - 19:50 )
الكبير جدا سعود سالم
كما أنت دائما ، كاتب مبدع ومفكر متألق ، يلتقي فيه النيتشوي والسارتري والأناركي (حسب قراءتي طبعا) ، متحررا من الوقوع تحت أحادية التصنيف .
مع متعة القراءة ، وجدتُني أعود بالذاكرة إلى بدايات التكوّن وطرح الأسئلة في سِن الثانوية ، عندما نشرت لي الصحافة المحلية نصا أدبيا (مجلة الرواد فيما أذكر ، فكل الأصول ضاعت فيما صادروه من أشيائي) ، لا زلت أتذكر بعض مقاطعه ، في صيغتها البسيطة (بساطة البدايات) ، لكنها تعبر عن الشعور بقلق وجودي ، إزاء المجهول ، في تلك المرحلة العمْرية المبكرة ! و منها :
أنا لست أدري من أنا أو ما أكون !
من أين جئتُ ؟
متى و كيف ترى أتيت ؟
و لأيِّ موماةٍ سأرحلُ بعد حين
و أحيرُ في السر الدفين
سر التواجدِ و المصير
فأعودُ أسألُ : من أكون ؟!
هل أنني كونٌ من الأكوانِ أم أني سراب
أم فكرة نشأتْ و عاشت في متاهاتٍ رحاب
عاشت بدنياها على أمل التحققِ و السفور
و اغتالها قدرٌ ترابيٌّ ضرير
ضاع اليقين فلست أدري !
الآن و أنا أعيش مغتربا داخل الوطن ، أشعر بالقلق لشباب هذا الزمن ، إذ لا هم يشغلهم غير أخبار نجوم (الكورة) و أخبار الزمزامات و الكاردشيانات .
تحياتي


2 - الجيل الخائب -١-;-
سعود سالم ( 2022 / 12 / 15 - 11:21 )
السيد محمد بن زكري المحترم
أشكرك من كل قلبي على تعليقك وكلماتك المشجعة والتي تبعد عني، ولو مؤقتا فكرة عدم ضرورة الكتابة وكونها عبث فكري.
بخصوص النص الذي صاحب تعليقك
أنا لست أدري من أنا أو ما أكون !
من أين جئتُ ؟
متى و كيف ترى أتيت ؟
فإنه يعكس تماما نفس الإهتمامات ونفس القلق الذي كنت أشعر به، أنا والعديد من رفاق الدراسة الثانوية ثم الجامعية في السبعينات من القرن الماضي، غير أن هذا القلق كان هو السبب في الإهتمام بالقراءة والكتابة والرسم إلخ. ورغم مرور سنوات عديدة على هذه المرحلة البعيدة، فإن هذا القلق وهذه التساؤلات الغير مجدية ما تزال تصاحبني في غربتي الإختيارية حتى اليوم. لقد هربت من الغربة داخل -الوطن- إلى غربة المنفى، وهي غربة أقل شراسة وأقل عنفا .. لإمكانية التجمع والنقاش والعمل مع أالعديد من الغرباء داخل وطنهم .. وهم كثيرون..
وأشاركك القلق بخصوص الشباب في هذا الزمن المضطرب، حيث فقد الرغبة في الدراسة والقراءة والمعرفة، وربما فقد طعم الحياة، والرغبة في العيش أصلا مما يفسر، جزئيا، ظاهرة إرتفاع معدل الإنتحار بين الشباب.


3 - الجيل الخئب -٢-;-
سعود سالم ( 2022 / 12 / 15 - 11:22 )
وأشاركك القلق بخصوص الشباب في هذا الزمن المضطرب، حيث فقد الرغبة في الدراسة والقراءة والمعرفة، وربما فقد طعم الحياة، والرغبة في العيش أصلا مما يفسر، جزئيا، ظاهرة إرتفاع معدل الإنتحار بين الشباب. إنه ليس -الجيل الخائب-، ولكنه الجيل الضائع بين المساجد والبحث عن الدولار والربح السريع والمخدرات من كل نوع ومن بينها الكورة كما تقول. فهو جيل عليه أن يبني نفسه بدون كتب وبدون مكتبات وبدون سينما أو مسرح أو معارض فنية أو مراكز ثقافية .. جيل يحيا في صحراء فكرية مرعبة.
ومع ذلك فإنني لم أفقد الأمل نهائيا، ربما بصيص من الضوء يمكن أن يأتي من جهة النساء .. حيث تفرض الظروف الإجتماعية على المرأة الإختيار الوحيد الممكن، إما الدراسة وإما البيت، وحسب معلوماتي المحدودة بهذا الخصوص، فإن الكثير من الشابات يفضلن مواصلة الدراسة .. رغم أن مواصلة الدراسة ليست ضمانا للوعي بإشكاليات المجتمع، ولكنها ضرورية لإمكانية هذا الوعي.

شكرا مرة أخرى


4 - لمن تكتب في بلد الأموات و المسطولين ؟! 1
محمد بن زكري ( 2022 / 12 / 15 - 22:31 )
أخي سعود
المرء نتاج ظروفه ، نحن - بالصدفة - لحقنا على مناهج ما قبل (زحف الخيمة على العاصمة) . و لحقنا - في طرابلس - على المركز الثقافي المصري (مئات آلاف الكتب للقراءة - بالصالة - و الإعارة) و مثله المركز الثقافي الاميركي ، و كان التعيين في الوظائف يتم مباشرة بعد التخرج ، و الرواتب مجزية .
لكن منذ الثمانينات (مع حكم العسكر و زحف قيم الخيمة) ، بدأ الانحدار تعليميا و ثقافيا و إداريا ، و توقفت الدولة عن تعيين الخريجين . و مع نكبة فبراير ، صار من الاستحالة على الشباب الخريجين الحصول على وظيفة (إلا أبناء حكام ليبيا الجدد) ، و صار الميليشياويون من متسربي التعليم الأساسي و باعة الحشيش يملكون الملايين ، بينما ألأطباء و المهندسون يضطرون للعمل نظافين و غرسونات في المقاهي السياحية التي يمتلكها أصحاب الملايين الجدد .
تصور خريج هندسة أو طب بشري أو اقتصاد ، يعمل سفرجي أو عامل بالأجر اليومي - وبلا ضمانات - في مقهى أو مطعم سياحي أو مول يمتلكه ميليشياوي او بائع مخدرات من متسربي التعليم الأساسي . هذا هو حال الشباب اليوم في عهد نكبة فبراير (امتدادا للعشرية الأخيرة حالكة السواد من حكم القذافي و أولاده) .


5 - لمن تكتب في بلد الأموات و المسطولين ؟! 2
محمد بن زكري ( 2022 / 12 / 15 - 22:35 )
لذا فالتعليم لم يعد مجديا لدى الشباب ، أما الثقافة فهي سماعية (ثقافة التلفزيون) هابطة هزيلة للتتفيه : برامج دينية تدمر العقل وبرامج كورة وتهريج وأخبار (البغايا) . والمحصلة شباب ضائعون فاقدون للأمل معطلون عن العمل تساوت لديهم الحياة مع الموت ، فمنهم من يركب قوارب الموت وهو يعلم أنه قد لا يصل إلى أقرب جزيرة إيطالية فيبتلعه البحر (فهو في كل الأحوال ميت ميت : جوعا أو غرقا) . ومنهم من يهرب إلى المخدرات (ومنهن من تجد الحل في الدعارة) في بلد النفط والغاز . و ليس من بصيص ضوء في الأفق .
وبالنسبة لي ، أكاد أن افقد الرغبة في الكتابة .. وتوقفت عن النشر منذ أشهر ، فلمن تكتب في بلد الأموات ؟! لقد قلنا كل شيء تقريبا .. والنتيجة صفرية . فنحن نصرخ سدى في الصحراء ، جماهير رثة منبطحة تتماهى في عبوديتها التاريخية ، وهي مستعدة للفتك بك و افتراسك .. لو حاولت إيقاظها من الغيبوبة .
هذا بعض من الجرح . والله شخصيا سقط صريعا أمام هول المشهد الليبي الدامي .
لا غربة في الحياة هناك بين بشر يحتفون بالفرح والحياة . فالغربة المريرة هي أن تعيش هنا بين الأموات في برميل الرمل والزفت .
عش حياتك واحمد الربة تانيت .

اخر الافلام

.. إسرائيل.. تداعيات انسحاب غانتس من حكومة الحرب | #الظهيرة


.. انهيار منزل تحت الإنشاء بسبب عاصفة قوية ضربت ولاية #تكساس ال




.. تصعيد المحور الإيراني.. هل يخدم إسرائيل أم المنطقة؟ | #ملف_ا


.. عبر الخريطة التفاعلية.. معارك ضارية بين الجيش والمقاومة الفل




.. كتائب القسام: قصفنا مدينة سديروت وتحشدات للجيش الإسرائيلي