الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموت والعدم

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 12 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفكر الغيبي منذ بداياته الأولى استند إلى فكرة "العدم" ليبني مشروعه الأيديولوجي عن "الخلق" وحدوث العالم وظهور الكائنات في لحظة زمانية معينة أختارها الكائن المطلق، ولكنه بعد هذه اللحظة المؤسسة للوجود بأسره، لحظة بداية الخلق، يختفي "العدم" بعد ذلك نهائيا من الحياة ومن الفكر، ويصبح "الموت" ذاته مجرد إنتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، أي إنتقال من حالة وجود أرضي مؤقت إلى حالة وجود سماوي دائمة وأبدية. الحسين بن علي بن أبي طالب قال مخاطباً أنصاره يوم عاشوراء: « صبراً بني الكرام ، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم من البؤس والضرّاء الى الجنان الواسعة ، والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ ». وهذا التراجع الفكري عن تقبل فكرة العدم والخواء راجع بطبيعة الحال إلى صعوبة إحتمال هذه الفكرة وكونها باعثة على القلق والألم واليأس والخوف من الفناء وهو ما يؤكده إبن مسكويه في"رسالة في الخوف من الموت" حين يقول «لما كان أعظم ما يلحق الإنسان من الخوف هو الخوف من الموت. وكان هذا الخوف عاماً، وهو مع عمومه أشد وأبلغ من جميع المخاوف، وجب أن أقول: إن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري الموت على الحقيقة، أو لا يعلم أين تصير نفسه..» ليستنتج أن جهل "خلود" النفس هو سبب الخوف، وهذا الخوف هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم أينما كان ويقول: «فلما تيقن العلماء ذلك واستبصروا به وهجموا على حقيقته وصلوا إلى الروح والراحة، هانت عليهم أمور الدنيا كلها، واستحقروا جميع ما يستعظمه الجمهور من المال والثروة واللذات الخسيسة». وهذه التفرقة بين الروح والنفس والجسد هي الفكرة الأساسية المبنى عليها كل الصرح المعماري الغيبي، حيث الموت ليس شيئاً أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها المادية أي بدنها، والنفس - حسب المنظور الغيبي - جوهر غير جسماني، وبالضرورة فإنها أزلية وغير قابلة للفساد، وحين تغادر النفس جسدها، فإنها تصبح نقية وشفافة وسعيدة، ولا سبيل إلى فنائها، لأن الجوهر لا يفنى، حيث لا ضد له، وما لا ضد له لا يفسد حسب ما يقول مسكويه في رسالته. ومنذ البدايات الأولى للفكر الإنساني، كان "العدم" المتجسد في فكرة الموت والفناء حاضرا في أغلب الأساطير والقصص القديمة التي تحاول بطرق مختلفة القضاء عليه وإنكاره كليا لأنه يجعل الحياة غير محتملة ولا مبرر لها طالما هي محدودة ومنتهية، ها هو جلجامش يتألم بعد موت إنكيدو "ماذا عساي أن أفعل، وإلى أين اتجه، إن الموت قد تمكن من لبي وجوارحي، أجل، في مضجعي يقيم الموت، وحيثما أضع قدمي يربض الموت". وفي الديانة الهندوسية مثلاً، الموت هو مرحلة من مراحل دورة التناسخ، التي تنظمها وتسيرها "الكارما" الخاصة بكل فرد والتي هي قانون الجزاء والعقاب الذي يثاب به الميت على حسناته ويعاقب على أفعاله السيئة في أطوار تناسخه المتتابعة، بمعنى أن الإنسان لا يفنى بعد موته بل يظل باقيا في صور مختلفة للمادة حسب أعماله. أما الموت عند البابليين والسومريين فهو أيضا ينفي فكرة العدم والفناء حسب ما ذكرته النصوص القديمة، وينتقل الميت إلى ما يسمى عند السومريين بالعالم السفلي، وكانوا يعتقدون بأن روح الميت لا تفنى، بل تتمثل في شبح يدعى "أدمو" يرافق الميت في رحلته إلى العالم السفلي ويظلُّ ملازماً له، لذلك يشترط أن يُدفن الميت حسب المراسيم والطقوس الدينية المنصوص عليها، وإذا لم تتوفر هذه الشروط تحول هذا الحارس الشبحي روحاً شريرة تخرج من عالم الأموات وترعب الأحياء وتثير الهلع في قلوبهم. وأول من تمكن من إقصاء العدم من الحياة بطريقة نظرية منظمة هم الفراعنة في ديانتهم القديمة والمبنية كلها على فكرة الإمتلاء الوجودي بعد الموت، ووجود ممرات ونقاط إتصال بين الحياة والموت ويمكن التنقل بين هذين العالمين. ويعتبر كتاب الموتى من أقدم الكتب التي عالجت هذه القضية والذي دُوَّن في عصر بناء الهرم الأكبر، ولا تزال نسخة منه محفوظة في المتحف البريطاني. في هذا الكتاب المدهش دعوات للآلهة وأناشيد وصلوات، ووصف لما تلاقيه أرواح الموتى في العالم الآخر من الحساب وما يلحقها من عقاب وثواب. ويبدو أن الغرض من الكتاب هو مساعدة الميت ليقوم برحلته إلى عالم الأموات والانتقال إلى الآخرة حيث يعيش فيها مثلما كان يعيش على الأرض ولكن متخلصا من الأمراض والألم والشيخوخة إلخ، و يكون رفيقا للآلهة يأكل ويشرب معهم في بعض المناسبات ويحيا حياة أبدية. وكتاب الموتي يمكن إعتباره دليلا سياحيا أو خارطة للعالم الآخر تحتوي على كل المعلومات التي يحتاجها الميت للوصول إلى العنوان الذي يريده، ويحتوي على عدة فصول، تتعلق بأمور عملية مثل وقاية الميت من الشياطين والأرواح الشريرة والثعابين وغيرها، كما تُعرف الميت عند البعث على الطريق المؤدي إلى الآخرة ومعلومات تساعده على عبور بحر النار، والصعاب التي تهدده، كما تسمح له بالتردد بين العالم الأرضي والعالم الآخر، وتساعده على الحصول على الماء والغذاء وتلقي الهبات والأضحية، وتساعده أيضا على معرفة مواقع الأماكن وتذكر أسماء الآلهة والأسماء الهامة مثل أسماء الأبواب المتعددة، وتعاويذ فتحها والمرور منها والوصول إلى مكاتب الآلهة ومعرفة وظائفهم وتعريف نفسه إليهم والمثول أمام هيئة المحكمة المتخصصة في حسابه. وما يميز مصر القديمة هو إعتقادهم بإمكانية عودة الروح إلى جسدها الأصلي في بعض الحالات بعد مرورها بعالم الأموات، فاتخذوا من التحنيط وسيلة للمحافظة على جسد الميت وإعداده لإستقبال روحه الخالدة. وكانوا يؤمنون بأن الإنسان يحاسب ويحاكم بعد موته أمام الآلهة واثنين وأربعين قاضيا، فزودوا موتاهم بكتاب الموتى ولكن أيضا بالعديد من المواد المستعملة في الحياة العادية اليومية مثل الأكل والشرب والأواني وحلي الزينة، لتكون شواهد على أعمال الميت. فإذا ما زادت أعماله السيئة عن حسناته فيحكم عليه بأن يلقى به في دار العقاب، حيث تلتهب النيران وتعيش مخلوقات شريرة قبيحة، حتى تتطهر نفسه ثم يسمح له بالعودة للأرض في هيئته البشرية. ولكن يمكن أن يعاقب بطريقة أخرى، بأن يعيش على الأرض على هيئة أحدى الحيوانات أو الحشرات في أطوار تناسخه التالية مثل الخنزير أو الضفدعة أو الكلب .. أو في شكل حشرة من الحشرات المقززة مثل الخنفساء أو الذبابة. والإسلام ذاته لا يخلو من فكرة التناسخ نتيجة تأثره بالديانات الشرقية القديمة، فهناك بعض المذاهب والفرق الإسلامية التي تؤمن بتغير هذه النفس وتنقلها في أجسام مختلفة وذلك ما يسمونه ظاهرة "التقمص"، ومنها المذهب التوحيدي “الدرزي” ومذاهب أخرى مثل الإسماعيليين والنصيريين والطائفة النصيرية المعروفة بإسم العلوية واليزيدية وغيرهم. والتقمص كلمة مشتقة من القميص، حيث يشبّه الجسد الإنساني بالقميص، فكما يخلع الإنسان قميصه ويرتدي قميصاً جديداً، هكذا تخلع الروح ثوبها وتنفصل عن جسدها القديم بعد موته لتلبس ثوبا أو جسدا جديداً. ويستشهدون عادة بآيات قرأنية تفسر على أنها ذكرت التقمص إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة مثل سورة البقرة ، الآية 28 : “كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يُحييكم ثم إليه تُرجعون“، سورة طه ،الآية 55 : “منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نُخرجكم تارةً أخرى“ وعدة آيات أخرى. وهناك على ما يبدو أربعة أنواع من "التقمص": النسخ، هو إنتقال النفس أو الروح من إنسان إلى إنسان آخر. ثم المسخ، وهو إنتقال النفس البشرية إلى جسد حيوان. الفسخ، وهو إنتقال الروح من الجسد إلى النبات. وأخيرا الرسخ أدنى درجات التقمص وهو إنتقال الروح من الجسد البشري إلى حجر أو جماد. وهكذا نرى أن الفكر الغيبي يرفض الفراغ والعدم وفكرة الفناء بعد الموت وهو ما يسمح له بتشييد برنامج الحساب والعقاب والجنة والنار، واستبدال فكرة العدم بفكرة الخلود والأزلية مما يسمح للإنسان بالحصول على نوع من "الأمن" الوجودي. ربما الآن يجب رد الإعتبار إلى هذه الكلمة "العدمية" والمستعملة منذ زمن طويل في كثير من الكتابات الفلسفية وغير الفلسفية لتشير إلى كل ما هو سلبي وغير ملتزم، وتنعت أي فكر خارج على القانون ويرفض الحصار والتشيء بكونه عدميا. يجب علينا اليوم أن نسترجع هذا المفهوم الضروري لممارسة الفكر الحر والمناهض للفكر الغيبي، ونؤكد بأن العدمية هي الفلسفة الإنسانية الوحيدة الممكنة، لأن العدمية هي الإيجابية المطلقة. فالعدمية هي إعتبار العدم جزء من الحياة وليس خارجا عنها، وهذا الجزء "الثقب" في الوجود هو مصدر الوجود ذاته ومنبع الخلق والإبداع والفنون. العدمي هو من يرفض أن يملأ الفراغ والخواء الوجودي بالصلوات والإبتهالات من أجل المغفرة والحصول على الجنة، العدمي يملأ الثغرة التي أمامه بأعماله التي يختارها دون أن يحكم عليها مسبقا، لأنه يختار ما يعمله مجانا وليس من أجل الحصول على ثواب أو لكي ينجو من عقاب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نادين الراسي.. تتحدث عن الخيانة الجسدية التي تعرضت لها????


.. السودان.. إعلان لوقف الحرب | #الظهيرة




.. فيديو متداول لحارسي الرئيس الروسي والرئيس الصيني يتبادلان ال


.. القسام: قنصنا جنديا إسرائيليا في محور -نتساريم- جنوب حي تل ا




.. شاهد| آخر الصور الملتقطة للرئيس الإيراني والوفد الوزاري في أ