الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نيتشه والعمل في المجتمع الحديث: هذه -النقيصى- في عصرنا الحالي (الجزء الثالث)

أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)

2022 / 12 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بعد تحقيق مطلب العمل وعلاقته بالحاجة، ننتقل الآن إلى مطلب التحمس للعمل، على أن ننطلق من اقتباس شهير لحنة ارندت من كتابها "أزمة الثقافة"، ينص على أن الجماهير "لا تريد الثقافة بل الترفيه فقط". بعبارة أخرى، يسعى معظم الأفراد للترفيه عن أنفسهم بالمعنى الباسكالي للمصطلح، أي الابتعاد عن الأساسي. 
يشرح نيتشه جزئيا التحمس للعمل لأن هذا النشاط الأخير هو بالتحديد شكل من أشكال الترفيه. ويرى هذا الفيلسوف أننا "نستمر في العمل لأنه ممتع. لكن يجب الحرص على ألا تكون وسائل الترفيه متعبة للغاية". 
من هذا المنظور، يعتبر العمل بالنسبة لنيتشه بمثابة خدعة تهدف من ناحية إلى جعل محاربة الملل ممكنة، ومن ناحية أخرى إلى تحويل الإنسان عن مرضه، ولا سيما المعاناة.
ويرى نفس الفيلسوف أن "السعار الأعمى من أجل العمل، على سبيل المثال، هذه الفضيلة للآلة النموذجية، يتم تقديمه على أنه الطريق المؤدي إلى الثروة والشرف، باعتباره الترياق الأكثر فائدة ضد الملل والمحن. غير أننا نسكت عن خطره، وضرره الأكبر".
من المسلم به أن هذه الحماسة يمكن أن تكسب بشكل فعال "الثروة والشرف"، وفقا لنيتشه، لكنها تدمر "في نفس الوقت أعضاء البراعة التي تسمح للفرد بالاستمتاع بالثروة والشرف" ( المرجع نفسه، 77).
هكذا نصادف مرة أخرى عدم جدوى البحث عن المال من أجل المال. ونفس الأمر ينطبق على العمل كعلاج للملل. 
أخيرا، يرى نيتشه أن العمل يقلل من قدرة الجسم والعقل على التأثر، خاصة في مواجهة "المحفزات الجديدة" ( المرجع نفسه، 77). يتم السعي إلى العمل، باعتباره "نشاطا ميكانيكيًا"، من خلال ما يسمح به "لتخفيف المعاناة" بتشغيل "الوعي بالنشاط المستمر" (نيتشه 2002، 160-1). 
بعبارة أخرى، هذا الحماس للعمل هو شكل متجدد من الأخلاق التقشفية التي يهاجمها نيتشه باستمرار باعتبارها فلسفة مريضة وليست فلسفة حياة. 
هناك مثال ممتاز يشرح تفسير نيتشه للحماس للعمل، جاء بعد مرور قرن على نيتشه، وتم تقديمه من خلال شهادة مدير شركة للصلب، رواها جالبريث (1968، 163)، عندما تساءل عن الأشخاص الذين تتلخص حياتهم في عملهم..
تقول الشهادة: "بدلاً من الاسترخاء في المساء لقراءة رواية بوليسية، أعمل حتى الساعة الحادية عشرة، ثم أقول في قرارة لنفسي أخيرا: ليذهب كل ذلك إلى الجحيم، سوف احتسي الويسكي وأذهب إلى الفراش! ، لكنني أبقى في حالة تأمل حتى الساعة الثانية عشرة والنصف أو الواحدة ظهرا. […] ما يرفع معنوياتي هو العودة إلى حمام الأخبار والأعمال".
يطور نيتشه أيضا مفهومه عن ضرر الحماس المفرط في العمل على موضوع الإيمان. "شهوة العمل"، لدى بعض الأفراد، "تذيب الغرائز الدينية" وبالتالي تهيء لـ"عدم الإيمان" (نيتشه 2008 ج، 538-9). الأفراد الذين ينشغلون فقط بعملهم هم أفراد "يكتفون بتسجيل وجودهم في العالم في نوع من الدهشة المذهلة" (المرجع نفسه).
يمكننا بعد ذلك تلخيص نيتشه بإعادة صياغة نثر ماركس واستبدال العمل بالدين، فنقول: العمل هو "تنهيدة المضطهد، هو قلب عالمٍ لاقلب له، مثلما هو روح عصر بلا روح. إنه أفيون الشعوب". يقيم نيتشه، علاوة على ذلك، علاقة صريحة بين التحمس للعمل وإحدى الديانات الأوروبية العظيمة: البروتستانتية.
وهنا يقول إن "الغالبية العظمى من البروتستانت الألمان من الطبقة الوسطى ينتمون اليوم إلى هؤلاء الأشخاص غير المبالين، لا سيما في المراكز الكبرى للتجارة والتبادل حيث لا يعرف العمل فترة توقف".
إذا كان تأثير فكر نيتشه على فكر ماكس ويبر موضوع نقاش معقد وأنه يمكن للباحث أن يلاحظ وجود "اختلافات حساسة" (فلوري 2005)، تظل الحقيقة أن هذا الاقتراح يلخص التحليلات المنهجية التي اقترحها فيبر في "الأخلاق البروتستانتية أو روح الرأسمالية (1964) . 
إن الأخلاق البروتستانتية تقدر العمل كقيمة بالفعل، بمعنى أن كل ساعة لا تعمل لا تساهم في مجد الله. ومن هنا جاءت إدانة وقت الفراغ، الشيء الذي يعني، وفقا لنيتشه، موت كل روح.
يقول شلدارحا: "إن سباقهم الجامح نحو العمل - نقيصة العالم الجديد - بدأ بالفعل، عن طريق العدوى، في جعل أوروبا العحوز متوحشة ورشها بغياب مذهل للروح. إننا نشعر اليون بالعار من الراحة. الاستغراف في التأمل يسبب الندم".
أدرك نيتشه الأهمية المعيارية للروح البروتستانتية، التي أصبحت الروح الحديثة، والتي تجعل العمل قيمة أساسية للمجتمع الحديث  والثقافة الأوروبية. ويشدد في هذا الصدد على الانعكاس الحقيقي للقيمة الذي حدث في العصر الحديث، بمعنى أن "العمل لا يتوقف عن احتكار كل ضمير صالح" بينما "في الماضي كان العكس" ( المرجع نفسه، 302) ). 
في الواقع، منذ القرن الثامن عشر بدأ بناء مفهوم العمل وانعكاس قيمته (ميدا 2013، 68). 
سنعود إلى هذا الانقلاب على القيم، بقدر ما يُنظر إلى الإدانة الحديثة لوقت الفراغ التي يأسف لها نيتشه على أنها الجانب الأرستقراطي - أو الرجعي باللغة الماركسية - من نقده. لكن دعونا نؤكد أولاً وقبل كل شيء أنه يمكننا بالفعل أن نرى بزوغ فجر ما يمكن أن يوحد نقد الاخلاق البرجوازية المتعلقة بالعمل والنقد الأرستقراطي للعمل، والذي يتم توجيهه إلى العمال بقدر ما هو موجه إلى الطبقات المحظوظة. 
ثانيًا، يقدم نيتشه المعضلة التالية: العمل أم التفكير؟ يبدو أن المجتمع الحديث قد حسم المسألة. نجد هذه المعضلة أيضا مصوغة من قبل الكاتب دوستوفسكي الذي نال إعجاب نيتشه: "ثقل ذهني معين هو، على ما يبدو، وصف لا غنى عنه إن لم يكن لأي رجل نشط، فعلى الأقل لأي صانع نقود جاد". 
أخيرا، ويتعلق الأمر بتطوير هذه النقطة، فإن النقد السوسيوتاريخي الذي قام به نيتشه يحمل في نهاية المطاف عواقب المكانة التي تحتلها هذه القيمة المعطاة للعمل.
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرصيف البحري الأميركي المؤقت في غزة.. هل يغير من الواقع الإ


.. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحكم في مستقبل الفورمولا؟ | #سك




.. خلافات صينية أميركية في ملفات عديدة وشائكة.. واتفاق على استم


.. جهود مكثفة لتجنب معركة رفح والتوصل لاتفاق هدنة وتبادل.. فهل




.. مدير ديوان رئيس الحكومة التونسي الأسبق محمد الطيب اليوسفي يك