الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صورة الله في الديانة العراقية القديمة ح2

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 12 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من تعقيب المدونات الدينية العراقية القديمة وما تركت من أثار منقوشة على القطع الآثارية المتناثرة أو ما هو منحوت أو منقوش في المعابد، نجد أن الخطاب الديني الصاعد سواء أكانت أدعية أو أبتهالات وأناشيد دينية أو تقديم لمشروع تشريعي مثل مقدمة مسلة حمورابي، وحتى القصائد الشعرية التي كتبها شعراء أو عمال المعبد، يمكننا أن نلاحظ أن هذا الخطاب توحيدي خالص متوجه إلى ذات علية واحدة، لا يقرن أحد بها أو بخطابها ولا يمكن أن تكو موجهة لغير رب واحد، بعض العبارات التي فسرها المؤرخون حسب ما تملي عليهم عقائدهم وخاصة أولئك الذين يبحثون عن ما يعزز عقيدتهم الشركية ، أو المحرفة والتي هي بالأصل منقولة ومنتحلة من ديانة العراق القديم أصلا قرئت وترجمت على أنها متوجه ليس بالضرورة لرب واحد ، بالرغم أننا لا ننكر جهودهم العظيمة في الكشف والقراءة وخاصة الرواد مهم كصموئيل كريمر وغيرهم، لكننا أيضا نشير إلى حقائق تمس الجهد العلمي وضرورة أن يكون مهنيا حرفيا لا ينشد إلا المقاصد العلمية وحدها.
من هنا كانت علاقة الرب أو الله الواحد مع الناس عمما نجدها في الصورة التي ترتسم في مخيلتهم عنه، أولا من خلال رعايتهم والأهتمام بهم كونهم تحت سلطته وأمره، وهذا ما يلقي عليه مسئولية مباشرة تتمثل في نواحي عدة، منها أولا أختيار الملك أو الحاكم المناسب لهم والذي سيكون بموجب إرادة السماء وكيلا عن الله عليهم، وثانيا من خلال تسخير عمال الآلهة أو الأرباب الموكلون بوظائف تمسهم في أن يمنحوا الشعب ميزة وتفضيل خاص، فلقد كان مستوى العلاقة والصورة الإطارية لله عند العراقيين القدماء تتمحور حول (عمق تلك العلاقة بين الحاكم وآلهته تعتمد على سعادة ورضا الإله عن الحاكم، ومدى نجاحه في إدارة شؤون البلاد، فقد كان الملك يعمل جاهداً لتوسيع مملكته وجعلها مزدهرة كي يظهر أمام شعبه والعالم على أنّ الآلهة قد فضّلته على غيره من البشر)، هذه الصورة ليست بدائية كما يتوهم البعض ولا هي ذات طبيعة تتعلق بتكوين النظرية السياسية الدينية عندهم بقدر ما هي إيمان قديم وأصيل أن الله هو من يختار أو يجب أن يختار الأفضل للناس، فلا عجب مثلا أننا نجد في النقوش القديمة عبارة أن الله أو الرب الأعظم قد أختارني أنا ... لأكون حاكما أو ملكا على ....
الإصالة بالفكرة هذه منبعها ديني بالتأكيد عندما كان الأنبياء الذين كانوا بعد آدم ولزمن متقدم هم الحكماء والحكام الذين قادوا المجتمع الإنساني فكريا وحضاريا ومعرفيا، هؤلاء كانوا خيار وأصطفاء الله وإرادته عندما جعل منهم أدوات تنفيذ النظام الرباني التوحيدي، ومنهم تسللت الفكرة أما أمتداد لها بأعتبار أن كل حالك لا يمكن أن يكون دون إرادة الله وأمره، أو أن هذه الفكرة أنسحبت في الوعي العميق الذي ترسخ في ضمير الإنسان العراقي وأصبحت من المسلمات لديه، لذا نجد باحثا مهما مثل الدكتور كاظك شمهود وهو يقارن بين الحياة الدينية عند العرب قبل الإسلام وبين الواقع الديني والعقيدي عند العراقيين القدماء، فيقول (هذه المعتقدات المتشابهة تدلنا اولا على انه كان هناك في زمن السومريين انبياء وقد حورت رسالاتهم و حولت الى اساطير، ثانيا ان هناك اله واحد يحكم العالم سمي باسماء مختلفة)، رأي الدكتور كاظم أن الشرك الذي عليه العرب قبل الإسلام له جذور ممتدة من ديانة الراقيين القدماء الذين كانوا يؤمنون بإله واحد يرسل أنبياء ويجعبهم حكام وأدلاء على إرادة التحضر والنظام، إلا أن الإنسان بطبيعته الحسية يفسر وفقا لمقاساته وأدواته الفكرية أن الأمور المادية لا تكون ولا تحدث إلا بعنصر مادي، بمعنى أن المطر مثلا لا ينزل وفقا لإرادة الله بل من خلال رب تنفيذي لدية القدرة على إنزال المطر بقوته أو من خلال تدخله الشخصي.
هذا النوع من التفسير ليس إشراكا ولا حتى نوع من التوكيل لغير الله، بل أرى أن الحقيقة تقول وبحسب النصوص الدينية التي نؤمن بها ونعبدها أن لله جنود في السموات وفي الأرض ينفذون ما يأمرهم أو يرتب الله عليهم من مسئوليات من ضمن منظومة الألية الكونية الشاملة التي تدير الوجود، صحيح أن الله سماها جنود وأحيانا ملائكة وأحيانا يشير إلى ضبابية الكائن المنفذ، لكن عند العودة للعلم والمنطق العملي نجد أن هذه القوى والكائنات موجودة ولا يمكن نكرانها، منها مثلا القوى الكونية الرئيسية (المغناطيسية أو القوى الأخرى) التي تنظم واحافظ على البناء الكوني بذات الوقا لا يمكنها أن تعمل بدون نظام مسبق منضبط قبل وجودها وجعلها، بمعنى أن من خلق الكون رتب العمل بقوانين حادة ومنضبطة وأبدية مطلقة لا يمكن لها أن تتمرد أو تتقاعس عن أداء عملها، وهذا هو مفهوم النص الديني الآتي (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) الفتح (7)، إذا ما عرفنا دور جنود الأرض ندرك المعنى البعيد لجنود السماوات هنا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) الأحزاب (9).
إذا الصورة الحقيقية عند العراقيين القدماء لا تبنى على حقيقة مفهوم الشرك بل على حقيقة أن لله جنود موزعون على الوظائف والإرادات التنفيذية وكلا في أختصاص محدد، لا يخلطون ولا يختلط عليهم الأمر وهم مكلفون وجوديا بحفظ الكون وتسيره وفقا للقاعدة القانونية الأساس (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) القمر (49)، التقدير هنا موزون ومحسوب وثابت لا يتغير ومطلق ونهائي ويملك صفة الشمول والعموم، إذا صورة الله عند العراقيين في ديانتهم القديمة صورة أقرب للواقع منها للتعبيرات والتمثيلات التي جاءت بها الأدنيان وحولة الصورة إلى الرمزية الغيبية التي كانت أحد أسباب ظهور الأفكار الشركية لاحقا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيرا على الأقدام.. جيش الاحتلال يجبر آلاف الفلسطينيين على ال


.. زعيم حزب فرنسا الأبية لوك ميلونشون: الرئيس لديه السلطة والوا




.. يورو 2024.. المنتخب الإنكليزي يجري حصة تدريبية من نوع خاص


.. مكتب نتنياهو: المقترح الذي وافق عليه رئيس الوزراء حظي بدعم ا




.. شروط جديدة لنتنياهو قبل المفاوضات حول الصفقة مع حماس