الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القيمة العملية لدور الله في نشأة الحضارة العراقية ح1

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 12 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عندما نبدأ البحث بمسمى الله وليس الآلهة فإننا نؤكد ما توصلنا له سابقا أن عبادة العراقيين القدماء في معظم مراحلها كانت عبادة توحيدية، هذا لا ينفي أنه في مراحل أخرة كانت شركية ولكن بالمطلق لم تكن عبادتهم وثنية بالمعنى المتعارف عليه ، ويمكن مراجعة كل النصوص المكتشفة ومقارنة مفاهيم التوحيد والشرك والوثنية في طياتها لنصل إلى هذا القطع المؤكد، فالله الذي يتحكم بكل العوالم ويملك كل القدرات والذي سخر الوجود كله بقدرته، هو إله العراقيين القدماء مع تبدلات العقيدة وتبدلات المفاهيم والرموز والدلالات، مع أن الكثير من المختصين من علماء الأثار أو الأديان وعلماء الأنثروبولوجيا يجزمون بشكل نهائي أن العبادات القديمة ومنها عبادة العراقيين في عهودها الأولى السومرية والأكادية ثم البابلية والأشورية هي من العبادات الوثنية التي تعبد كائنات أما مفترضة أو مصنوعة 1، ودليلهم كثرة النصب والنقوش التي تمجد ألهة متعددة وتمنحها القداسة والتعظيم دون أن تكون هذه الآلهة سوى منحوتات تجسد فكرة العراقي القديم عن القوى المتحكمة بالوجود.
إن النظرة الاستعلائية المبنية على مفاهيم وعقائد دينية نؤمن بها على أنها هي الإيمان الصحيح وما دونها أو غيرها هي الوثنية والكفر والشرك، السبب الأساسي لنعت تلك الديانات بالوثنية وهذا ما لحق من تشويه تجاه المفاهيم الدينية الأصيلة للشعوب القديمة ومنها العراقيون المتدينون، هذه النظرة السطحية الخالية من دليل علمي أو نصي موثق ومتيقن منه روحا ودلاله تمثِّل عائقًا أخلاقيًّا واختلالًا معرفيًّا تجاه الديانات القديمة، مما يحُول دون فهم التجربة الدينية لمرحلة أساسية من مراحل تراثنا الإنساني خاصة وأن غالب ما مكتشف منه لا يمثل إلا نسبة قليلة جدا مما ترك الأولون وما زال معظمه تحت التراب أو لم يقرأ جيدا بلغته وظروفه، وأيضًا الزعمُ بأن أتباع دين بعينه هم قادرون دون غيرهم على إدراك الحقائق المفارقة لعالم الآلهة، هو زعم يستبطن القول بحلول المطلق بالنسبي ويتنافى مع تجريد التوحيد.
الوثنية إذا تتجلى في أن معتنقيها لا يتفقون على مبدأ واحد ولا يتوجهون نحو قوة واحدة وبذلك يمكن للجماعة أو المجامع تقف مرة واحدة عند منطقة أو نقطة مشتركة، فطالما أن الأمر يرجع في كل مره إلى الفردانية في تكوين أطر الإيمان وبالتالي تتفرق الجماعة وفقا لتفرق المفاهيم داخلها، وهذا لا يحدث في المجتمعات الصغيرة والمتقاربة عادة بكنه ممكن الحدوث في مجتمعات متباعدة ولها نظم ورؤى وأفكار تتأثر بعوامل شتى، هذا المنطق يتساوى ويتعارض أيضا مع منطق أخر يقول أن (الدين ليس مجرد فكرة تولد عند أشخاص وقد لا تكون قابلة للأنتقال إلى غيرهم، بل هي في الأصل تراكم معتقدات لها من الصحة والقناعة بها نصيب يجعل التعامل معها مقبولا ومنطقيا أيض)، بمعنى أن الدين إرث جماعي للمجتمع ساهم الجميع في تكوينه وإحداثه بعيدا عن البذرة الأولى، فالوثنية التي نعرفها كمفهوم ديني ولغوي ينحصر في الديانات الطوطمية التي لقيت ملازمة وثابتة على ديانتها الأولى دون أن تفكر أو تمتحن المعتقد مع التبدلات الكونية الفكرية والعلمية، هذا ما يجعلها محصورة في مناطق وحدود ضيقة ثابتة لا تتغير ولا تساعد على التغير والتطور مع أنها أشتركت في الأصل مع مجتمعات تطورت وتغيرت وبنت حضارات وقيم ومعارف إنسانية على مر العصور.
إذا مسألة تداخل العلاقة بين الوحدة والاختلاف في التكوين الطبيعي للكائنات الوجودية جميعها أمر في غاية الطبيعية، ولا يَخرج الفكر الديني الإنساني عن هذه العلاقة الجدلية مما حدث أو يحدث في عالمها، فلا يحلو اليوم دين من هذه الظاهرة، فقد نجد أفكارا شركية في ديانات توحيدية ونجد أفكارا توحيدية في ديانات شركية أو حتى وثنية، فالأمر لا يعود للدين بقدر ما يعود للإنسان بفهمه وقراءاه وإيمانه، إذا عندما نجد بعض الأختلافات أو الأفكار المغايرة التي فرضت على دين مجتمع عاش فاعلا ومنفعلا ومساهما في التطور البشري بشكل ملحوظ، لا يعني هذا أن دين هذا المجتمع أو الحقبة أو الإنسان مصبوغا بهذا الأختلاف أو طبعا عاما ومثاليا عليه.
نعود لعنوان البحث ومنطلقين مما تقدم وهو (أن المجتمع العراقي لولا توحده الديني ووحدة الرؤية التي أسهمت وأسست لمفهوم المجتمع المتماثل القادر على العمل الجمعي بقوة، لما كان ممكنا له أن يبني حضارة رائدة تتسم بوحدة اللغة أولا ووحدة العقيدة ثانيا، وبالتالي وحدة الموقف السياسي من تبني نظريات البناء الحضاري ووسائل الأرتقاء لديه، إذا لعب الدين ومن خلال رمزه الأساسي الإله الواحد أو رب الأرباب أو القوة العليا المسيطرة والمهيمنة على حركة الوجود، الدور الأساس في كل ما جرى من تحضر وبناء ثقافة المجتمعات الواحدة التي تطورت إلى إمبراطوريات وفرضت هيمنتها وقيمها وحتى لغتها على الجوار الإقليمي خصوصا الحصاري منه، هذا الدور لا يمكن أن يكون فعليا لولا توحيد الدين العراقي نحو إله واحد أو قوة حاكمة واحدة تتولى مسئولية تنصيب وأختيار الحكام والحكماء المؤهلين لهذا الدور العظيم.
قد لا ترد بعض الكتابات القديمة والتي تحوي مشاعر العراقيين وأدبهم الديني الذي بالضرورة يعكس إيمانهم بالله الواحد والذي هو مصدر كل الوجود، لأسباب عديدة منها ما هو ديني من أتباع ديانات مزيفة أو منتحلة أو لأغراض سياسية أيضا لا تخلوا من دافع ديني، مثل هذه الكتابات التي تمثل حقيقة تدين العراقيين القدماء موجودة بكثرة في الغالب يتم تحريف الترجمة من لغتها الأم إلى لغات الباحثين والمترجمين لتعطي مفهوما أخر، وفي حالة تعذر ذلك تهمل وتطمر في مخازن المتاحف والجامعات كي لا تظهر الحقيقة الناصعة، فيما يلي أنشودة دينية وجدت في مكتبة اشوربانيبال وهي تتحدث عن الله صفة ومعنى ودلالة نتعبد بها إلى اليوم، النص كما يلي:.
" اللهم الذي لا تخفى عليه خافية في الظلام
والذي يضيء لنا الطريق بنوره
انك الاله الحليم الذي يأخذ بيدِ الخطاة وينصر الضعفاء
حتى ان كل الآلهة (الأرباب) تتجه انظارهم الى نورك
وشياطين الهاوية تلتهم انظارهم وجهك
حتى كأنك فوق عرشك مثل عروس جميلة تملأ العيون بهجة
و رفعتك وصلت عظمتها اقصى حدود السماء" 2.
لقد لعب الدين دورا توحيديا في بناء المجتمع العراقي القديم من أوليات ظهور السومريين في منطقة جنوب ووسط العراق المهد الأول لحضارة الماء والطين، والذي أعتنق فيه الشعيب السومري دين أجداده الأوائل النبي نوح ابن شبت والمسمى (أتُى نبي شيتم) أو "النبي الي خلف شيت" وبعده جد الساميين الأول "سام أور" الذي سمي السومريين باسمه، فاللاحقة أور تعني بلد أو تحديدا مكان تضاف للتعريف بالأشخاص والمدن، وكل هؤلاء كانوا على دين التوحيد الرباني الذي دعا له الأنبياء، من خلال الشرائع السماوية التي حملوها ونشروها في بلاد الطوفان "العراق الأوسط والجنوبي"، لتكون أو المجتمعات العراقية بعد الطوفان بقيادة دينية متمثلة بالرسل والأنبياء لتتواصل بعدها إلى أبنائهم وأحفادهم الذين تحولوا من ملوك دينيين إلى ملوك مزدوجي الوظيفة ديني وزمني.
وحتى بعد الفصل بين السلطتين الدينية والزمنية لم ينفصل الحاكم الزمني تماما عن المعبد والهه فهو يستمد شرعيته من اعتباره المفوض من إله المدينة الدارة شؤونها ففي عصر فجر السلالات (2800 ـ 2370 ق.م ) ظهر الحاكم الزمني المفوض من قبل اله المدينة الدارة شؤون دولته الأرضية واطلق على هذا الحاكم "إنسي" Ensi واعقبة ظهور الملك "لوكال Lu ـ Gal " أو اللائك بالكاف المعجمة أي اللائق للحكم، عندما كان يتسنى للحاكم بسط نفوذه واخضاع مدن (اخرى لسلطانه) من باب الدعوة للدين وتنفيذ إرادة الله بنشر دينه التوحيدي.
كما كانت المؤسسة الدينية أولى المؤسسات التي قادت المجتمع البشري ومنها انبثقت باقي مؤسسات الدولة السياسية والأقتصادية ووفق تعاليمها نظمت الكيانات الأجتماعية، وكانت المؤسسة الدينية المنطلق الأول لانبثاق الحركة الثقافية، وكانت المفاهيم الدينية بمثابة المحور الأساسي لكل التحولات الأجتماعية والأقتصادية والسياسية والثقافية، وبشكل عام هي مصدر تطور واستمرارية الحضارة ويمكن عدها ووصفها بأنها "صانعة الحضارات".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1.(الوَثَن وَفْق التعريف الديني، هو كل شيء يُعبد من أي مادة كان ولم يكن له صورة، في حين الصنمُ هو ما يُعبد وله صورة، سَواء لِكائنات بشرية كانت أو لحيوانية)، الوثنية كمنهج لا تقتصر على من يعبدون الأصنام والأوثان، وإنما نجدها متضمَّنة في كل شكل من أشكال تقديس العالم والكائنات المخلوقة. وأيضًا نجدها حاضرة في توقُّف الفكر الديني على "أنماط" من التصورات العَقَدِيَّة، التي تُعطِّل سعي العقل للبحث عن معانٍ وأفكار جديدة. فتقديس الأجداد وعبادة الأسلاف هو شكل من أشكال الوثنية، التي نجدها لدى كثير من أتباع الأديان والمعتقدات في القديم والحديث. كذلك تقديس اللغة وعبادة حروفها هو شكل آخر.
2. حضارات بابل وآشور _ غوستاف لوبون / صفحة 68-69








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتخاب بزشكيان رئيسا جديدا لإيران.. تفاؤل مصطنع ووعود صعبة ا


.. تصاعد الضغوط على بايدن للانسحاب من سباق الرئاسة | #أميركا_ال




.. ترقب احتمال فوز دونالد ترامب بسباق الرئاسة الأميركية | #أمير


.. مظاهرة نحو منزل نتنياهو في شارع غزة بالقدس للمطالبة بصفقة تب




.. رئيس الوزراء البريطاني أكد لنتنياهو ضرورة وقف إطلاق النار بغ