الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القيمة العملية لدور الله في نشأة الحضارة العراقية ح2

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 12 / 18
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كانت المؤسسة الدينية أولى المؤسسات البانية التي قادت المجتمع البشري إلى مفهوم التنظيم والترتيب، ومنها انبثقت وتناسقت بنائيا معها باقي مؤسسات الدولة السياسية والأقتصادية لتكوين المجتمع المؤسساتي المبني على الواجبات والحقوق والنظام الهرمي، ووفق تعاليمها نظمت الكيانات الأجتماعية تلك مهامها الوظيفية البنيوية، وكانت المؤسسة الدينية المنطلق الأول لانبثاق الحركة الثقافية بكل صنوفها شعر ونثر وموسيقى وتشكيل وهندسة، وكانت أساس المفاهيم الدينية بمثابة المحور الأساسي لكل التحولات الأجتماعية والأقتصادية والسياسية والثقافية في المجتمعات المؤسسة للحضارة، وبشكل عام هي مصدر تطور واستمرارية الحضارة ويمكن عدها ووصفها بأنها "صانعة الحضارات"، ليس لأنها السابقة والرائدة في التحضر لسبب ما، ولكن لأن الحضارة البشرية التي نعرفها لا تبنى على الفوضى والتشتت، ولا يمكن البدء بمراحلها الأساسية بغياب القانون الحضاري الأهم وهو "الأجتماع أما على هدف واحد أو حول قضية واحدة".1
إذا الدين الموحد بقواعده وأعتقاداته وحتى طقوسه وطريقة تعاطيه مع قضايا الإنسان كان العامل الأساسي الذي ساهم في بناء حضارة العراق القديم، ومن هنا يفسر البعض دور الدين في حياة الناس على أنه ردة فعل وليس طبيعة متأصلة في الذات البشرية، يقول أحد الباحثين في السومريات القديمة وأساطيرها أن (حاجة الانسان الى الدين تنتج عن حقائق اساسية للوجود البشري، فالإنسان يعيش في احوال غير ثابتة ومحاطاً بظروف وحوادث مهمة لسلامته وبقائه لكنها فوق طاقته وبصيرته، وهذا هو حال الفرد العراقي القديم الذي صور لنا صراعه مع محيطه وبيئته الطبيعية وكيفية التغلب عليها كما جاء في اساطير وملاحم بلاد الرافدين) ، فالباحث هنا يستنتج من ما يسميه الأساطير حاجة الفرد للدين إنعكاس للشعور بالعجز أو الرغبة للبحث عن أمان، هذا الرأي نجد معارضيه أكثر من مؤيديه، خاصة وأن الأبحاث العلمية التي تتطور مجالاتها وحدود معرفتها اليوم تشير بشكل أساسي أن الإنسان جينيا كائن يؤمن بالدين وينساق معه دون تكلف أو ممانعة لأنه يتماهى مع تكوينه الفطري الأساسي، في هذا الخصوص مثلا نجد رأيا جديرا بالفهم والتمحيص بشير إلى حقيقة الإنسان الطبيعية فيقول (للدين وظائف استوجبت بقاءه منذ وجوده واستمراره، اذ ان من المتفق عليه ان الشيء الذي لا وظيفة له لا ضرورة لبقائه)، هنا علة بقاء الدين تبقى متصلة مع علة وجود الإنسان أصلا فهما صنوان لا يفترقان إذا.
لقد أقترن دور الله بدور الدين والدين مجسدا بالتعاليم التي تنقسم بحسب طبيعتها إلى طقوس عبادية تعبدية مكانها المعبد، والقسم الأخر فيم مثاليات وركائز فكرية ورؤى عقلية تصنع وعيا وتبني أطر ترسم خرائط طريق للإنسان، ففي الجانب الحسي لعبد الدين الطقوسي ومن خلال المعبد دورا محوريا في حياة الشعوب منها القديمة وحتى المعاصرة، بأعتبار أنها المركز الأقرب لفهم الدين أي فهم ما يريده الله أصلا من الدين ضمن ما يعرف بالتعبير المادي عن إيماننا بالله، لذا كان الأعتقاد القديم بقيمة المعبد ليس فقط لأنه كما يزعم بعض الباحثين أنها بيت الآلهة، وإنما هو ألتزام مقابل من الإنسان تجاه من خلقه وردا للجميل (لذلك أهتم العراقيون القدماء بإقامة المعابد لمعبوداتهم، وحرصوا على إرضائها وتقديم القرابين لها إلتزاماً بخشيتها وعبادتها من جهة، وأملاً في أن تمنحهم السعادة والرخاء في الحياة الدنيا من جهة أخرى، ولعل أوضح مثل لذلك ما قاله الملك آشور للإله عندما رمم معابده “إمنحوني – أنا الذي أخشى معبوداتي العظيمة – حياة تمتد أياماً طويلة وسرور قلب”)، فإذا كان دور المعبد هو دور الرابط بين السماء والأرض من خلال إيمان الإنسان أن ما يعبد لا يمكن أن يكون مجهولا أو فوضويا ولا بد من أطر مقدسة وجامعة ومركزة في رمز مقدس بجمع الناس عنده.
عمليا هنا لعب الدين دورا أساسيا ومحوريا في حياة الإنسان على مر تاريخه الوجودي، لكنه في العصور العراقية القديمة كان تأثيره أقوى وأشد لأسباب عديدة، منها أن البدايات البنائية في الحضارة العراقية والتي نشأت بفعل الشعور والفعل الديني كانت أكثر ألتصاقا وأقرب من جوهرية الدين، فلقد بدأ في أرض سومر كل شيء على أساس ديني، بل لن تجد أي أثر منهم يخلو من طابعه الإيماني والعقائدي ، يقول الباحث عادل هاشم علي في هذا الصدد (حتوت النصوص المكتوبة بالخط المسماري باللغتين السومرية والأكادية اهم ما كتب عن المعتقدات والمتمثلة بالطقوس والشعائر الدينية والآراء الفلسفية حتى اصبح من النادر ان يخلو نص مسماري مهما كانت طبيعته ومضمونه من اشارة مباشرة او غير مباشرة من ذكر للديانة الرافدينية القديمة، والنصوص التي كانت ذات صلة مباشرة بالنظام الديني في العراق القديم تتنوع من حيث المضمون فمنها الاساطير الخاصة بخلق الكون والانسان وعالم ما بعد الموت ومنها ما يذكر اسماء الالهة والقابهم وعلاقتهم مع بعضهم ومنها ما نص على الادعية والتراتيل والنصوص التي تصدر من الكهنة حول كيفية اقامة الشعائر والاحتفالات الدينية وكيفية بناء المعابد وما يتعلق بإدارة المعبد وشؤون موظفيه على مختلف اصنافهم)2 .
لعب الدين من خلال المعبد ايضا ً دورا ً رئيسيا ً في نشوء المدن وتطورها كما لعب الدين الدورا ًنفسه في تقديم مدينة على مدينة اخرى من حيث المكانة والقدسية، فالإنسان في بالد الرافدين قد برز عامل القيم الروحية في مسألة اختيار بناء بعض المدن وفق للأعتقاد السائد بقدسية بعض المدن كون الآلهة هي التي بنتها، أو أختارتها كأمر فوقي لا مجال للنقاش فيه، اذن للعامل الديني كان مهما في واقع المدن ونشؤها، فقد كان العامل المميز للمدن القديمة اذ يحتل المعبد الرئيسي مركز المدينة ويمكن متابعة اثار الدين وبصماته في حضارة وادي الرافدين في كافة مجالاتها وعناصرها، فعلاوة على الأساطير والملاحم الدينية وما ورد في التراتيل والصلوات، وجداول باسماء الآلهة والأرواح الشريرة والخيرة، وما أحتوت نصوص الفأل وقراءة الطالع والنصوص السحرية وتعاليم اقامة الشعائر التي أرتبطت جميعا بين المعبد والإنسان فردا ومجموعة.
فلقد ربط الدين حياة الإنسان به ومن خلاله وجعل الشأن الديني هي المقدمة الأساسية المهمة التي يجب أن يحياها المجتمع وعليه تقوم أسسه وقوائمه، حتى أن الملوك والحكام لم يجافوا الدين ولا المعبد ولا المز الأكبر الألة الذي يرعى المدينة ويحفظها من أعدائها، لذا كانت فخامة المعبد وسطوته وحضوره اليومي في حياة الناس دليل قوة للسلطة واحترامها رعايتها في عملية خضوع كامل للدين والمعبد، وليس عملية تخادم بدلي كما هو جاري الآن بين السلطة والمؤسسة الدينية عموما.
من هنا يمكننا أن نعكس الرأي السائد عند الباحثين والمؤرخين الذين يقولون أن التأثير السياسي على الدين أقوى من تأثير الدين على الجاني السياسي كما يرى مثلا الباحث الفلسطيني محمد أبو ريا في بحثه عن المعتقدات الدينية للحضارات الكنعانية والبابلية والعربية، إذ يظن جازما هذا الأمر معقبا (كان الدين في العراق القديم تمامًا كما كان في مصر، من حيث خضوعه للتأثيرات السياسية بالمقام الأول، وكان يمثل درجة عالية من التعليمات والالتزامات الأخلاقية، وكان له عند العراقيين والمصريين على حد سواء المكان الأول في حياتهم العامة والخاصة)، هذا الرأي الذي في إطلاقه لا يستند إلى وقائع حدوثيه ولا إلى دراسات معمقة حول نشأن السلطة في المجتمع العراقي القديم، والتي تكونت أساسا حول دائرة المعبد ومنها أنطلق التعامل السياسي والذي ظل خاضعا في جميع الأحوال وحسب إقرارات الحكام والملوم العراقيين القدماء لإرادة الله الرب العظيم، والتي لا يمكن تجاوزها بناء على رأي ظني قائم على الأفتراض فقط.
إذا القيمة العملية لدور الله في بناء الحضارة لا بد أن يكون من خلال الروافد التالية:.
• الرافد التعليمي الذي مكن الإنسان من أكتشاف وعيه الذاتي بناء على قاعدة من عرف نفسه فقد عرف ربه، فالمعرفة الأولى بالنفس هي مصدر كل المعارف اللاحقة، ولكن هناك من لا يربط بين معرفة النفس ودور الله من خلال الدين أو من خلال التركيب التكويني للإنسان، ليبرهن أن الوعي مجرد إدراك ذاتي للذات من خلال إحساسها بالوجود، ولو سلمنا بهذا التقرير فما جوابنا على غياب الوعي عند الكثير من المجتمعات التي تشترك في نفس الظروف والمحددات لمن غاب عنها عنصر الدين الكاشف عن الوعي.
• طبيعة الدين ذاته ومحوريته في حياة الإنسان والذي بدوره دعا الإنسان للتجمع حول فكرة واحدة وأعتناقها ومن ثم أداء مستلزماته بشكل فردي جامع أو بشكل مجموعات، مما عزز من الروابط التي توحد المجتمع وتفرض نوعا من التنظيم والأشتراك في محددات جمعية خلقت فكرة المجتمع الواحد المتعاضد في بناء وحماية أفراده لشكل عملي ووظيفي.
• الرسل والرسالات والأنبياء كانوا عوامل وحدة وعوامل تجمع ساهموا من خلال الدور الديني في بناء مفاهيم مشتركة منها عبادية ومنها أجتماعية وثقافية وفكرية، هذا مع مرور الزمن تحولت هذه الرسالات والأفكار الدينية إلى جزء من الذاكرة الجمعية للمجتمعات وتحولت إلى إرثا عاما ساهم في توحيد العقل الجمعي من جهة، وأسس لبدايات المعرفة المتطورة من خلال تدخل الإنسان فيها، أو من خلال ما تفرضه هي من أساسيات لازمة كي تبقى محركا أجتماعيا أصيل.
• ويمكنني القول أن الدين المكتمل في شروطه ووحدته الموضوعية والفكرية وتكامل أركانه الفكرية والطقوسية والأخلاقية، التي تنظمها وحدة معرفية ودعوة للتوحد والعمل المشترك هب الأساس الأهم والبالغ الأهمية في بناء الحضارات، وبدون هذا الشروط لا يمكن لأي مجتمع مهما بلغ من قوة أن يبني حضارة مثمرة، قد ينجح قعلا في بناء نظام قوي لكنه لا ينجح في بناء عملية تحضر مستمرة ومتجددة لا تخبو مع مرور الزمن لأن الحضارة ليست بناء فوقي يتعلق بالماديات بقدر ما هي إعادة لتخليق لذات الإنسان وتجديد وعيه المستمر بوجوده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1.فاضل عبد الواحد علي : سومر اسطورة وملحمة ، ص 64
2.عادل هاشم علي_ ا لبنية الاجتماعية في العراق القديم من عصر فجر السلالات وحتى نهاية العصر البابلي. ص ص209- 236 نقلا عن صموئيل نوح كريمر : السومريون ، ص 147 – 223 و فاضل عبد الواحد علي : سومر اسطورة وملحمة : ص 58 – 316.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيرا على الأقدام.. جيش الاحتلال يجبر آلاف الفلسطينيين على ال


.. زعيم حزب فرنسا الأبية لوك ميلونشون: الرئيس لديه السلطة والوا




.. يورو 2024.. المنتخب الإنكليزي يجري حصة تدريبية من نوع خاص


.. مكتب نتنياهو: المقترح الذي وافق عليه رئيس الوزراء حظي بدعم ا




.. شروط جديدة لنتنياهو قبل المفاوضات حول الصفقة مع حماس