الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الله والماء والحضارة ح1

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 12 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


اسم الرب العظيم والأكبر عند السومريين الأوائل «إيا» هناك من يزعم بأنه من أصل حوري والحوريين لا يعرفون إلها بهذا الاسم ولا دليل يثبت ذلك، بينما ادّعى آخرون أنها ربما تكون من أصل سامي وقد اشتُقَّت من الجذر «حيّ» وتعني «الحياة» فيكون الأسم "حيا" لأن المترجم الي ترجم الأسم من السومرية للغته الأم لا يوجد فيها حرف الحاء، ومن مخرج اللسان يكون إيا بديلا عن حيا وهذا مما أشرنا له كثيرا من قبل، لقد أرتبط الحياة بالماء عند العراقيين بشكل وثيق حتى أن أسطورة الخلق كما يصفها المؤرخون والباحثون تعتمد في أساسها على أن الماء أسبق من الحياة ومنها أنبعث الوجود، فيكون حيا أي صانه الحياة ومانحها للوجود فهو بمعنى تقريبي يعني «نبع الماء»، وهذا ما يفسّر وصفه بأنه ينبوع المعرفة السرية والسحرية للحياة والخلود، فعند البعض من قراء اللغة السومرية الاسم بما ينطقونه هكذا «إي-ئا» بالسومرية «بيت الماء» وهذا خطأ لا يغتفر فكل المترجمين وقراء السومرية متفقين على أن كلمة "آب" وحدها التي تعني الماء، وقد أشأروا إلى أن هذا الاسم كان الاسم الأصلي للمزار المقدس للإله في أريدو كما يزعمون، وهو الموطن الأصلي للرب الراعي إنكي، فقد كان السومريون يعتقدون وهذا أفتراض يحتاج لدليل ناهض من أن إنكي قد فرض النظام في العالم، فملأ الأنهار بالأسماك وعلّم البشر الزراعة.
لقد أمن العراقيون القدماء بثلاثة حقائق تربط الحياة بالماء والله والحضارة، هذه الحقائق ترتبك أيضا فيما بينها بالعلة والسبب والضرورة والنتيجة، الماء مكان الحياة ولا حياة بلا ماء (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، الماء يعني للعراقي القديم ليس فقط الشرب إنه مصدر البقاء الأول الذي ربط وجوده بما في الماء وما يعطيه الماء له، كصياد ومزارع وأيضا مؤمن بأن الله هو من رتب الواقع له وجعله إنسان أصله من ماء وجعل في الماء سر بقاءه، هذا الإيمان هو الذي يفسر عملية التطهر عند الإنسان العراقي عندما يريد أن يلاقي أو يناجي أو يتحدث مع الله، الطهور في الماء والحياة في الماء والنقاء في الماء لذا شكل الماء عنصر وجوده الأول، خلافا للشعوب الأخرى التي عاشت في بيئات مختلفة صحراوية أو جبلية وحتى تلك التي سكنت الأراضي الزراعية المنبسطة والغابات فقد منخ العراقي ولائه للمار، للعنصر الأول الذي شق اللخ منه الوجود (وكان عرشه على الماء....).
هذه الحقائق هي:.
• سر الخليقة.... الماء.
• سر البقاء..... الماء
• سر النماء.... الماء
بين البدء والبقاء والنماء أختصر الإنسان موضوع الحضارة وبادر للمضي في مشروع إصلاح الأرض بإرادة رب الوجود، فهو لم يكن مخيرا أن يكون عالة على هذه الأرض دون إعمار وإصلاح وبناء وتعارف، ولكي يبني لا بد له من أرض "أريدو" حقيقية يبني عليها أولا المعبد ليبدأ الطقوس التي تعني التوكل والأبتداء قبل أن يباشر مجد الحضارة، بدأت الحضارة العراقية القديمة مشوارها منذ أن خرج اول إنسان سومري من الهور نحو ( الراك) ليبني أول معبد له بعد أن فرض الدين عليه طقوسا للتعبد، ومنها بدأت أهمية الروك أو أوروك تنمو كأول مجتمع متحضر يعبد الله ويبني خارج الماء، فقد ولدت أولى المدائن العراقية البكر (أوروك) التاريخية التي تذكرها ملحمة جلجامش بكل عبارات الأهتمام والقداسة، وتم تعظيمها وإحاطتها بالأسوار العالية لتكون مدينة الرب الذي هو السماء ويعبد في الأرض، لتكون نموذج الريادة والقيادة لحضارة الإنسان في "أرضو" الأرض مما عرف لاحقا بـأنها "أريدو".
لقد خرج الأبكالو من الماء ليعيش على اليابسة أول مرة غذاءه السمك وحده، ثم شاهد الزرع من حوله لاحظ أن الحيوانات القريبة منه تأكل منه، الطيور كانت تصطاد السمك هو أصطاد الطيور وجمع الحيوانات التي من حوله وتعلم الزراعة، أنشأ أول مجتمع متشارك متعدد الوظائف والخصائص لكنه بقي يتعلم بالتجربة ويختار، لم يكن هناك خيارات كثيرة أمامه الماء السمط الطير الحيوان القصب والليل والنهار والقمر والشمس والنجوم، كان هذا عالم الأبكالو الأول الذي منه صنع وجودا أخر، العامل المشترك في كل عناصر الحضارة الأولى هو الماء الذي ظن أنه هو الحياة فقط وإليه نسب القدرة ومنحه التقديس اللازم، وبقي العراقي القديم على وفائه للماء وإخلاصه للأصل الذي منه خرج، لأن يؤمن أنه مهما بعد عن الماء فأنه يبعد عن البقاء يبعد عن النماء، فرسم الماء على الطين حكايات وأناشيد وتوسل بمعبوده أن يجعل منه سر وجوده، فأمره وعلمه ربه أن بمارس الطقوس التي لا بد منها لحفظ الحياة، أول تلك الطقوس أن يحمل الماء على جسده ويتوجه لله، منها عرف أن الطقوس والعبادات حتى تصل للمعبود لا بد أن تكون محاطة بالماء، بالطهور الذي يزيل عنه اليأس ويغسله من الشر.
وقد اكدت الديانة العراقية في جذورها الأولى وما سارت عليه التبدلات والتطورات اللاحقة على وجوب ان يكون الماء جاريا من الطبيعة، حتى يتم اداء طقوس التطهير به هنا ذهب العراقي القديم من الهور نحو مجرى النهر القريب لينصب معبده الأول، ومازال هذا الشرط متبعا ليومنا الحاضر عندنا أعتبر الماء الجاري في الشريعة الإسلامية افضل من الماء القليل او الراكد في طقوس التطهير، وقد ورد في الإنجيل ان يوحنا المعمدان يعمد الناس في نهر الأردن حينئذ خرج اليه اورشليم وكل اليهود وجميع الكرة المحيطة بالأردن واعتمد فيه معترفين بخطاياهم... واحتلت شعائر التطهير حيزا ً مهما في حياة سكان بلاد الرافدين كونها كانت تهدف بالدرجة الأساس في نظرهم الى تطهير المجتمع بصورة عامة من كل مظاهر الدنس والقذارة التي لحقت به من جراء الآثام والمعاصي المرتكبة بحق االله، وكانت الصلاة عند العراقيين القدماء لا تتم بدون التطهير هذا وإزالة الشر والآثام أولا، ومن ثم تحريره من العفاريت والارواح الشريرة التي تفسد العلاقة بين الإنسان ومعبوده.
إذا التطهير في الماء والخلاص من الشر والآثام بداية حتمية لأداء الصلوات ونراها واضحة بشكل جلي في الدين العراقي القديم، فقد كان الوضوء السومري طقسا ًعباديا وواجبا ليس للقيام بالصلاة فقط بل ممارسة اي مرسوم ديني، ويبدوا ان الوضوء كان يقتصر على غسل الأيدي فقط، ويصاحبه على الغالب كما هو اليوم كلمات أو تمتمات دينية مختلفة تشرح أو تدعو المعبود لقبولها بأحسن حال، ويبدوا ان البركة او الحوض الطقسي الذي كان يسمى "أبسو" عند السومريين والذي كان متصلا بقنوات المياه الجارية خارج المعبد ويذكرنا هذا الأجراء بأحواض التعميد في الديانتين المندائية والمسيحية، لم يقتصر طقس التطهير بالماء على الأشخاص فقط فلربما احتاجت المدن ايضا الى التطهير والغسل بالماء من اجل محو الذنوب والخطايا التي علقت بها حسب ما جاء في اسطورة إنكي وكانت سببا في غضب االله على ابناء المدينة، ومما وجد منها ما يعد وصفا لمدينة أور بانها المطهرة بالماء "ايتها المدينة التي تمتلك كل ما هو لائق وكنت المطهرة بالماء، يــا أور يامن هي مزار عسى ان ترتفعي الى عنان السماء"، لقد كانت مهمة التطهير في المعبد توكل لكاهن يدعى "ايشيب" أو الأشيب دلالة على الوقار والتقدير والخبرة مع العمر المتقدم.
واعتبرت الصلاة عند العراقيين القدماء في مقدمة الطقوس الدينية وأكثرها وجوبا وابرازها في ذلك الوقت لأنها الصلة المباشرة والوحيدة بين الله والإنسان، ولحد الان في الأديان السماوية نجدها تحتل نفس المرتبة والتقدير والأستمرارية الوجوبية، فقد عدتها الشريعة الإسلامية من اولى مظاهر الإيمان وهي عمود الدين وعنوان المؤمن، وذلك لأنها حلقة وصل بين الأرض والسماء او بين الإنسان و االله، وارتبطت بممارسات محددة يتقدمها التطهير التام كما قلنا والوضوء بغسل اليدين وجزء مهم من البدن ومن ثم الركوع والسجود ورفع اليدين الى االله والتمتمة ببعض الآيات والنصوص الدينية المعتمدة والأدعية بما فيها ما يتضمن الشكوى والتوسلات وعبارات الشكر والطاعة وطلب العفو والمغفرة، وبهذا نرى ان الصلاة طريقة الأتصال الفردي والجماعي بالله بقصد تحاشي غضبه وعقابه، ولكسب رضاه واستجلاب بركاته، وعبرت عن مظاهر الورع والخوف والخشوع ومحاولة تحقيق السلام الروحي للفرد وضمان استقرار مسيرة حياة المتعبد وتحقيق أمانيه وتطلعاته من حيث الرخاء والصحة وكثرة الأولاد وطول العمر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيرا على الأقدام.. جيش الاحتلال يجبر آلاف الفلسطينيين على ال


.. زعيم حزب فرنسا الأبية لوك ميلونشون: الرئيس لديه السلطة والوا




.. يورو 2024.. المنتخب الإنكليزي يجري حصة تدريبية من نوع خاص


.. مكتب نتنياهو: المقترح الذي وافق عليه رئيس الوزراء حظي بدعم ا




.. شروط جديدة لنتنياهو قبل المفاوضات حول الصفقة مع حماس