الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تبدل القيم..

محمد اسماعيل السراي

2022 / 12 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بقيت صفة الكرم لدى الفرد العراقي مستمكنة، ولكن لدى البعض منهم فقط، بيد ان الكثير من العراقيين وبالذات الاجيال الجديدة تتمسك بها ظاهريا فقط، فإظهار الكرم عادة ما يقال باللسان لا بالفعل، فكثير من العراقيين مثلا وخصوصا في السوق وقطاع الخدمات واصحاب الورش والمحال لما يؤدون لك خدمة ما كتصليح غرض لك في ورشة او ان تأكل في مطعم ما اوان تشتري شيئا من محل ما، يبادر صاحب العمل او الصانع الى ان يطلب منك ان تجعل الحساب او الاجور على عاتقه، ويتمنع ظاهرا عن اخذ الاجرة منك، فيقول لك باللهجة العامية مثلا( خليها على حسابي) ولكن هذا كرم لساني، فقط بالظاهر، وهو لايقصده فعلا فلو إنك صدقت فعلا بكلامه وشكرته وانصرفت دون ان تدفع له فربما لحق بك مهرولا وطالبك حانقا بالاجر لانه يعتقد انك سخرت منه بفعلتك هذه او استغبيته، وقد يصل الأمر إلى الشجار بينكما. ويبدو ان الاشقاء المصريون ايضا قد خبروا هذا النوع من الكرم الكاذب او الظاهري اللساني فقط، فهم يطلقون على هذا النوع من الكرم بلهجتهم العامية ب( عزومة المراكبية) وربما قصدوا بهذا حرفيا اصحاب المراكب النهرية او اصحاب الزوارق الذي يتكرمون على الاخرين باللسان والقول فقط.
يذكر ( السيد الوالد) حادثة طريفة في هذا الشأن، اي ادعاء الكرم او محاولة تقليد الكرماء ظاهريا فقط، بانهم لما كانوا يعيشون في الريف قبل بضع عقود من السنين، ان احد الاقارب هناك حاول ان يقلد الوجهاء والشيوخ بان يفتح له مضيفا لاستقبال اقاربه وابناء السلف فيه، ليقال عنه انه كريم ولينال المكانة العالية بين الاخرين، ولكنه لم يكن من الميسورين، والمضيف يتطلب توفير مواد الضيافة فيه باستمرار وبما يكفي حاجة الضيوف جميعهم مهما كان عددهم. فكان يقدم فيه للضيوف القهوة العربية والتبغ( تتن لف). ولذلك جعل افراد القبيلة مضيفه محطا للتزاور والتسامر فيما بينهم. لكن بعد مدة زمنية قصيرة شعر هذا القريب الكريم بفداحة فعلته وورطته فتكاليف الضيافة باهظة جدا بالنسبة له. فما كان منه الا ان يقوم في يوم ما بركل اواني تسخين القهوة (الدلال) بقدمه ورميها بعيدا وطرد الضيوف واغلاق المضيف.
وايضا هناك قيمة الشجاعة والفروسية مثلا التي اخذت تتبدل لدى افراد المجتمع، فسنجد ان كثيرا من العراقيين هم ابطال ومغاوير على مستوى اللسان والقول فقط لا الفعل (همبلجية). فتجدهم في مشاحناتهم الكلامية يتعاركون ويتصايحون، ولكن اغلب هذه المشاجرات ستكون مشاجرات لفظية فقط وربما انتظر المتشاجرَان ان يتدخل بعض الافراد الاخرين لفض النزاع بينهما لانهما لا يبتغيان حقيقة الاندفاع في الشجار الى حد الضرب والتشابك بالأجساد والاسلحة، ولكنهما يريدان ايضا حفظ ماء وجهيهما من خلال تدخل اشخاص اخرين ( يفزعون) ليكونوا حاجزا بشريا بينهما ، وحتى لا يظهرا بمظهر الجبانين او كمدعيين( فارغين) ليس الا. ولكن احيانا قد يصل العراك الى عراك حقيقي دامي لكن في النادر، فقليلا ما يجرأ البعض على التشاجر فعليا بالايدي او الاسلحة. فهكذا قيمة اي قيمة الشجاعة والفروسية هي قيمة موروثة من الماضي ولكنها فقدت زخمها في الزمن المعاصر او بالاحرى فقدت وظيفتها، فالان المجتمع محكوم بقوانين صارمة تردع المتشاجرين والمعتدين والذين يدعون الفروسية، لذلك يخاف المعتدي قوة وسطوة السلطة والقانون وكذلك يستانس المعتدى عليه بهذه القوة لتحصيل حقه. فلهذا اصبحت هذه القيمة، قيمة الشجاعة والفروسية، غير ذات جدوى كما كانت سابقا لدى الاجيال الماضية لما كان القانون اضعف والسلطة غير معنية بافراد الشعب ومشاكلهم فيما بينهم.
لذلك فان الافراد المثيري للمشاكل والاشرار الذين ماعادوا قادرين على افتعال العراكات والمشاجرات كالسابق بسبب قوة القانون وكذلك ظهور قوى اخرى انضوى تحتها الفرد العراقي خصوصا بعد عام ٢٠٠٣ لما ضعف القانون وضعفت السلطة بداية فترة سقوط النظام السابق فان غالبية الافراد انضووا تحت جناح قوى عديدة اولها احياء القيم العشائرية ودور العشيرة في حماية الافراد وكذلك الانضواء او الانخراط في الاحزاب السياسية والدينية والحركات الدينية المسلحة لذلك وإزاء هذه القوى والجماعات المختلفة التي تحمي الافراد لم يستطع الفرد العراقي الشرير او الشرس( الوكح) ان يمارس موهبة الشر واثارة العراك والشجار مع الاخرين فاخذ كثير من هولاء ينضمون الى حركات او قوى مسلحة دينية في الغالب لكي يستطيع هذا الفرد ايقاع الاذى واظهار شروره بصورة شرعية وتحت ظل الشرع والدين وبحماية جماعته او حركته المسلحة كالميلشيات الدينية المسلحة، ولذا ستجد هذا الفرد وقد اطلق لحيته وتختم بدرزينة خواتم( محابس) وربما لبس الزي الديني احيانا واظهر الوقار واخذ يتكلم بالافكار الدينية البسيطة قدر استطاعته ولكنه في الحقيقة وفي عمقه لايزال ذلك الفرد الشرير المتغطرس ( السرسري) وهو ملتزم بالدين ظاهرا فقط لكي يمارس من خلاله ومن خلال جماعته المسلحة مواهبه القديمة تحت ظل الشرع والدين دون ان يستطيع الاخرين ردعه بسبب قوة الجماعة التي ينتمي اليها وتبريره لافعاله الشريرة والوقحة بمسمى الشرع.
ما اريد ان اقوله من هذا الكلام المذكوراعلاه ان القيم تتبدل وتتغير مع تقدم الزمن واكتساب الناس لقيم جديدة اكثر عملية سببها الحضارة الحديثة التي تؤثر في قيم الانسان. فالقيم القديمة تضعف عند الانسان شيئا فشيئا وربما تندثر اخيرا ليجد المجتمع نفسه وقد تبنى قيما اخرى، ربما ليست احسن ولا اسوء من القيم الموروثة، ولكنها اكثر عملية ومناسبة للوضع الحضاري الجديد وللحقبة الزمنية المعاصرة. وهذه الظاهرة ،اي ظاهرة تبدل القيم، واضح انها سنة حياة، ولادخل للانسان فيها، فعامل التغيير اقوى منه. ولهذا تندثر القيم لدى كثير من الافراد العراقيين حالهم كحال الشعوب الاخرى، او قد لا تندثر نهائيا ولكنها تضعف كثيرا. وربما تبقى هذه القيم على مستوى الثقافة او اللسان ولكنها تفقد وظيفتها الفعلية كما بينا اعلاه. ولكن مع ذلك قد نجد هذه القيم لازالت مستوقدة بدرجة ما او متوافرة على مستوى الفعل عند افراد اخرين وخصوصا الافراد الذين لازالوا بحكم سنهم وتنشئتهم، اكثر التصاقا بالأجيال الاقدم، ولكن اكيد ان قيمة هذه الخصال لم تعد كما كانت لدى المجتمع الذي ظهرت فيه اولا، ولاحتى كما كانت في الاجيال السابقة، فهي آخذة بالضمور مع تقادم الزمن وتبدل الحضارة. ولكن يجب ان نعرف ان الزمن ليس وحده هو الكفيل بضمور قيم مجتمع ما بل ايضا بمدى تأثر ذلك المجتمع وتغلغل مظاهر الحضارة الحديثة او المغايرة فيه ومدى وطأة الظروف على افراده، من ظرف سياسي واقتصادي واجتماعي وحتى من جراء النكبات او الظروف الطارئة وغيرها. فإننا لو وجدنا مثلا مجتمع ما منعزل عن الظروف الخارجية والاحتكاك بالحضارة الحديثة او اي تاثير خارجي اخر فليس من المستبعد ان نجد ان هذا المجتمع بقي مجتمعا محافظا على قيمه القديمة مهما مر الزمن. كمثال على ذلك، الشعوب البدائية التي وجدها المستعمر او المستكشف الاوربي لما وصل الى الامريكتين مثلا او الشعوب التي وجدت في استراليا او جنوب شرق اسيا في القرون الماضية القليلة، او حتى شعوبنا العربية بعد سقوط الدولة العباسية وجثوم الاستعمارات الاجنبية، من الشعوب المتوحشة الاسيوية والشعوب الرجعية من تركمان ومغول واتراك وغيرهم، على صدرها فنجدها بسبب الجمود الحضاري والتخلف الاجتماعي لازالت تحافظ آنذاك على اغلب قيمها القديمة الموروثة. فحتما عوامل التغيير تحتاج الى اسباب عدة ليس الزمن هو العامل الوحيد اوالحاسم فيها بل الاحتكاك بحضارات متقدمة وما تفعله هذه الحضارات ايضا من فعل جبري في محاولة تغيير المجتمعات التي تستعمرها او تتفاعل معها ومدى تقبل المجتمع الجامد حضاريا وتاريخيا للتغيير الجديد. ولكن على الارجح ان هذه الشعوب الجامدة حضاريا ستستجيب عاجلا ام اجلا للتغيير وان كان ذلك التغير بصورة بطيئة بالنسبة لبعض المجتمعات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هدنة غزة وصفقة تبادل.. تعثر قد ينذر بانفجار| #غرفة_الأخبار


.. إيران والمنطقة.. الاختيار بين الاندماج أو العزلة| #غرفة_الأخ




.. نتنياهو: اجتياح رفح سيتم قريبا سواء تم التوصل لاتفاق أم لا


.. بلينكن يعلن موعد جاهزية -الرصيف العائم- في غزة




.. بن غفير: نتنياهو وعدني بأن إسرائيل ستدخل رفح وأن الحرب لن تن