الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نيتشه والعمل في المجتمع الحديث: هذه -النقيصة- في عصرنا الحالي (الجزء التاسع)

أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)

2022 / 12 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ليس لأن نيتشه قام بنقد لاذع للاشتراكية نجده انغمس في مدح الأيديولوجيا التي تعارضها تقليديا، أي الليبرالية. يمكن تشبيه نقده للاشتراكية، دون فحص قبلي لجانبي نقده للعمل، بإعلان الحرب ضد الطبقة العاملة. إلا أننا رأينا كيف ادان أيضا الطبقة البرجوازية، وبالمناسبة الأيديولوجية الليبرالية التي تحملها. يشدد ياسبرز،، من جانب آخر،، على أنه انتقد الطبقتين، وبالتالي الأيديولوجيتين المرتبطتين بهما، بناءً على القواسم المشتركة بينهما: تقليل المعاناة وتكثير الرفاهية المادية.
رأينا سابقا أن عدم قدرة البرجوازيين على العيش بشكل متواضع هو الذي يدعم ظهور الاشتراكية. وهذا العجز أيضا هو الذي يجعلهم، وفقا لنيتشه، مثل الاشتراكيين.
يقول نيتشه: "إن العلاج الوحيد ضد الاشتراكية [،هو] ان تعيشوا بتواضع وصبر، وأن تمنعوا، في حدود إمكانياتكم، أي استعراض للرفاهية، وأن تساعدوا الدولة عندما تريد أن تفرض ضرائب باهظة على ما هو رفاهية وفائض. هل أنتم لا ترغبون في هذه الطريقة؟ لذا، أيها البرجوازيون الأثرياء الذين تدعون أنفسكم "ليبراليين"، اعترفوا بأنفسكم بأن عقليتكم هي التي تجدونها مريعة ومهددة للغاية بين الاشتراكيين، لكنكم، في قرارات أنفسكم، تمنحونها مكانة معتبرة، كما لو انها ليست نفس الشيء. إذا لم يكن لديكم، كما أنتم، ثروتكم واهتمامكم بالحفاظ عليها، فإن هذه العقلية ستجعلكم مثل الاشتراكيين: بينكم وبينهم، الحيازة وحدها هي التي تصنع الفرق (نيتشه 2014، 490).
وهكذا، يكون لدى الليبراليين البرجوازيين نفس عقلية حفظ - وليس تأكيد الحياة - التي يتمتع بها الاشتراكيون، مع اختلاف بسيط يميزهم. إذا كان هذا الاختلاف هو أساس التحليل التاريخي لماركس، فإنه لا يهم نيتشه الذي أجرى في النهاية نقدا لعقليات وأعراف هاتين الطبقتين، اللتين تفتقران إلى أخلاق النبلاء ونبل أخلاقهم.
ذكرنا سابقا عدم جدوى الحماسة في العمل والنفقات التي استنكرها نيتشه. في الشذرة المقدمة قبل قليل، يتساءل عن فكرة كون الحيازة مرادفة لـ "الرفاه الحقيقي" ( المرجع نفسه، 490). لأنه وفقا له، إذا كان هذا الازدهار "رفاهية حقيقية"، فعندئذ "سيكون أقل خارجية وسيثير قدرا أقل من الحسد، سيكون فيه مزيد من الإحسان، ومزيد من الاهتمام بالعدالة، وسيكون أكثر فائدة" ( المرجع نفسه ).
لذلك يقترح نيتشه أن الرفاهية الحقيقية تولد الإرادة لنشرها. أي سلوك أناني وحسد لا يمكن إلا أن يكون علامة على الغياب والتعبير عن النقص .
إن افتقار البرجوازية الناشئة إلى الفكر والقيم الليبرالية، الذي يفسره نيتشه على أنه نقص في الفكر المثقف، يجعل "الثروة خطرا عاما" (نيتشه، 2014، 492). وبعد التأكيد على "الأصل البائس" للثروة الذي يحاول أصحابه إخفاءه وراء "قناع الثقافة والفن"، تترتب عنه اضطرابات اجتماعية، لا سيما من حيث أنه يثير الغيرة "لدى الأكثر فقرا والأميين" (المرجع نفسه).
يقودنا ما يسمى بالموقف الليبرالي للبورجوازية إلى الاعتقاد بأن "المال فقط هو المهم" بينما يعتقد نيتشه، على العكس من ذلك، أنه "إذا كان المال مهما بنسبة قليلة، فإن العقل أكثر أهمية" ( المرجع نفسه، 493). وإذا قاد الأخلاقيون الفرنسيون العظماء - مونتيني ولاروشفوكو ولابرويير، الذين أعجب بهم نيتشه حتى قبل نشر "مولد التراجيديا" (دونيلان 1979، 303)، نقد المجتمع الحديث، ففي رأينا أنه كان الأخلاقي الذي أفسد أعراف المجتمع البرجوازي.
بهذا المعنى، قد نتساءل عما إذا كان فيبلن قد قرأ الفيلسوف الألماني أم لا قبل أن يحرر كتاب "نظرية الطبقة المرفهة"*، طالما أن النغمات النقدية بين المفكرين متشابهة جدا. وهكذا يسخر نيتشه من الأقنعة والاحتفالية التي يزين بها الليبراليون أنفسهم ببيان طويل:
"شققكم، ملابسكم، عرباتكم، متاجركم، احتياجاتكم من طعام المائدة، حماسكم الصاخب للحفل الموسيقي وللأوبرا ، وأخيراً نسائكم، المشكلة والمنمطة، ولكن من معدن خسيس، مذهبة ، ولكن دون ترديد صوت الذهب، اللواتي اخترتهن كقطع عرض، يقدمن أنفسهن كقطع عرض.
(نيتشه 2014، 491).
تُفسَّر معارضته لليبرالية أيضا برفضه للنفعية، وهي أخلاق مرتبطة بها ارتباطا وثيقا، لا سيما في شكلها البنثامي (بورشر 2010، 370). لنلاحظ أن هذا يسمح لنا أيضا بفهم رفضه للاشتراكية، بحيث ان أعمال ماركس، المؤسسة على كتابات سميث وريكاردو، وريثة هذه  الأخلاق الإنجليزية.
لقد عتقد نيتشه بالفعل أن "هناك مشاكل أسمى من مشاكل اللذة والألم والشفقة. وأي فلسفة تختزل إلى ذلك وحده هي سذاجة" (نيتشه 2008 ج، 657).
اعاب مؤلف "العلم المرح" على الليبرالية، كما على الحداثة الديمقراطية، ميلها إلى تسوية القيم. يلوم الليبراليين على عدم تمييزهم الأفراح النبيلة عن تلك المبتذلة، بنفس الطريقة التي لا يميزون بها الثروة المادية عن الرفاهية  الحقيقية، على غرار كل المناهضين للحداثة (كمبنيون، 2016) . لم ينتقد نيتشه المبادئ والقيم الليبرالية فحسب، بل هاجم أيضا عواقبها على تحول الأعراف والتصورات.
باختصار، بموازاة مع النقد المزدوج الموجه للعمل كقيمة وتحت الأشكال التي يتخذها في العصر الحديث، قام نيتشه بنقد الطبقتين، وبالتالي، الأيديولوجيتين اللتين ظهرتا حينذاك: البرجوازية والبروليتاريا. يلخص ياسبرز بشكل مثالي الفكر النقدي لنيتشه حول هذا الموضوع: "لم يعد الناس يعرفون كيف يميزون المرتبة. لم يعد عامة الناس يؤمنون، كما في السابق، بالقديسين وأبطال الأخلاق، ولم يعد البرجوازيون يؤمنون، كما هي الحال من قبل، بنوع أعلى من الطبقة المهيمنة "(ياسبرز 1986، 266).
وعلى الرغم من أن مؤلف "هكذا تكلم زرادشت" غالبا ما يستحضر فكرة النبالة والأرستقراطية، لكنه لا يدعو إلى ما يمكن أن يكون عودة إلى النظام القديم: إنه يفكر صراحة في تداول النخب (نيتشه 2014، 284). غالبا ما جعل نابليون أحد أعظم رجال التاريخ. لذلك يظهر كمفكر غير محافظ فيما يتعلق بتحليله لمكانة العمل في المجتمع والأيديولوجيات التي تبني الحداثة. هذا الرفض المزدوج لليبرالية والاشتراكية، كأيديولوجيتين، يجد مفتاح فهمه، ضمن هذه الدراسة، في حقيقة أن نيتشه يتعامل بشكل أساسي مع الأعراف التي تولدها الرأسمالية، كنظام اقتصادي. الآن، يتعامل مع هذه العادات، التي ورثها الليبراليون والاشتراكيون بشكل مشترك، كخبير أخلاقي. كان ذلك ما توقعه بودان، دون تقديم حجة مفصلة ومقنعة، في كتيبه غير المعروف عن مكانة نيتشه في تاريخ المذاهب الاقتصادية .
ختاما، نود أن نؤكد على المساهمتين المحتملتين لهذه المحاولة البحثية. أولاً، من خلال الاهتمام بمسألة العمل عند نيتشه، سمح لنا ذلك بإضاءة وإبراز الانتقادين اللذين انجزا، واللذين لم يتم بشكل عام التفكير فيهما مجتمعين.
ومع ذلك، فمن خلال معالجة هذا النقص، تمكنا كذلك من توضيح فكره السياسي والاجتماعي وإدراك ان ما يبدو بداهة كتناقض - نقد الاشتراكية والليبرالية - ليس كذلك. إن دراسة نقد ظروف العمل والأشكال التي يتخذها العمل والعمل كقيمة عند نيتشه جعل من الممكن استكمال الدراسات المكرسة لرفضه الشديد للحداثة الديمقراطية وأيديولوجياتها. نعتقد أيضا أنه فقط من خلال الأخذ في الاعتبار مسألة العمل هذه - كما يتضح من فقرة "مدينتي الفاضلة"، المأخوذة من "إنساني مفرط في إنسانيته" - يمكننا أن نفهم من زاوية جديدة رسم المشروع الثقافي الذي طوره نيتشه.
ثانيًا ، يمكننا أن نعتبر - وبحق - أن الفلسفة الاقتصادية "تسكن في النظرية الاقتصادية"، وأنها "مخبأة فيها، ومدفونة، ومغطاة بالنظرية" (مارديلا 2013، 8). لكننا نرى، بمساعدة هذه الدراسة، أن الفلسفة الاقتصادية موجودة أيضا في الفلسفة نفسها. وهكذا، بالطريقة نفسها التي لا "يشرح بها المنظرون الاقتصاديون" الفلسفة الاقتصادية أحيانا ( المرجع نفسه.)، ولا يُفصح عنها بالضرورة من قبل الفلاسفة السياسيين. سيشك البعض بلا شك في أن نيتشه أنجز عملا في الفلسفة الاقتصادية، بقدر ما يكون المعنى المعطى لهذا التعبير ملتبسا في بعض الأحيان. لكن إذا تم اعتبار الافتراض التالي مقبولاً، فإن نيتشه له مكان في الفلسفة الاقتصادية وبالمصادفة في تاريخ الفكر الاقتصادي.
يقول مارديلا: "لتحديد موقع الفلسفة الاقتصادية للمؤلف في نص أو نظرية، من الضروري ممارسة الفلسفة الاقتصادية بطريقة صريحة، هناك شرط، أي أنه من الضروري أن تكون في علاقة مع كبار الكتاب في الفكر الاقتصادي والفلسفي، أولئك الذين تم تعميق تفكيرهم في المفاهيم الأساسية لهذا المبحث: العمل، الاستهلاك، الإنتاج، الثروة ، الهبة، التبادل، القيمة، المال ، السعر، إلخ.،".
لقد أتاحت مقالتنا بالفعل وضع فكر نيتشه، فيلسوف نهاية القرن التاسع عشر ، مع فكر اقتصاديي القرن العشرين في منظوره الصحيح، مثل فيبلن أو كينز أو جالبريث.
قد نعتقد أن إدخال المؤلفين الذين ليس لديهم بالضرورة تأثيرات متبادلة في الحوار أمر عقيم. على العكس من ذلك، نعتقد أن هذه المقارنات من المرجح أن توضح فهم العمل. يمكن لنا أن يعتقد أنه من الخطإ منهجيا دراسة فكرة موجودة في العديد من المؤلفين الذين لم يسبق لهم أبدا أن تحاوروا. لكننا نعتقد أن هذا سيكون خطأً في الأفهوم ذاته للفكرة والفكر. الأفكار والمعرفة ليست ملكا لأي شخص أو مبدعع ، بل لاستخدام كلمات فيلبن، هي مخزون جماعي متراكم ومنتشر داخل مجتمعاتنا.
________________________
(*) في عام 1899، لاحظ الاقتصادي ثورستين فيبلين أن ملاعق الفضة وأنواع محددة من الملابس تعد علامات على المكانة الاجتماعية للنخبة.
وفي نظرية فيبلين الشهيرة التي تعرف باسم "نظرية الطبقة المرفهة"، صاغ مؤلفها عبارة "الاستهلاك الملحوظ"، ليشير بها إلى الأشياء المادية التي يعتد بها كمؤشرات على المكانة أو الموقع الاجتماعي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجيش الروسي يستهدف قطارا في -دونيتسك- ينقل أسلحة غربية


.. جامعة نورث إيسترن في بوسطن الأمريكية تغلق أبوابها ونائب رئيس




.. قبالة مقر البرلمان.. الشرطة الألمانية تفض بالقوة مخيما للمتض


.. مسؤولة إسرائيلية تصف أغلب شهداء غزة بالإرهابيين




.. قادة الجناح السياسي في حماس يميلون للتسويات لضمان بقائهم في