الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسفة الوقت في حياتنا

علي فضيل العربي

2022 / 12 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قالت العرب قديما : الوقت كالسيف ، إن لم تقطعه قطعك . و هو تشبيه ، يبدو لي ، يعبّر عن مدى أهمة الوقت و قيمته في حياة الإنسان . و لو قمنا بعمليّة حسابيّة عن عدد الثواني و الدقائق و الساعات و الأشهر و السنوات التي يعيشها الإنسان ، لخرجنا برقم ينفي و يعاكس كل ما نعتقده من تقديرات لعمر الإنسان الحقيقي .
فإذا كان عمر المرء قبل إهالة التراب على وجهه ، نصف قرن ، فلا بد من تقسيمها – على الأقل – إلى جزأين أو زمنين . زمن اليقظة و زمن النوم . هل يمكن حساب الزمن الذي يستغرقه الإنسان نائما ، بما أن النوم هو موت أصغر - زمنا حياتيا ، و هو زمن يكون في المرء غائبا عن عالم الإدراك و الشهادة و الوعي . قال تعالى في شأن أهل الكهف " كم لبثتم ؟ قالوا ، لبثنا يوما أو بعض يوم " ( الكهف / 19 ) . لكنّ الحقيقة أنّهم ناموا ثلاثة قرون و تسع سنوات . و هذا يعني أنّ النائم منفصل انفصالا كليّا عن الحياة و اليقظة و العقل و الشعور .
إنّ الإنسان ، لا يعيش سوى نصف عمره البيولوجي .أو ربّما أقل مه ، إذا شخصا نؤوما ، أو أكثر منه قليلا إذا كان شخصا قليل النوم ، نشيط الفكر و الحركة . و هذه حقيقة ، نحن غافلون عنها في خضم سيرورة الزمن .
إذن ، الوقت سيف على رقابنا . وحب علينا الحرص عليه ، و الاحتراس من نفاده في عوالم الفراغ .
إن بناء الحضارات و رقيّها و اتّساعها ، قائم على عنصر الوقت . و هذا ما أدركه أسلافنا ، و استغلّه الغربيون في هذا العصر . فإذا كانت بعض المجتمعات المتخلّفة ، مازالت تقدر المسافات بين الأماكن بالمتر و الكيلومتر و الميل ، فإن المجتمعات المتقدّمة ، قد انتقلت – منذ زمن بعيد – إلى التقدير الزمني ، فصارت الأبعاد تُحسب بمقياس الزمن و حجم الوقت . أي بمقدارالسرعة و البطء ، في الحركة و الفعل ،و الإنجاز .
كم من المرات ، عانيت ، كما عانى غيري ، من سرقة وقتي ، و إهداره دون إرادتي ، و دون رضا مني . لعلّها أكثر من أصابع اليدين . كنت أعشق السفر على متن القطار ، لأنّه – حسب قناعتي – يمنحني فرصا كثيرة ، لا أجدها في ركوب السيارة أو الحافلة ، لكنّني أستمتع بها في القطار ، و منها ، راحة نفسيّة و متعة بصريّة ، حين يعبر بي القطار الأنفاق و الفجاج و مناظر الطبيعة الخلاّبة . لكن ، كان هناك أمر يؤرقني دوما ، فأفكّر في هجر السفر بالقطار . مرات عديدة كنت في محطة القطار ، في بلدي السائر نحو النمو - بمنطق رجال السياسة - أنتظر قدوم القطار ، و أنا حريص على عدم تبديد وقتي الثمين في الشوارع المزدحمة بفوضى الناس و المركبات الصغيرة و الكبيرة ، و في محطات الحافلات و القطارات . فإذا بي أفاجأ بأنّ القطار – الذي أنتظره – قد يتأخر مدة من الزمن ، بأسباب كذا و كذا ، و هي أسباب غير مقنعة ، لأنها غير منطقيّة .
و الأمر أيضا ، يحدث في مطاراتنا . تتأخر الطائرة عن الإقلاع ، بربع ساعة أو نصف ساعة ، و هذا يعني تأخر في الوصول إلى الوجهة الداخليّة أو الخارجيّة ، و الحجج ، غير المقنعة ، نفسها . أسباب تقنيّة أو لوجستية ، او مناخيّة أو غيرها من الأسباب الواهية . و لا يجد المسافر إلا كلمات اعتذار من المكلّفين بالإعلام في المطارات .
معضلة الوقت ، عندنا - نحن العرب ، و معظم دول الجنوب - و كيفيّة التحكّم فيه و تسييره و استغلاله ، معضلة حقيقية ، شديدة التعقيد . رغم علمنا من الكتاب و السنّة و سيرة الأسلاف ، أنّ الوقت ركن أساسيّ و حاسم في بناء الحضارة .
فقد علّمنا القرآن الكريم أنّ ترتيب شؤون حياتنا اليوميّة مرتبطة بالوقت . فأداء الفرائض و الأركان قائمة على وجوب مراعاة الوقت .
" إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " ( النساء / 103 ) ، و كذلك أخذ الزكاة مرتبطة بدوران الحول ( السنة ) ، و كذلك الصوم فهو مرتبط بالزمن " شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن " ( البقرة / 185 ) ، و أيضا مناسك الحج ، فإنّها تؤدى في أوقات معلومة ، و هو شهر ذي الحجة من كل سنة . كما أقسم الله تعالى بالوقت ، " و الضحى * و الليل إذا سجى ." ( الضحى / 1 ، 2 ) و " الفجر* و ليال عشر .." ( الفجر / 1 ، 2 ) و " العصر * إنّ الإنسان لفي خسر .. " ( العصر / 1، 2 ) .
و قد نبّهنا الرسول صلى الله عليه و سلم إلى أهميّة الوقت في حياتنا الدنيويّة ، و ما ينتج عنه من فوز أو خسران في الآخرة . فالمرء سيُسأل عن شبابه و عمره فيما أفناه و أبلاه ، لأنّه مكلّف و مسؤول عن الوقت الذي مُنِح إيّاه ، مادام عاقلا ، و راشدا و مميّزا و حرّ الفكر و الجوارح .
حياة ابن آدم ، محصورة بين أزمنة ثلاثة ؛ زمانان أرضيّان ؛ هما زمن الميلاد و زمن الموت ، و زمن أخرويّ ، غير معلوم البداية و النهاية - عند الإنسان - هو زمن البعث و النشور .
إنّنا نتعامل مع الزمن ( الوقت ) ، بأسلوب ، فيه الكثير من السذاجة و التواكل و الإهمال . و هذا صديقي ، قد حكى لي حادثة جرت له بألمانيا ، حين كان طالبا في إحدى معاهدها ، و كان حديث عهد بالمجتمع الألماني ، و اضطرته ظروفه الماديّة و الاجتماعيّة إلى العمل في وظيفة ما . فقد وبّخه صاحب العمل ، و هدّده بالطرد من الوظيفة ، لأنّه تأخّر دقيقة واحدة في المرّة الأولى ، و خمس دقائق في المرّة الثانيّة و عشر دقائق في المرة الثالثة . قال له صاحب العمل - و هو كهل ألمانيّ قحّ يسابق الزمن من أجل صون شرف ألمانيا و ازدهارها - أنّ الدقائق الضائعة هي بمثابة القطرات التي تفضي إلى الطوفان عند غزارتها . فتضييع الدقائق – حسبه – مقدّمة نحو تضييع الساعات . لأن تضييع القليل سيؤدي لا محالة إلى تضييع القليل ، و أنّ الطوفان يبدأ بقطرة ماء . و هذا ما سيفلس معمله ، و يعيّب أرباحه ، فضلا عن تآكل رأس ماله .
و لم يكن صديقي ، كما اعترف لي ، يعلم أنّ حساب الدقيقة في ألمانيا - و ربّما أوربا و اليابان و الولايات المتحدة الأمريكية و كندا – يضاهي حساب يوم أو بعض يوم في بلاده . فإنّ العامل في بلادنا – نحن أهل الجنوب العاشقين للتأخر و المتيّمين بالعطل المرضيّة و غير المرضيّة – يعامل الوقت حسب هواه . فسيّان عنده التأخر أو التقدّم . فقد أوتي من العبقريّة و الذكاء و الفطنة الشيء الكثير . عبقريّ و ذكيّ و فطن في تطبق نظريّة في الوقت على غير معناها الحقيقي و مقتضياتها ( في التأني السلامة و في العجلة الندامة ) .
فقد تحوّل التأني ، الذي يعني الرزانة و الحكمة في إدارة الوقت ، إلى إهمال و تأخّر مشينين و تسيّب . فبات الموظف ، عندنا ، لا يلتفت إلى قيمة الوقت ، و لا يهمّه حجم استغراقه في إنجاز مشاريعه الفكريّة و الاقتصاديّة . فإذا بنا نجد أنّ مشروعا ما تحدّد مدّة إنجازه في الدراسة التقنيّة بسنة أو سنتين أو أكثر – مثلا – و لكنّه على أرض الواقع يمتدّ على سنوات إضافيّة أخرى . و قد رأيت ، بعض المشاريع الاقتصاديّة و الاجتماعيّة الهامة ، تُدشَن بعد خمس أو عشر سنوات من عمر إنجازها االمرسوم على لوح البيانات .
هذه أمثلة ، رصدتها من واقعنا المعيش ..
إنّ الوقت في حياة الإنسان رأسمال مال لا يعوّض ، كما قيل في الحكمة العربيّة : " الوقت من ذهب ، فإن فاتك ذهب " . " لا تؤجل عمل اليوم للغد " فلسفة الوقت في حياتنا المعيشيّة ، خاضعة – للأسف – لمنطق التعويض و التأجيل . فمهما حاولنا إقناع عقولنا بهذا المنطق ، فإنّنا لن نفلح .
لنأخذ مثالا لذلك ، فلو أخذت مني حبّة برتقال ، ثم قيل لي : خذ أخرى بدلا منها و تعويضا عن فقدانك للأولى . هل ستكون مثلها في المذاق و النضج ؟ كلا ، لا يمكن ذلك ، و إن تشابهتا في اللون و الحجم و النوع . كذلك الوقت ، في حياتنا ، لا يمكن الادّعاء بأنّنا نعوّض الوقت الضائع منّا . لأن سلسة التدفق الزمني لا تعرف الفراغ ، و لا ترتدّ إلى الوراء ، و لا يوجد فراغ بين الماضي و ما نطلق عليه زمن المستقبل . لأن فلسفة الحاضر ، هي تلك نقطة الاتّصال بين ما مضى ، و ما هو آت ..
مازلنا ، للأسف الشديد – لم ندرك قيمة الوقت في حياتنا ، و لم نعِ حقيقته و فلسفته و حكمته . نحن نتعامل معه الوقت بسذاجة . نحسِب طول المسافات أو قصرها ، و نهمل حساب حجم الوقت في قطعها . نلتحق بوظائفنا متأخرين عن الموعد المحدّد ، و نغادرها قبل نفاد الوقت المحدّد . نقضي مصالحنا الشخصيّة على حساب المصالح العامة . ننام أكثر من المطلوب . نجلس في المقاهي لساعات . فإذا مررت بمقهى ، اعتقدت أنّ روادها – الذين تركوا مكاتب العمل - في عطلة . يقول لك أحدهم ، انتظرني ، سأعود بعد خمس دقائق ، فيعود بعد ساعة أو أكثر ، و يتواعد معك أحدهم على اللقاء على الساعة الثامنة صباحا ، فيأتي بعد الظهر ، أو لا يأتي مطلقا . و عندما تسير بسيارتك في مدننا الكبرى ، تجد نفسك محاصرا من كي جانب بجحافل الزحام المروري ، و تضيع منك الدقائق و الساعات . و عندما تقصد مصلحة إداريّة ، تصدمتك سلوكات بيرقراطيّة لا طائل منها . و في أغلب الأحيان تجد نفسك ، أيضا ، منغرسا في طابور ، من أجل ابتياع ما يلزمك من أساسيات غذائيّة .
و ذات مرّة ، سألت صديقا لي هذا السؤال :
- هل فعلا ، نحن نعيش حياتنا حسب عمرنا البيولوجي الممتد من لحظة الميلاد إلى أجل الممات ؟
- قال متعجّبا : و هل عندك شكّ في ذلك ؟
- قلت ، بلى . نحن نعيش أقل من عمرنا البيولوجي .
- كيف ذلك ؟
- سأحسبِها لك كالآتي : إذا كان عمرنا البيولوجي ثمانين سنة ، فنصفها ( أي أربعون سنة ) نقضيها في النوم . و تبقى لنا أربعين سنة ، و هي مجزأة بين الحزن و الفرح و الانتظار في المحطات و الطوابير و ربّما الاعتقال أو الإقامة الجبريّة . فلو قدّرنا مدّة حياتنا الحقيقيّة ، فلن تتعدى بضع سنوات .
- هذه ، فلسفة جديدة ، لم أعهدها ، يا صديقي .
هذا مثال ، أوردته ، لبيان ماهيّة الوقت و قيمته في حياتنا . و ليدرك المرء العاقل ، أنّنا في مجتمعاتنا الجنوبيّة و الشرقيّة ، المتخلّفة ، و السائرة نحو النمو ، نعاني من معضلة الوقت . و أعود ، و أكرّر ، إنّ الحضارة لن تقوم لها قائمة في أرضنا ، ما دمنا ننفق الوقت في توافه الأمور ، و نهدره دون وازع عقلي ، و نعامله معاملة الذكر للأنثى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رغم المعارضة والانتقادات.. لأول مرة لندن ترحّل طالب لجوء إلى


.. مفاوضات اللحظات الأخيرة بين إسرائيل وحماس.. الضغوط تتزايد عل




.. استقبال لاجئي قطاع غزة في أميركا.. من هم المستفيدون؟


.. أميركا.. الجامعات تبدأ التفاوض مع المحتجين المؤيدين للفلسطين




.. هيرتسي هاليفي: قواتنا تجهز لهجوم في الجبهة الشمالية