الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أرشيف الماضي وقاموس المعاني : قراءة في المقاصد والحدود

ثامر عباس

2022 / 12 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


(( إن معرفة الماضي دائما"نسبية ، إذ تستجيب لمتطلبات الوضع القائم ، وأنها دائما"عملية ، إذ تجيب عن أسئلة حالية – د .عبد الله العروي ))(1)


للوهلة الأولى تبدو عبارة (الماضي) بريئة من المقاصد الرمزية ومحايدة عن التضمينات القيمية التي اعتادت الجماعات البشرية على الاعتقاد بها والاحتكام إليها والشروع منها ، حين تلوح في أفق حياتها عواصف الأزمات السياسية والتوترات الدينية والانقسامات الاجتماعية والاحتقانات النفسية والانعطافات التاريخية ، باستثناء كونها تشير إلى صيغة زمنية مضى أوانها وانقضى عهدها وتصرّم أمدها ، وبالتالي فهي عبارة تقع خارج السياقات الاجتماعية والحضارية والتاريخية الحديثة والمعاصرة . بيد أن الحقيقة هي إننا لو أنعمنا النظر بتلك الكلمة (الماضي) سنجدها مثخنة بالدلالات ومكتنزة بالمعاني ومشحونة بالإيحاءات المبثوثة في كل زاوية من زوايا الوعي ، والقارة في كل ركن من أركان الواقع . فهي ، والحالة هذه ، من العبارات التي تضمر وتخفي أكثر مما تظهر وتفصح ، وتكتم وتستر أكثر مما تعلن وتبيح . لا بل يمكن القول أنها عبارة ملتبسة المعنى وإشكالية الدلالة وغامضة الإيحاءات بامتياز ، خصوصا"في المجتمعات العتيقة /القديمة التي تمتاز مكوناتها بتعدد الأديان / المذاهب ، وتنوع الأعراق / الأقوام ، وتباين القبائل / العشائر وتغاير اللغات / اللهجات . ولذلك فقد شبّه المؤرخ الفرنسي (فرانسوا هارتوغ) دلالة مفهوم الماضي بمثابة خزان (( من التصورات الخيالية للأفعال الممكنة ، حيث ننطلق من أساطير الأصل إلى ذكريات حديثة العهد ، من انفصال الأرض عن السماء إلى تثبيت حدود الجماعة ، من الإلهي إلى الإنساني ، من المجرد إلى العياني ، من العام إلى الفردي ))((2) .
ومن هذا المنطلق فليس من الغريب أو الصدفة أن تكون لصيغة زمن (الماضي) تلك العلاقة الحميمة بكل أنماط الظواهر والموجودات ، التي تتبلور صيرورتها ويتمخض وجودها بناء على ممارسات الإنسان وطبيعة علاقاته ، سواء"مع منتجات الطبيعة أو معطيات المجتمع أو تمظهرات الفكر . فالصيغة الزمانية – كما نظيرتها المكانية - وان بدت خارجة عن أواليات وديناميات الفضاء الاجتماعي ومستقلة عن نوازع عناصره ودوافع مكوناته ، إلاّ إن ضرورتها الانطولوجية وأهميتها السوسيولوجية تتأتى من كونها كانت – وستبقى - مقترنة بسيرورات الإنسان في خضم عمليات التاريخ إنتاجا"ووعيا"، فعلا"وانفعالا"، تأثيرا"وتأثرا"، هذا بالإضافة عما ينجم عن كل هذه الفعاليات والممارسات من أنشطة مادية مختلفة وفعاليات رمزية متنوعة . ولإيضاح طبيعة هذه العلاقات العضوية والروابط الشبكية التي تشدّ الإنسان إلى الماضي وتملي عليه التصورات والخيرات ، فقد أشارت الفيلسوفة والأكاديمية (ميريام ريفولت دالون) إلى انه (( لم يعد التاريخ موضع تفكّر فحسب ، بل يجب صنعه . انه السيرورة التي يتحقق فيها الإنسان ، ذلك أن التاريخ هو تاريخ الإنسان الذي هو سيّد ذاته ))(3) .
ولكي ندرك مقدار أهمية صيغة (الماضي) بالنسبة لفاعلية الإنسان في سيرورة التاريخ ، وما قد يترتب على هذه السيرورة من بنى اجتماعية وأنساق ثقافية أنماط حضارية وتواضعات سلوكية ، كان لابد لنا من معاينة سريعة وموجز لمختلف ضروب تلك المعطيات والتمظهرات التي تتمخض عن / وتترتب على علاقة الزمن الماضي بتلك الأنشطة والفعاليات التي يمارسها الفاعل الاجتماعي ، سواء على صعيد سرديات وعيه للواقع الموضوعي (أسطورة ، دين ، ذاكرة ، متخيل) ، أو على صعيد منتجات علاقته بذلك الواقع (تاريخ ، تراث ، فولكلور ، ثقافة ، لغة) . وبالتالي يتسنى لنا معرفة كيف إن التلاعب بمواريث الماضي واستثمار رصيده الاعتباري وتوظيف رمزيته السيكولوجية ، من قبل الجماعات المهمشة والسلطات السائدة على حدّ سواء ، كفيل بتحويله من مثابة مركزية تستقطب شتات المكونات السوسيولوجية وقاسم مشترك يشدّ أزرها وعاصم يدرأ عنها الانفراط ، إلى عامل من أخطر العوامل التي تتسبب بتمزيق لحمتها الوطنية وتفكيك نسيجها الاجتماعي وتدمير مدماكها الثقافي وتخريب معمارها الأخلاقي ، كما حدث في العراق بعد الغزو الأمريكي وغيره المجتمعات التي تعرضت لذات الظروف القاسية والأوضاع العنيفة .

الإحالات والملاحظات

1. الدكتور عبد الله العروي ؛ مفهوم التاريخ ، الجزء الأول ، الألفاظ والمذاهب ، ( بيروت ، المركز الثقافي العربي ، 1992 ) ، ص38 .
2. فرانسوا هارتوغ ؛ تدابير التاريخانية : الحاضرية وتجارب الزمان ، ترجمة الدكتور بدر الدين عرودكي ، ( بيروت ، المنظمة العربية للترجمة ، 2010 ) ، ص68 .
3. ميريام ريفولت دالون ؛ سلطان البدايات : بحث في السلطة ، ترجمة الدكتور سايد مطر ، ( بيروت ، المنظمة العربية للترجمة ، 2012 ) ، ص147 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السفينة -بيليم- حاملة الشعلة الأولمبية تقترب من شواطئ مرسيلي


.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية ردا على احتمال إرسال -جنود م




.. السيارات الكهربائية : حرب تجارية بين الصين و أوروبا.. لكن هل


.. ماذا رشح عن اجتماع رئيسة المفوضية الأوروبية مع الرئيسين الصي




.. جاءه الرد سريعًا.. شاهد رجلا يصوب مسدسه تجاه قس داخل كنيسة و