الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الآلهة القديمة من منظار علم الانثروبولوجيا وعلم نفس الأعماق

وليد مهدي

2022 / 12 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أتساءل دائما , ما سر الشبه بين الوثنية السومرية والاغريقية ؟
لكنني وجدت المفكر والباحث في الانثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس يطرح السؤال بصورة أوسع من مدى تساؤلي السابق , اذ يقول :
لماذا تبدو الأساطير من الثقافات المختلفة من جميع أرجاء العالم متشابهة جدا، علما بأن الأساطير يمكن أن تحتوي على أي شيء، لا تقيدها قواعد الدقة أو الاحتمالات. لماذا هناك تشابه مذهل بين العديد من الأساطير في الحضارات المنفصلة بعضها عن بعض انفصالا كبيرا .. ؟
يجيب شتراوس بأن هذا التشابه يدل على وحدة هيكل الوعي البشري الأسطوري لكي يُخرِجَ الأساطير وفق نظام معين ..
لكن ، ينبثق سؤال آخر من رحم هذه الإجابة :
ما هي البنية المشتركة الأساسية بين الناس التي تستدعي ان تُنتِج أو تُصيغَ هياكلَ عامةٍ متشابهةٍ للأساطير ؟!
التأثير البيولوجي للأسلاف
بعد تحليل عميق وموسع للتاريخ الانثروبولوجي وتطور الاجناس البشرية من جهة , ودراسة آليات التحول في هيكل الجينات الموروثة من الاسلاف , يمكن أن اقول ان الثمانين مليار انسان التي تقدرها بعض الاحصائيات عن البشر الذين عاشوا في هذا الكوكب منذ خمسة ملايين سنة واسهموا في بناء جيناتنا الموروثة عنهم , قد تركوا بصمة مخفية في أعماقنا النفسية عن طريق هذا التأثير الجيني في نواة الخلية الحية , والتأثير الثقافي التلقيني الذي يدخل في تشابكات خلايا ادمغتنا ..!
نعم , البصمة من الاسلاف , بصمة الثمانين مليار انسان التي نحملها مطوية في الجينات , و التشابكات المعقدة في خلايا الدماغ , اسهم كل فرد بشري مر في التاريخ فيها . كل انثى وكل ذكر قاموا بوضع حجر فوق بناء هذا الصرح الموروث الكبير والمعقد .. !!
بالتالي , ما هو مشترك بين كل البشر , ان كل رجل وكل امرأة في العالم يحملان جينات ثمانين مليار انسان بطريقة معدلة ومقومة وتسير على نمط معين من التعديل والتطور والانتخاب الطبيعي.
لهذا السبب تدور محاور الاساطير حول إلهة انثى عظيمة :
عنانا .... عشتار ....... عشتروت .... ايستر ..... افروديت .... فينوس
هذه الإلهة الانثى العظيمة هي في حقيقة الامر قيمة التعديل الذي اسهمت فيه اربعين مليار امرأة مرت في تاريخ التطور البشري . هذه الانثى العظيمة هي محصلة للذاكرة البيولوجية الجينية والعصبية ( تعقيد الجينات يمثل شيفرات ذاكرة وكذلك تعقيد تشابكات خلايا الدماغ يمثل تشفير اضافي فوق التشفير الجيني , لان تشابكات الدماغ كما ثبت مؤخرا تتكيف مع البيئة التي يعيشها الفرد الواحد وقد لا تطابق تشابكات ادمغة الاسلاف عكس الجينات التي هي موروثة من السلف )
وكذلك الحال مع تموز او مردوخ عشاق عنانا وعشتار , او ادونيس عاشق فينوس و افروديت , هم في الحقيقة يمثلون الإله الرجل الذي هو تحصيل حاصل اربعين مليار رجل مر في تاريخ الاجناس البشرية .. !!
بالتالي , وحسب علم النفس اليونغي وجلسات الدخول عبر الايحاء النفسي الى اعماق الاصول التي تحدرت منها الكائنات , فإن البئر العميقة التي تحوي هذه المعلومات والمشاهد ما قبل البشرية هي الجينات التي يمكن للوعي اعادة تمثيلها بصور تلك الرؤى الغريبة في تلك الجلسات . كذلك كهنة المعابد القديمة , عبر طقوس الثيورجيا للاتصال مع " الآلهة " كانوا يدخلون الى هذه الكيانات العميقة القابعة في الجينات فتتمثل بصورة إلهة انثى تمثل تاريخ كل نساء الكوكب , او إله ذكر يمثل تاريخ كل الرجال . اما تلبيس هذه الآلهة صفات قومية او شعبية فهذا امر طبيعي حسب البيئة التي تنتجها الجماعات والشعوب .
ان عنانا او عشتروت ربة الخصب والحب والحرب وان طغت عليها ثقافيا سمات الحاجة الى اله من قبل الناس الذين يطلبون حاجات معينة منها , لكن , اسلوب الاقتراب من الاعماق المنطوية في الموروثات التي تتجلى للكهنة بشكل قوى , وهو ما يطابق نتائج جلسات علم النفس الاعماقي , انما يؤكد وجود طاقة انثوية عظيمة منطوية " بطريقة ما " داخل كيان الخلية البشرية تتجلى بشكل ربة الحب والانوثة لدى الامم . في الهندوسية تسمى " شاكتي " التي تتحد مع الإله شيفا لتشكيل كائن روحاني عظيم نصفه ذكر ونصفه انثى (أردهاناريشفارا ) . هذا الكائن العظيم يمثل بحق الثمانين مليار انسان وما اسهموا فيها من نتاج جيني بيولوجي على مر التاريخ ..!!
طاقة الكونداليني , او طاقة شاكتي الانثوية الملتفة في قاعدة الظهر حسب الممارسات الهندوسية التي تعيد تجديد طاقة الحياة والعقل للإنسان , هي في الحقيقة شكل من اشكال تجلي افروديت او فينوس او عشتار او عنانا .. او طاقة ين ..
ثنائية عنانا-تموز او فينوس- ادونيس , او شاكتي – شيفا , او الين – يانغ تؤكد بان جوهر الاساطير الثنوي هذا نابع من ثنوية الجينات الجنسية ( إكس – واي ) , وان الدخول الاعماقي لإدراك الآلهة القديمة سيكون ممكنا اذا اتبعنا طرائق محددة من الإيحاء نتناولها بالتفصيل في مواضيع قادمة , لكن سنقدم عنها وعن فوائدها من ناحية الصحة النفسية بعض الايجاز الآن .
فوائد النزول في الاعماق وتحرير طاقة الحياة
غالبا هذه " الممارسات " او " الرياضات " مفيدة في حالات الاكتئاب وغياب الدافعية النفسية او تلاشيها . عندما تتلاشى رغبة الفرد بالحياة تكون هذه الممارسات عامل انبعاث وتجدد وتنشيط للطاقة الحيوية التي تتركز في جلها على الجنس والحب والالفة . كذلك هي مفيدة من حيث اعادة تحفيز الدماغ والافكار و زيادة التركيز العقلي , لأنها تفتح اجزاء من الهيكل النفسي كانت مطفأة او غير فعالة بسبب غياب فعاليتها العصبية في تشابكات المخ , او حتى ضمور فعالية اجزاء معينة من الجينات . النزول في اعماق النفس البشرية عبر ممارسات خاصة من الثيورجيا أو صنعة الآلهة كما تسمى قديما في بابل او الادبيات الثيوصوفية قد يشابه جلسات الايحاء النفسي المعروفة من حيث المظهر والاسلوب العام , لكنها مختلفة تماما في النتائج ..
نتائج جلسات التحليل النفسي تكون مريحه او مزعجة بنسبة قليلة للفرد . لكن , نتائج الثيورجيا قد تعتبر صدمات يتعرض لها الشخص الخاضع للتجربة . صدمات أعماقية قد تؤثر فيه على المدى البعيد وقد تؤثر في صحته العقلية اذا لم يكن مؤهلا عقليا وعاطفياً بدرجة كافية . لهذا السبب ولأسباب اخرى بقيت الثيورجيا صنعة سرية منذ القدم . إذ لا يتم تعليمها لعامة الناس. تبقى خاصة بنخب معينة لديها الاستعداد والارادة لمواجهة مخزون الاعماق البشرية الضخم المليء بالتفاصيل والطاقة والمشاهد , اذ يستيقظ من اعماق النفس البشرية مارد بشري يجعل الخاضع للتجربة يعيش حالة من الذهول وكانه شخص آخر لا يعرف نفسه . بسبب موروث الاساطير عن الجان والعفاريت قد يعتقد هذا الشخص بانه " ملبوس " . الحقيقة لا يوجد تلبس او ما شابه . كل المسالة انه ايقظ في اعماقه مارد الموروث البشري , إله الاعماق , وبسبب الفوارق الفردية , يتخذ هذا الإله صفات شكلية ومستوى طاقة نفسية مختلفة من شخص لآخر , بمعنى , طبيعة شخصية الانسان في الحياة العامة هي التي تعيد صياغة وخلق طاقة الاعماق لتنتجها بشكل كائن مسخ غالبا يجمع بين الماضي الوحشي للبشر في العصر الحجري وعصور ما قبل التاريخ وبين شخصية الانسان الاجتماعية التي تصبح مجرد قناع مقابل طاقته الوحشية العميقة .
يبقى ان نذكر دائما ان 99% من موروثنا الجيني صنعه الاسلاف في العصور ما قبل التاريخ بمدى يتجاوز خمسة ملايين عام . بينما انسان الحضارة لم يورثنا سوى نسبة قليلة من عمر السبعة الآف عام , بالتالي , موروثنا البيولوجي الاكبر العظيم هو الموروث الوحشي البدائي . اما موروث الحضارة فهو موروث التلقين والتعليم , الذي يكسبنا ذاتنا وشخصيتنا التي نعرفها , التي تصبح صغيرة فجأة امام عملاق الاعماق البدائي . هذا ما يجعل الفرد يشعر بانه لا يعرف نفسه او ان بداخله شخص آخر. انا اكتب هذا الكلام عن تجارب عدة مع اشخاص ومتطوعين قمت بها بنفسي معهم .
غالبا يشعر الانسان في هذه الممارسات بان طاقة الاعماق وذاته العميقة شريرة وشيطانية ( الذات الموروثة جينيا ) . وعندما ينفصل عنها ويستفيق من الجلسة ويرجع الى ذاته الواقعية ( الناتجة من ثقافة التلقين ) يعيش حالة من احتقار نفسه وكره اعادة هذه الممارسة , يكون واقعاً تحت تأثير ما يشبه الصدمة . لكن بعد مدة يستعيد توازنه ويشعر بارتياح كبير من تجربته لأنه فجأة بدأ يكتشف فوائدها بانسياب " طاقة " تجري في جسده وتشعره بالارتياح .. يبدا تركيز الوعي بالتضاعف , الادراك يصبح عالياً ومستوى الذكاء يبدو وكانه يتضاعف ايضا , السلبيات تكمن في ان الغضب وروح المواجهة تتضاعف ايضاً عندما تستثار المشاعر الكره والحقد والضغينة .
حسب تخصصي في الفسيولوجيا البشرية والحيوانية , أرى بان هذه المشاعر تعني تدفق هرمونات النشوة والغضب بصورة مضاعفة وكذلك اغلب الهرمونات والنواقل العصبية في النظام الفسيولوجي والعصبي للانسان . ارجح بان الاسباب تعود الى ان صورة الاستفاقة الوحشية العميقة قد غطت على صورة الذات الاجتماعية الواقعية مما يؤدي الى تنشيط كافة الغدد وكذلك المخ والجهاز العصبي بما يوازي غدد ودماغ انسان بدائي ..
ذاتنا الاجتماعية الواقعية بسبب تراكم التلقين والالتزام الأخلاقي فإنها تؤدي الى تثبيت نظام خاص بالإفراز الهرموني والنشاط العصبي . هذا النظام يتغير مع مراحل النمو والحياة وقد يصل الى حد الاعتلال . استفاقة ذات الاعماق البدائية الوحشية تعيد تفجير الافرازات والنظام الهورموني ولو لفترة محدودة من الوقت مما يساعد على اعادة برمجة الذات والشعور العاطفي بالواقع والحياة .
رغبة الاكل تصبح اكبر وحتى تمييز الروائح والاستمتاع بها وبالطعام يصبح اكثر عمقاً ووضوحاً . اما المشاعر الجنسية , فهي الاغرب والاكبر والاكثر وضوحاً تبدو وحشية وقوية وتمنح طاقة عالية جدا للمخ وتمنح مشاعر سعادة مضاعفة اثناء الممارسة الجنسية . التعمق بالجلسات يجعل استخراج هذه الطاقة بالتدريج وصولاً الى " رجل إله " او " انثى إلهة " او إلها كلانيا متحداً يتجلى بصورة عميقة في ذات الفرد الخاضع لهذه الممارسة او يتجلى بصورة منفصلة عنه وكانه شخص آخر او شيطان او إله ... تصنيف التجلي يعتمد على ثقافة ووعي وشخصية الفرد الخاضع للممارسة نفسه.
في مواضيع قادمة سنوضح طرائق الايحاء وكيفية النزول في الاعماق . ونحذر من الآن , هذه الرياضات لا تصلح للجميع . تعتمد طرائق الايحاء على محاكاة حياة وميول الانسان البدائي اثناء الجلسات لإعادة ايقاظه وتفجيره .
كيف كان يفكر الرجل البدائي والمرأة البدائية ؟ ما هي ظروف حياتهم القاسية والصعبة وجل معاناتهم في الازمنة السحيقة منذ مئات الآف وملايين السنين ؟
التناغم مع مشاعر البشر البدئية هو الذي سيساعدنا على اعادة تدفق " طاقة الحياة " التي تتفجر من بئر تاريخنا الجيني الانثروبولوجي العميق .
للحديث بقية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - واقع
Almousawi A.S ( 2022 / 12 / 27 - 12:16 )
تحيات واحترامات وامنيات طيبات
بحوثك المتعاقبة تغي بثراء وتديم البحث العلمي الرصين
والشائع عندك للمتابع الحريص هو التركيز على الذات وما فيها او ما يوحى لها بفعل ذاتي ايضا وقليلا من قوى خارجية وحيا او مباشرة
ويغيب لحد الان التاثير الظرفي الموضوعي العام بما يحتاج ويسعى الية البشر جميعا كغاية او حلم بشري يبتغية الجميع ويحاول بنائه كواقع حياتي ملموس
لكم ارجو تحقيق كل ما تصبون اليه


2 - الأستاذ الموسوي مع التحية
وليد مهدي ( 2022 / 12 / 27 - 21:00 )
شكرا لمروركم الرائع أستاذنا
نعم ، الأزمة الحقيقية التي يعاني منها شرقنا المتوسط هي ذات الفرد المهزومة غير المفهومة
نسلط عليها ضوء التحليل والتفكيك
عل الله يحدث بعد ذلك أمرا
اتمنى لكم وللعائلة الكريمة أيام عيد ميلاد وراس سنة جديدة جميلة مليئة بالفرح والنور
ممتن منك كثير استاذي


3 - التراكم
عدلي جندي ( 2022 / 12 / 30 - 07:06 )
الجيني
المعرفي
الإلهي
مادة شيُقة ومثيرة للتأمل والغوص ف بداية و تاريخ ونشأة الوحي والآلهة والأديان
أيام وأعياد سعيدة عليك واحبابك
تحياتي


4 - الصديق عدلي جندي
وليد مهدي ( 2023 / 7 / 26 - 13:09 )
اعتذر جدا على تاخر الرد سبعة اشهر ...
لم يصلني اشعار في البريد للاسف
ولم انتبه للتعليق إلا اليوم

جعل الله ايامك اعيادا وافراحا ومسرات دوما

اخر الافلام

.. معرض -إكسبو إيران-.. شاهد ما تصنعه طهران للتغلب على العقوبات


.. مشاهد للحظة شراء سائح تركي سكينا قبل تنفيذه عملية طعن بالقدس




.. مشاهد لقصف إسرائيلي استهدف أطراف بلدات العديسة ومركبا والطيب


.. مسيرة من بلدة دير الغصون إلى مخيم نور شمس بطولكرم تأييدا للم




.. بعد فضيحة -رحلة الأشباح-.. تغريم شركة أسترالية بـ 66 مليون د