الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الله والماء والحضارة ح3

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 12 / 30
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


فليس هناك من فرصة للإنسان في الفكر الديني العراقي ووفقا لإيمانه بنظرية الحياة المؤقتة والموت الأبدي من فرصة لهم علاقته بالله وتنفيذ إرادته بقصد الوفاء بها غير أن يمتثل تماما لما يريد منه الله أن يكون، حتى لو تضمن هذا الوفاء أن يخرج من الماء والطين لعيش حياة أخرى خارج ما تطبع عليه، الفلسفة العراقية الحضارية الأولى تكمن روحها التي لا تتوقف ولا تعجز عن النهوض في كل مرة وعلى حقيقة إيمانها أن التجربة تتكررا مع مزيد من الأستفادة من التجربة، فالنهار ظاهرة متكررة والليل كذلك، موسم الأمطار والفيضانات المدمرة متكرر والحر والجفاف متكرر، ولا مجال للهرب من التكرار، لذا فهو يحاول مع كل تكرار التزود بالجديد من التجربة والتعلم بما يضمن أن ما سيحدث أقل ضررا مما حدث، لأنه يعلم أنه سيحتاج لها في المرة التكرارية القادمة، هنا صار حفظ التجارب وطريقة الأستفادة منها أسلوب حياة طبيعي ودخل ضمن أستراتيجيات التفكير لديه، فبدلا من أن يبني كوخا من القصب طاف على الماء حاول البعض أن يبنيه بنفس الشكل من القصب المطلي بالطين، ثم لا حقا من الطين المخلوط فيه القصب اليابس، وأخيرا من الطين وحده وبعيدا عن الماء الذي يأكل الطين، هنا خرج في المراحل التجريبية المتتالية من الماء إلى اليابسة التي جنب الماء ليعيش عالما مزدوجا فيه الضروري والأهم، ويوفر له الأستقرار النسبي ككائن يحاول أن يوظف التجارب لحياة أفضل.
لقد ربط الإنسان العراقي وجوده بالماء والطين وجعل منهما أساسا لكل مفاهيمه الكلية عن الوجود، بما فيه الدين والحضارة والثقافة والإيمان وحتى مفاهيم الموت والحياة، لم يكن ذلك تنظيرا منه ولا أفكارا تأملية أو نقلها أو نقلت له، ولكن لأن أصل وجوده كان من هناك وفي هناك، اليوم في نظريات علم الأجتماع النفسي والتجارب التي أجريت مثلا على سكان التبت فهم يرون أن كل شيء بلا معنى من دون الجبال ودون الثلوج ودون المراعي المنتشرة في تلك الهضبة الواسعة، وعندما تضطر أحدهم ظروف الهجرة من مكانه فأنه لا يبحث عن مكانات منبسطة أو بيئة مخالفة، لسبب بسيط أن تكوينه الجسدي والروحي والعقلي قد تشكل وفق مفاهيم الطبيعة التي ولد فيها، هذا هو سر تمسك العراقي القديم بالماء والطين.
حتى في الأسطورة السومرية والبالية التي نقلها لنا المؤرخون وعلماء الأثار والأنثروبولوجيا عن أصل الخليقة والوجود تربطنا كبشر بالماء 1، ومنها يظهر جليا أن قصة وفكرة الوجود عندهم بدأت في الماء ومنه وبه، وتطورت وتفاعلت لتكون وجودا متعدد الأشكال والمظاهر من خلال الماء وفيه، لذا فالماء ليس مقدسا لأن الأرباب أو الآلهة قالت ذلك أو طلبت أن نفعل ذلك، ولكن لأن إيمان العراقي القديم وقبل أن تصله الأديان أو يفهم في الإيمان المنزل، كان أعتقاده بقدسية الماء أعتقاد أصيل نابع من أثر الماء في وجوده وما يشكل له من ضرورة بقاء، إذا كان أعتقاده يرجع بالأصل للمحيط المولد للوجود، وهذا ما تناغم مع الدين المنزل حينما جاء النص (ومن الماء جعلنا كل شيء حي)، فالحياة من الماء وبدون الماء لا وجود لها ولا ينبغي أن توجد لأنها ستكون بلا متنفس للبقاء والنماء، الماء إذا رابط طبيعي من السماء للأرض، وسطح الماء يعكس للإنسان صورة السماوات بجلالة التعظيم الذي كان ينظر به لها، لذا فالعلاقة التشاركية والترابطية بين الماء (أنهر وأهوار ومطر) هي علاقة تعبر عن صعود ونزول متبادل، علاقة رب ومربوب وعلاقة لا تنتهي طالما أن الماء يخبرنا بقصة الوجود الأول.
نجد أثر قيمة الماء وقدسيته ودوره في حياة الإنسان وحتى بعد الحياة الأولى وأنتقاله للعالم الأخر قد أمتد لكل الديانات اللاحقة والتي تفرعت أو أشتقت أو بنيت على أديان العراقيين القديمة أو دين السومريين تحديد بأعتباره أول دين متكامل في الوجود، ومن طقوس الموت عند العراقيين طقس سكب الماء لإرواء ظمأ الميت ويسمى "المي نقو"، وكان الماء يسكب عبر انبوب فخاري ينزل من سطح الأرض الى العالم الأسفل، فقد عثر في احد الأبنية العائدة الى الملك السومري "شولكي" ثاني ملوك سلالة اور الثالثة على انابيب فخارية تحت الأرض الى الأسفل بصورة عمودية، كذلك عثر في الأضرحة الخاصة بالملوك في اور على منافذ خاصة لهذا الغرض وهوً رش الماء على قبر الميت، وهذه السنة ما زالت متبعه ايضا في الأديان التوحيدية، فمن طقوس المندائية بعد دفن الميت واهالة التراب عليه حتى يغدوا مثل الربية اي القبر، يرش كبير رجال الدين الأربعة الذين حملوا الجثة الماء على الرابية ليبللها ثم ينحني عليها يختمها بهذه الطقوس المتمة، وهذا الطقس يرش الماء على قبر الميت وهي مبلله تأكيدا على دور الماء في حياة الميت الأخروية.
ومن مستحبات الشريعة الإسلامية، روي عن الإمام ابي جعفر الباقر أنه قال: قال النبي محمد ص لعلي ع (يا علي ادفني وارفع قبري من الأرض أربعة أصابع ورش عليه الماء)، وروي عن الإمام الصادق ع (اذا فرغت من دفني فأنضح على قبري)، وبعيدا عن الإيمان بهذه الروايات أو تصديقها، ولكنه بالواقع متبعة ومؤد على مسنونيتها عند كل المسلمين مع تفرق مذاهبهم، ليس فقط بعد الدفن مباشرة وإنما في كل زيارة لقبور الموتى يتم نضح القبور بالماء العذب وترطيب التربة، هذه العلاقة بين الماء والميت تعيدنا إلى فكرة أن الأموات في عالم أو أرض اللا عودة بحاجة إلى الماء كون الماء الموجود لديهم غير ملائم وكريه الرائحة، وهنا أضاف العراقيون طقسا أخر بوضع ماء الورد أو ماء الزهر على القبور لتخفيف من أثر الرائحة الكريهة التي يعاني منها الأموات.
من هنا نستطيع أن نفهم علاقة الله بالماء وكما فهمنا علاقة الماء بالطين بالحضارة، فيكون محور الثلاثية الوجودية عند الإنسان العراقي القديم يعتمد على هذا الترابط بين مكوناتها، فالله خلق الوجود في الماء ومن الماء ليجد الإنسان نفسه جزء من هذا العالم المحيط بالماء والقائم علية والمستمر بوجوده، فيقدم ولائه للماء وإخلاصه له لأنه بلا الماء لم يكن شيئا مذكورا، بالتأكيد هذا ليس شركا ولا كفرا بدور الله ولكن تعبيرا عن إقراره بأن الخالق الأول هو خالق ما بعد الأول، بمعنى أن أي نتيجة من خلق الماء هي نتيجة أساسية من خلق الماء أولا، بعد الماء يأتي الطين الذي هو المشترك بين حالتين مختلفتين، حالة السيولة المتدفقة التي لا تتوقف والتي تعطي القدرة على أستيعاب الوجود بالشكل الموجود، والحالة الثانية حالة الجمود والتصلب التي لولاها لما أستطاع الإنسان أن يعيش بالماء وحده فقط، إذا الطين رمز مشترك لعالمين أساسيين وإن كانا نقيضين لكن أتحادهما يعني الوجود المستمر، والوجود المستمر يعني البقاء والتطور والترقي والتعلم، وهو أساس كل حضارة قامت أو تقوم لأن الحالة الحضارية حالة ديناميكية لا تتوقف، لذا لم يخطئ العراقي القديم عندما أمن أن الجسد في حالة الوفاة هو ليس إلا تراب سيكون بعد أن يجف الماء فيه، وعليه لا بد من إعادته إلى موئل التراب بالدفن لتستمر الحياة هكذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. التسلسل الأسطوري السومري لعملية خلق العالم في البداية كانت توجد الإلهة نمو لوحدها، وهي تمثل المياه الأولى التي نتج عنها كل شيءٍ.
انجبت الإلهة نمو ولدًا وبنتًا، الأول آن إله السماء المذكر، والثانية كي الهة الأرض المؤنثة، كانوا ملتصقين ببعضهما البعض و بأمههما نمو.
ثم تزوج آن وكي وأنجبا إنليل إله الهواء الذي كان يتواجد بينهما في مساحةٍ ضيقةٍ لا تسمح له بالحركة.
لم يطق إنليل ذلك السجن، فقام بفضل قوته الخارقة بفصل أبيه آن عن أمه كي، رفع الأول فصار سماءً، وبسط الثانية فأصبحت أرضًا، ومضى يترع بينهما.
إنليل كان يعيش في ظلامٍ دامسٍ، فانجب نانا إله القمر، ليبدد الظلام في السماء وينير الأرض.
نانا إله القمر، أنجب أوتو إله الشمس.
بعد أن فُصِلت السماء عن الأرض، وصدر ضوء القمر الخافت، وضوء الشمس الدافئ، قام إنليل مع بقية الآلهة بخلق مظاهر الحياة. مغامرة العقل الأولى ، من موقع: www.goodreads.com، اطّلع عليه بتاريخ 3-11-2019











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيرا على الأقدام.. جيش الاحتلال يجبر آلاف الفلسطينيين على ال


.. زعيم حزب فرنسا الأبية لوك ميلونشون: الرئيس لديه السلطة والوا




.. يورو 2024.. المنتخب الإنكليزي يجري حصة تدريبية من نوع خاص


.. مكتب نتنياهو: المقترح الذي وافق عليه رئيس الوزراء حظي بدعم ا




.. شروط جديدة لنتنياهو قبل المفاوضات حول الصفقة مع حماس