الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المشتركات العقائدية بين الدين العراقي وفروعه الإبراهيمية ح 1

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2022 / 12 / 30
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مشكلة كل الأدبان بغض النظر عن مصدريتها أو عمقها الفكري أو طريقة تقديمها هي الفهم، أي قهمنا للدين ليس كنموذج أو كلية معرفية ولكن فهمنا له بعلاقة خاصة ثنائية بين العقل البشري والصورة الواصلة، وحيث أن الفهم هو إنعكاس ذاتي للقدرة العقلية التي تدرك الأهم والمطلوب من الدين، ولأن العقل ليس نظاما محددا وموحدا ولا هو نموذجي في التعاطي، فالمسافة بين النواتج التعقلية تبقى ممتدة من الفهم الساذج المبسط إلى الفهم المركب العميق والمعقد والمبني على طبقات من الأفتراضات والتصورات والتطبيقات والمناهج والنتائج، لذا فكل فكرة والدين من ضمن الأفكار التي يجب أن نفهمها حين نؤمن بها ولو على المبسط، اشترك في هذه الإشكالية العقلية البشرية والتي تخلف من ورائها تعدد في القراءات ليس الظاهرة حتما، بل القراءات العقلية التي تستقر بضمير المؤمن والتي تعيد نمذجة عقله من حيث لا يدري، فلا عجب إذا أننا نرى التطور وأحيانا حتى الأبتعاد عن النموذج الأساس الذي ولد أول مرة، وهذه سنة المعارف عموما وسنة الإنسان في التعامل معها.
هناك أيضا إشكالية أخرى تمثل الشكل المعاكس للصورة الأولى وإن كان ناتجها عكسي لكنه ينفع من نفس إشكالية الفهم وهي اللفية أو التحجر والتمسك بقراءة واحدة مهما كانت لسبب بسيط أن الإنسان المؤمن يخشى أن يتفكر خارج صندوقها كي لا يشطط أو ربما الخشية من تولد قناعة أخرى غير ما موجود أمامه، وقد يكون ومن عدم ثقته بعقله وبنفسه يظن أنه ربما يكون مخطئا حينما يفكر وآثما حين يؤمن بما يفكر، لذا يبني أسورا من الحدود الصارمة حول العقل ينهيها بعبارة ليس بالإمكان أفضل مما كان وعلينا أن لا نتدخل فيما لا ينجينا من الخطل والخطأ ووسوسة الشيطان، وعلى الرغم من أن لا الأول يمكنه أن يحمي الدين من التدخل الشخصي ولا الثاني نجح في المحافظة على الديناميكية الروحية له، فلا يمكن إذا عدهما إلا كإشكاليات معرفية يمكن أن تفصل عن الدين لأنها ليست منه ولا من ضرورياته، وأيضا يمكن للبعض إلصاقها بالدين ويقول أن المسئول الأول في الخلاف والأختلاف هو طبيعة المعرفية الدينية لأنها جاءت غير قياسية ولا حدية كما في النظريات العلمية مثلا.
إذا التطور ولنقل بلغة الحقيقة الأختلاف المتطور في الفهم نتيجة طبيعية للعقل البشري متأثرا أولا بتطور المفاهيم وثانيا بتراكم الفهم، في النقطة الأولى فعندما بعرف الإنسان فكرة يولد عنها مفهوم ذاتي في الذهن يعكسه من خلال ما يعرف بأعتقاده أو تحوله لعقيدة، هذا التبدل من القبول الأولي بها ومن ثم رسوخها ومرور الزمن عليها يفقدها الفاعلية الأولى، فأما أن تتحول لمسلمة غير قابلة للنقاش وحتى التفكير بأنها قابلة أو غير قابلة 1 ، أو تتحول إلى محرك للتفكير بها مجددا خاصة مع تطور طرق التعقل والفهم ونضج التجربة والأكتشافات الجديدة، فيكون العقل البشري حريص على إعادة القراءة ليس بالطريقة الأولى ولكن ولو على الأقل بخطوة أبعد منها، هنا سيكتشف شيئين الأول أن قراءته الأولى ما زالت حيه وسليمة وعقلانية فيمضي عليها ويتمسك بها، والقراءة الثانية عندما بجد نفسه متخلفا ولو ببعض الشيء عن إدراك ما هو ضروري ولا بد من عدم التسليم بالقراءة الأولى، في هذه الحالة سيكون ملزما أن يضع الفكرة القديمة موضع التجربة والبرهان.
في القضية الثانية المتعلقة بتراكم الفهم والذي هو عبارة عن خلاصة تجارب ذاتية وغيرية تعلمها أو أكتشفها أو هي نتاج أكيد للتعقل والزمن وطبيعة العقل الذي عليه أن يكون عاملا بأي درجة وأن لا يتوقف، في المراحل العمرية الأولى من عمر الإنسان ولقلة تراكم الفهم من السهل عليه أن يقتنع حتى بالخيالات والظن وحتى الأكاذيب لأنه لا يملك الرصيد الذهني والعقلي الكافي للمعايرة والتدقيق، ولكن عندما يبدأ في مراحل عمرية نشطة خاصة عندما يبدأ الكسب المعرفي أما لضرورات الحاجة أو نتيجة لتراكم المعرفة وأستحقاقاتها سيكون ملزما طبيعيا أن يفحص كل ما لديه من خزين معرفي قديم، حتى يتحول فهمه من التسليمي إلى التشكيكي إلى التجريبي، هنا تبدأ ملامح التجديد المعرفي وبناء الشخصية المعرفية التي تفصح عن مستوى العقل العملي، وعن مقدار التراكم الفهمي المخزون بمصفوفات ذهنية تتحرك في عدة أتجاهات.
من هذا الموقف العلمي والمعرفي يمكن لنا أن نؤشر حقيقة الأختلاف البعدي بفتح الباء والأحتلاف البعدي بضمها بين نقطة الأنطلاق التأسيسية للدين، وبين ما تنتج مرحلة ما بعد الفهم الأولي والتصديق، هنا تتداخل اليقينيات كما تتداخل الشكوك عند الرعيل الأول خاصة أن العقل البشري العامل والذي يشتغل وفق سياقات المنطق يكون دائما شديد الحيرة في تقبل سريع للفهم، مثلا في قضية وردت في الدين الإبراهيمي عندما شك متسائلا مع ربه وهو لا ينفي الفكرة ولكنه يسعى لتوكيد عقلي وقناعة منطقية، فأجاب الرب حسب النص " أولا تؤمن" قال "بلى" ولكن ليطمئن قلبي، هذه الإشكالية لا ينكرها الله كما لا يستنكرها في الدين وهي حقيقة نفسية لا يمكن التغطية عليها، إن الإقرار والمطالبة باليقين فرعين أساسيين من ضرورات الفهم وهما مصدر، إذا كان هذا الشك والتردد عند الجيل المؤسس فما بالك بعد عقود وقرون وربما أكثر أو أقل ولكن وقع التغيير يرتبط دوما بالوعي الذاتي فيما يؤمن به البشر ليلقي بنتاجه على الدين.
هذه المقدمة أسوقها لشرح ما عرف لاحقا بتعدد الدين العراقي زمانا ومكانا كما يزعم البعض، الشيء المتفق عليه عند غالبية الباحثين في هذا الشأن يضعونه تحت عنوانين رئيسين ووفق ذلك أسسوا لنتائج دراساتهم، النقطة الأولى أن كل الأديان العراقية القديمة شركية وثنية تتعبد بالنجوم والكائنات المخلوقة وحتى الأشخاص، ثانيا أن لا أحد منهم أدعى أن التطور والتعدد ناشئ عن تطور الفهم وتطور وثراء المعرفة، متناسين جملة حقائق أساسية تتعلق بحقيقة الدين أنه قابل دوما لأن يغير من مفاهيمنا نحن ولكنه هو من حيث الجوهر ثابت لا يتغير، فالتغير والأختلاف عند هؤلاء الباحثين تفير شكلي سطحي متعلف بعقيدة السلطة الفوقية المهيمنة على قرار المجتمع، دون أن يكون للعقل والمنطق والمعرفة وتطورها دور بذلك، لذلك نجد مفاهيم في بعض الأفكار الغربية التي درست الدين على أنها مجرد محاولة للبحث عن معنى أو ما يسمونه دين المعنى ، يرى ذلك كثيرون منهم (مارسيل غوشيه Marcel Gauchet) إن أصل الاعتقاد حسب ما يؤمن به ويبشر هو "دَيْنَ المعنى" 2 الذي حمل بذرة السياسة ومشاريع الدولة منذ بداياته الأولى، هذا التأصيل ينطلق من الحرية لينتهي إليها.
هذه النظرية ترجع الأصل الديني في المجتمعات القديمة التي يسميها البدائية لأنه ينظر بعلية وعنصرية دينية لها مستبعدا أي دين قديم من أرتباطه بالقيم العليا السماوية، فهو يرى في الفعل الديني الأول إنعكاس لسياسة البقاء في الوجود بمعنى أن الدين القديم في المجتمعات القديمة جزء من معنى الوجود وليس رافعا معرفيا أسس لدور معرفي متضخم لاحقا أنتج القانون والعلم والأخلاق والممارسة الإيمانية المتطورة، إنها نظرية الفصل بين الضرورة الفطرية للإنسان وبين أفتراضات أن الإنسان القديم المتدين بأي دين إنما كان يخضع في إيمانه لإملاءات السلطة السياسة، دون أن يسأل مثلا كيف تعلم السياسة أصلا وهي مرحلة تطور لاحقة لا يمكن أن يبدأ بها مجتمع لا يتوفر فيه عامل روحي يجمعه على مشترك يتمتع بالقوة واليقين به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. يقول عبدالكريم لمباركي الباحث في الفلسفة، نشر مجموعة من البحوث الفلسفية في مجلات محكمة، جامعة الحسن الثاني، كلية الأدب والعلوم الإنسانية - بنمسيك – الدار البيضاء. (الدين الأخلاقي عند كانط هو دين يقوم على العقلانية والذاتية؛ أي يقوم على الإمكان البشري في الفهم والتحليل والنقد عن طريق مجموعة المقولات الترنسندنتالية (القبلية) ومفاهيم يكون مصدرها العقل المجرد، وهذه مشكلة الدين التاريخي أنه لا يقوم على ما هو مجرد وذاتي، وإنما يقوم على أساس التجربة وسلطة الأمس الأزلي. إنه نتيجة، (لفكرة هذا ما وجدنا عليه آباءنا). لا يمكن للشخص في إطار الدين التاريخي أن يتمتع بالحرية في الاختيار والحرية في التدين؛ لأنه دين لم يختره بل فرض عليه، ولم يتوصل له بالعقل، بل جاء نتيجة لرسالة من الأنبياء والوحي. إنها عقيدة الشيخ والمريد بكل ما تحمله الكلمتان من معنى. إنه إيمان بحدود، بحدود التجربة دون بلوغ مرتبة العقل. أما الدين الأخلاقي، فهو دين في حدود العقل، ووفقا لمنطوق كانط، واتباعا لفكرة الأنوار، فإن الخضوع للعقل وأوامره هو أصل الحرية والإرادة). فلسفة الدين عند إيمانويل كانت _ موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود الإليكتروني.
2.أصل الاعتقاد الديني سياسي؛ إن الجذور البعيدة للواقعة الدينية في المجتمعات البدائية، راهنت على ما يضم المختلف ويوحد المتعدد، ويدرأ أسباب الصراع حول السلطة والموارد، ويتجنب أيضا خطر الانقسام. فأبدع بؤرة خارجه منفصلة عنه، سماها إلها أو كائنا مفارقا متعاليا. يصدق ذلك على كل الشعوب والمجتمعات؛ لأن الإنسان بملاحقته معنى وجوده، لم يجده فيما يحيط به ويحايثه، بل فيما يبتعد عنه ويسبقه. فأبدع الطقوس وأشكال التعبد لِيَفِي للآلهة "دَيْنَ المعنى" La dette de sens الذي جادت به عليه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتخاب بزشكيان رئيسا جديدا لإيران.. تفاؤل مصطنع ووعود صعبة ا


.. تصاعد الضغوط على بايدن للانسحاب من سباق الرئاسة | #أميركا_ال




.. ترقب احتمال فوز دونالد ترامب بسباق الرئاسة الأميركية | #أمير


.. مظاهرة نحو منزل نتنياهو في شارع غزة بالقدس للمطالبة بصفقة تب




.. رئيس الوزراء البريطاني أكد لنتنياهو ضرورة وقف إطلاق النار بغ