الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرب الله في الديانة العراقية القديمة ح1

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 1 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


أولى عناوين الدين هو الرمز الأكبر للفكرة وعمادها التي تتفرع كل الخصائص منه ومن وجوده، بمكننا أن نقول لولا وجود الله أو الرب أو الإله في رأس الفكرة الدينية، حيث لا يمكننا أن نصفها بالدين حتى لو كانت تمتلك كل العناوين الفرعية الأخرى، فالقضية الدينية من الابتداء والأنتهاء تدور في فلك الله الرب الإله الذي يملك القوة والقدرة والفعل على تنفيذهما حتى لو كان ذلك ظنا من الإنسان، هذا المجمل المحصل يختصر في عبارة "الدين يعني الله والله يعني الدين"، من هنا كانت محورية الفكرة المركزية بما يعرف بالألوهية هي الأساس الذي ننطلق من لدراسة الدين، مقارنة بين عقيدة العراقيين القدماء كسمه مشتركة مع العقائد الإبراهيمية أو الأديان الإبراهيمية إذا جاز لنا القول، وفي نظري أن الدين كمعطى معرفي واحد هو تجسيد وتمثيل وبسط فكرة الله في الوجود، أما ما يعرف اليوم من مصطلح الأديان فهو عقائد متفرعة من فكرة الدين الأولى، تقترب وتتباعد بينها بدرجة فهم الله وتقدير مكانته وحدود القدرة لديه بين المطلق الذي لا حدود له كما في العقيدة الإسلامية، وبين القدرة الكاملة مثل الأول ولكن هذا الإقرار والتسليم لا يمنع أن يكون للأخرين شأن ودور كما في المسيحية الإسرائلية التي ولدت من رحم التجسيم والتجسيد الظني البشري.
تماما من هذه النقطة سنبدأ وعندها أيضا سننتهي لمعرفة فكرة الله ومقدار المحورية في الدين أو في العقائد، وقبل الخوض في هذا المجال لا بد لنا أن نفرق بين أن يكون الله واحد وما بعده ثاني، وبين أن يكون الله واحد وما بجنبه ثاني، أي أن وجود الله في المرتبة واحد لا يمكن أن يكون محل ظن أو تقدير شخصي، فبغياب الأول لا يمكن مطلقا أن يأتي الثاني الذي في الخلف لأنه محال عقلي ومنطقي وطبيعي، أما في الحالة الثانية فيمكن الأبتداء بالواحد من اليمين أو الشمال لأن التتالي ممكن وطبيعي، أي أن الله الواحد هو الأساس وكل مظهر أو ظاهرة أو كينونة ما من بعده هي مولدة منه ومرتبطة بالخلفية التتابعية الحتمية، فلولا الله لما كان هناك وجود لا ملائكة ولا سماوات ولا قدرة ولا حول ولا أي شيء، هذا مفهوم ما بعد الواحد الضروري، أما عندما يكون الله أو الرب أو الإله واحد من صف من القوى والقدرات والكينونات نكون أما تساوي أفتراضي وتعددي ممكن، وهذا ما دأب عليه المؤرخون ودراسي علم الأديان القديمة في وصف طبيعة الله أو الرب في الديانة العراقية قديمة معتمدين في ذلك على تقديم لغوي لا يفرق بين الإله وبين الرب وبين الملائكة وكأنهم مجمع أستشاري أو مجمع أراء.
أن ما يبدو لنا بوضوح من النصوص التي تركها أسلافنا العراقيون بدأ من عصر الكتابة الأول وما تلاه من تطور مجالات وطرق التدوين وأساليبها التقنية والنوعية، خاصة في الجانب الديني الطقوسي أو النصوصي بحقيقة كون الكتابة الأولى ولدت من رحم الضرورة الدينية كما أجزم، ونحن نلقي هذه النظرة التي توصف بالعلمية الحيادية على معتقدات الشرق القديم وخصوصا العراقية منها أن الإرث الديني العراقي إرث توحيدي وموحد ومرتبط دوما بالأول المتقدم الذي لا ثاني معه، ومن الموقع التجريدي الغير متأثر بأفكار ومواقف مسبقة منحازة ومحرفة وعنصرية تستند الى القراءة الغربية للدين العراقي القديم، وأساس كل ذلك ما ذهب اليه حاخامات اليهود وعلماء بني إسرائيل ومدونيهم الذين صنعوا تاريخا وجوديا للدين وفق مقاساتهم الخاصة بعيدا عن حقائق الأرض والحدوث والمنطق العقلي الواقعي، وخلصوا لفكرة مفادها الجوهري الى ان التوحيد الإلهي هو مجرد براءة اختراع توراتية إسرائيلية بلا منازع، بعيدا عن ذلك نجد ان المعتقدات العراقية القديمة قد طورت ومنذ فجر التاريخ مفهوما ً مجردا عن الألوهية المطلقة المنزهة التي لا يحدها اطار ولا تتجسد في شكل او هيئة حسية حقيقية أو ظنية، وبما انه لابد للإنسان في تعامله مع فكرة الألوهية من وسيط يلخصها في عقله كمفهوم ذهني بطريقه للتجسيد الفهماني لها قبل أن تتحول إلى يقين أو واقع، أو وصعها بموضع تجربته الداخلية معها في الخارج، فقد ابتكر االله الأعلى الذي خلق نفسه بنفسه وخلق السموات والأرض وكل نفس حية.
قد يقول البعض هذا كلام عام لا يندرج مع التفسيرات والترجمات النصية التي وصلتنا من بقايا الدين العراقي القديم، وما فيه من تعدد أصطفافي أو مجموعي ينفي صفة التوحيد والوحدانية التي تزعمها، وإليك عشرات النصوص القديمة التي تثبت ذلك وتدحض مقولتك الت تزعم أنها هي الواقع والحقيقية، وحتى نرى ميلك اللا منطقي نحو تأسيس مفهوم مغاير لما هو حاصل وواقع نرفق لك ألاف النصوص التي تنهض دليل ضدي لما زعمت، منها ما جاء مثلا في أسطورة اتراحاسيس: ـ
حينما كانت الآلهة ما تزال بشرا
كانوا يضطلعون بالشغل ويحتملون الكد
كان عناء الآلهة كبيرا
وشغلهم ثقيلا وشدتهم طويلة
ومن هذه الكائنات من قتل وذبح ليخلق من دمه الإنسان، فقد اعتقد البابليون بان ًشيئا ما من الآلهة قد استعمل في خلق اول انسان من مزيج مكون من دم الهي وطين ، وفي النص من أسطورة اتراحاسيس: ـ
دمائي
فتح يا فاه
وقال لألهه العظام
في اليوم الأول والسابع والخامس عشر من الشهر
ساعد حماما للتطهير
فليذبح اله....
وليغطس فيه الآلهة الأخرون فيتطهروا
بلحم ودم هذا الإله
ً طينيا لتمزج نينتو
ليصبح الآلهة والإنسان
ممزوجين سوية في الطين 1 .
ليس هذا نصا منفردا يبين حقيقة ما كان يؤمن به العراقيون من قضية التعدد والتمدد في مفهوم الألوهية التي طبعت ديانتهم بطابع الشرك والتجسيد الذي ينافي ما تذكره أنت من أن الدين العراقي القديم قام ونشأ توحيديا، فقد ورد أيضا في نصوص ملحمة جلجامش ما يؤيد وجود مجمع الآلهة والذي هو مخول في التعبير عن قرار السماء..
قام إنكي بتحذير الملك الكاهن زيوسودرا من خلف الجدار في حين زيوسودرا يستمع من الجانب الآخر، ويكشف له نوايا الآلهة المتمثلة بالطوفان، ويعهد إليه ببناء سفينة كبيرة تحمل معها البذرة الصالحة من البشر وبعض الحيوانات.
وعندما وقف زيوسودرا قرب الجدار سمع صوتاً:
قف قرب الجدار على يساري واسمع
سأقول كلاماً فاتبع كلامي
اعط أذناً صاغية لوصاياي
إنا مرسلون طوفاناً من المطر
فيقضي على بني الإنسان
ذلك حكم وقضاء من مجمع الآلهة
أمر آنو وإنليل برياح عاتية، وأمطار فيضانيه تغمر الأرض، يكمل النص وصفه للأحداث الطوفان التي استمرت سبعة أيام وسبع ليالي، وظهور أوتو إله الشمس الذي خر زيوسودرا ساجداً امامه.
هبت العاصفة كلها دفعة واحدة
ولسبعة أيام وسبع ليالي
غمرت سيول الأمطار وجه الأرض
ثم ظهر أوتو ناشراً ضوؤه في السماء على الأرض
فتح زيوسودرا كوة في المركب الكبير
تاركاً أشعة البطل أوتو تدخل منه
زيوسودرا الملك خر ساجدا أمام أوتو
ونحر ثوراً وقدم ذبيحة من غنم.
في ختام الملحمة نجد أن نجد زيوسودرا يسجد أمام كل من إنليل وآنو، ولحمايته الحيوانات وبذرة الحياة الصالحة على الأرض، يكافئ زيوسودرا بالخلود في أرض دلمون جنة السومريين، حيث تشرق الشمس.
زيوسودرا الملك
سجد أمام آنو وإنليل
ومثل إله وهباه حياة أبدية
ومثل إله وهباه روحاً خالدة
عند ذلك زيوسودرا، الملك
دعي باسم حافظ بذرة الحياة
وفي أرض دلمون
حيث تشرق الشمس، أسكناه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. بتصرف من المصادر التالية (رينيه البات، المعتقدات الدينية في بلاد وادي الرافدين، ص 13 ـ 49؛ الأمحد، سامي سعيد، المعتقدات الدينية في العراق القديم ) بريوت، المركز الأكاديمي للأبحاث، 2013 ،ص 202. رينيه البات، قاموس العالمات المسمارية، ترجمة: البري ابونا ووليد الجاذر بغداد، 2004 ،ص 13 ـ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتفاق التهدئة.. حكومة نتنياهو تواجه خيارات حاسمة


.. انتخابات إيران الرئاسية: خامنئي يحث الناخبين على التصويت في




.. القسام تعلن إيقاع قوة إسرائيلية بكمين وتستهدف آليات إسرائيلي


.. إخلاء منازل في القدس بعد اندلاع حريق كبير بحي هار غيلوه




.. الشرطة تعتقل مؤيدين لفلسطين من فوق مبنى البرلمان الأسترالي