الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تهافت اقتصادنا (10)

نعيم مرواني

2023 / 1 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في فصل "الهيكل العام للاقتصاد الاسلامي" ص 295، يُنَصِّب المؤلف الهيكل العام للاقتصاد الاسلامي على ثلاث أثافي : الملكية المزدوجة، والنطاق المحدود للحرية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية. وهذه جميعها اركان النظام الاقتصادي الاشتراكي، كما أكدنا في مقالات سابقة.
وإن لم يقصد، سينتهي مؤلف كتاب اقتصادنا الى تسويق نظام الاقتصاد الاشتراكي بوصفه نظام اقتصاد اسلامي، وسنرى لاحقا ان تنظيراته لاتعدو كونها اجترار او -في أحسن الاحول- تجميع أو توسعة لافكار مفكرين اسلاميين كتبوا عن الاشتراكية الاسلامية أو من ديانات اخرى جادلوا حول كون الاشتراكية أهم أركان دياناتهم.
مع ايماننا المطلق باستحالة ايجاد هكذا نظام اقتصادي، لكن دعونا نفترض جدلا ان محمد باقر الصدر نجح في بلورة نظام اقتصادي قوته الدافعة ايمانية روحية تسمو على الانانية الفردية التي تأسست عليها الرأسمالية أو المثالية الحالمة التي تتضارب مع النواميس الطبيعية التي بنيت عليها الشيوعية لخلق مجتمعات لاطبقية. مع ذلك لايحق له ان يدعوه نظام اقتصاد اسلامي. لماذا؟ لان كل الديانات بطبيعتها اشتراكية، وبالتالي فوجود هذا المبدأ سبق ولادة الاسلام السياسي في بداية أو منتصف القرن العشرين.
في كتابه الموسوم "الاشتراكية المسيحية" او (Christian Socialism) يجادل جون سي كورت (John C. Cort) أن الاشتراكية بحد ذاتها هي نظام مسيحي، بدأ مع بداية اليهومسيحية واستمر حتى يومنا هذا. وحتى المسيحية ذاتها لم تكن أول من نادى بالاشتراكية، فجميع الديانات التي سبقت الديانات الابراهيمية كانت بطقوسها ومعاملاتها اشتراكية لان مبادءها تؤكد على ضرورة العمل الجماعي والتعاون والايثار ونبذ توجيه النشاط الاقتصادي للفرد بغية الاثراء الشخصي.
لكن ربما اقنعت بعض الشواهد التاريخية في سلوكيات اتباع الرهبنة (Monasticism)، اقنعت سي كورت باشتراكية المسيحية فظن انها نظام اقتصادي اشتراكي يهومسيحي صرف. ولاتدعو الزرادشتية لمشاركة الجميع في الموارد الطبيعية كالارض ومايستخرج منها فحسب، بل نادت بالاشتراكية الجنسية ومنعت احتكار النساء فيما نطلق عليه بالمفهوم المعاصر "المؤسسة الزوجية" (الشيوعية الزرادشتية لباتريشا كرون ( Zoroastrian Communism). وتحاول الاشتراكية البوذية Buddhist Socialism)) ان تضع نهاية للمعاناة البشرية من خلال البحث عن أسبابها وايجاد الحلول العملية لمعالجتها، المعالجة التي تعتمد المبدأ الطبيعي القائل: جميع الكائنات تتعايش معاً في نظام واحد، كل واحد فيه يأخذ مايكفيه للعيش ويترك ماتبقى لغيره.
قبل ان ندخل في صلب موضوعة الاقتصاد الاسلامي ،كما يُنَظِّر له الصدر،في صفحة 295، بعد الانتهاء من مقدمته الطويلة في انتقاد النظامين الاقتصاديين الشيوعي والراسمالي، دعونا نسجل ملاحظاتنا على ماطرحه بخصوص هذين النظامين.
لاعتماد المؤلف على ماتوافر لديه من تراجم عربية لكُتّاب وفلاسفة غربيين من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، تناول المؤلف المشاكل النظرية للنظامين المذكورين في تلك المرحلة من وجهة نظر منتقديهما، كما أسلفنا، ولم يتناول مشاكلهما المعاصرة التي طرأت بعد قرون من التطبيق والتي عاصرت صدور كتاب "اقتصادنا" في ستينيات القرن العشرين. وهذا بتصوري متأت من عدم احتكاك المؤلف بواقع الحياة اليومية وعدم اطلاعه على تجارب الشعوب التي تتبنى دولها نظام الاقتصاد الرأسمالي أو الاشتراكي أو الشيوعي.
رجال الدين لايعتمدون الجانب التطبيقي عادة في مواضيع البحوث التي يتناولون بقدر مايقبسون مايجدونه في متون الكتب والروايات، والصدر ليس استثناءً لتلك القاعدة. السبب في ذلك قد يعود الى حقيقة انهم يعتاشون على بعض ما يصلهم من أموال الخمس والزكاة بصفتهم إما القائمون عليها أو من يستحقون جزءا منها لانهم متحدرون من سلالة رسول الله، أو كلاهما معا. لذلك، فهم، في هذه الحالة، لايحتاجون أن يتقتوا مهنا أو حرفا يدوية تساعدهم مردوداتها على اعالة انفسهم وعائلاتهم وتوفر لهم فرصة الاندكاك بالعامة والتعرف على حياة السوق والحقل والمعمل والدائرة الحكومية. وهذا ، باعتقادي، ماجعل تنظيرات الصدر تدور في بطون الكتب القديمة ولاتخرج من اغلفتها كي ترى نور التطبيق في الواقع المعاصر. وإلا لتناول ،على الاقل، بعضا من علل الرأسمالية المعاصرة وهي كثيرة، سأسوق لكم بعضا يسيرا منها.
مبدأ الحرية الاقتصادية (Laissez Faire) الذي يمثل العمود الفقري للنظام الراسمالي فشل في اول اختبار له عام 1774 عندما قرر توغو وزير مالية لويس السادس عشر الغاء القيود الصارمة على صناعة الحبوب وسمح لاستيراد وتصدير الحبوب بين المقاطعات الفرنسية كنظام تجارة حرة. جمع التجار اكبر كميات ممكنة من الحبوب وباعوها في مناطق معينة داخل وخارج فرنسا من أجل ربح أكبر، فضربت مجاعة الآلاف من الفرنسيين وبالتالي نشبت اعمال شغب استمرت لعدة اشهر. بعدها أعيد الامن والاستقرار وعادت معه سيطرة الحكومة على سوق تجارة الحبوب.
الحرية الاقتصادية التي تنادي بعدم تدخل الحكومات في تقنين النشاط الاقتصادي بحجة انه ينظم نفسه بنفسه من خلال مايدعى بـ"اليد الخفية" أو (Invisible Hand) يبدو أنها وضعت ضد اصحاب الياقات الزرق وحسب. إذ كلما خسرت البنوك والشركات الكبرى نتيجة مقامراتها الاقتصادية، تتدخل الحكومات الرأسمالية فيما يسمى (Bailouts) فتعوضها بسخاء من أموال دافعي الضرائب بحجة ان افلاسها سوف يؤدي الى خسارة آلاف الموظفين/العمال لوظائفهم، ومعالجة هكذا مشكلة ، حسب انصار اقتصاد السوق الحر، يكمن في تطبيق نظرية اقتصاديات الانسياب للاسفل (Trickle Down Economics).
في مقاله الموسوم (Obama’s banking proposals are a good first step) المنشور في صحيفة لوس انجلس تايمز في كانون الثاني 2012 علق جوزيف ستجليتز على الدعم المالي الذي قدمته حكومة الرئيس الامريكي باراك اوباما للبنوك قائلا: " لدى البنوك الكبرى حافز قوي للمقامرة، فاذا ماكسبوا سيستمتعون بارباحهم، واذا ماخسروا فسيدفع الفاتورة دافعي الضرائب.
الجمارك العالية التي تفرضها الدول الرأسمالية لحماية انتاجها الوطني هو نوع من انواع لي مبدأ اليد الخفية (التي بشرنا آدم سمث بانها كفيلة بحل المشاكل التي تطرأ في أنشطة الاقتصاد الحر) فتدخلت الحكومات للتأثير على حركة البضائع في اقتصاد السوق الحر وعرقلت المنافسة الحرة بين التجار الدوليين. زد على ذلك التخفيض "الاصطناعي" لقيمة العملة الذي تقوم به الحكومات وتهدف من وراءه الى كسب المنافسة التجارية، في حين يفترض في نظام السوق الحر ان تحدد التبادلات التجارية – وليست الحكومات- قيم العملات.
تخصص الشركات الكبرى نسب تصل الى ربع عوائدها المالية للدعاية التي غايتها التأثير على عملية اتخاذ المستهلكين لقراراتهم، فتنفق الاموال على الاعلانات التجارية والبوسترات وتسخير مواقع التواصل الاجتماعي والوسائل الاعلامية الاخرى لنشر معلومات عن منتجاتها غالبا ماتكون كاذبة او مبالغ فيها في احسن الاحوال. وان ترك المستهلك يقرر بنفسه مدى حاجته للبضائع، فربما يؤدي ذلك الى كساد اقتصادي، لذلك اصبح الآن الاقتصاد الراسمالي يعتمد في تحديد القيمة على توجيه أو إدارة الادراك (Perception Management) فاذا استطاع احد اقناعك ان ثمن قميصه ألف دولار، صارت قيمته السوقية ألف دولار فعلا.
وأسواق الاسهم التي هي احدى أهم ركائز نظام الاقتصاد الحر، بدأت فكرتها عندما أراد عدد من التجار الرواد بدء أعمال تجارية ضخمة تحتاج رؤوس أموال كبيرة ليس بمقدور رجل اعمال واحد أن يجمعها بمفرده، فقرر عدد من المستثمرين جمع مالديهم من أموال وأصبحوا شركاء تجاريين ومالكين مشاركين مع حصص فردية في أعمالهم فتشكلت الشركات المساهمة. أصدرت شركة الهند الشرقية الهولندية في عام 1602 أول أسهم ورقية للتداول. سمحت هذه الوسيلة القابلة للتبديل للمساهمين بشراء وبيع وتداول أسهمهم بسهولة مع المساهمين والمستثمرين الآخرين.
اختلف الامر الآن وصار عليك اولا تأسيس شركة ولاتستطيع تلك الشركة الانضمام الى أسواق الاسهم الا عندما تكسب ثقة المستثمرين من خلال ارباحها وسمعتها. يعني لم تعد غاية اسواق الأسهم مشاركة عدة مستثمرين لجمع راس المال الكافي لتاسيس شركة بل صارت احد اهم مصادر التربح من خلال خداع المضاربين بواسطة تزويدهم ببيانات غيردقيقة عن الارباح المتوقعة للشركة.
وصارت المقامرة (وليست الاسس الرصينة التي يمكن من خلالها دراسة ثم توقع اتجاهات حركة الاموال ونسب القيم والارباح) في سوق الأسهم أحد أهم أسس نظام الاقتصاد الحر، اذ يجادل الاقتصاديون المعاصرون ان توقع الاقتصاديين لاتجاه حركة سوق الأسهم ليس باكثر دقة من توقع خبراء الانواء الجوية تقلبات الطقس لان الاثنين (الأسهم والطقس) يخضعان للنظرية الفوضوية (chaos theory) والتي لاتترك انماطا توفر ارضية لدراسة ظاهرة ما، إذ يمكن لاتفه الاحداث في مكان ما من العالم أن تسبب كوارث دولية عظيمة. شبه أدوارد لورنز هذه الفوضوية بامكانية أن يسبب خفقان أجنحة فراشة في البرازيل بعاصفة مدارية في تكساس بما أطلق عليه لاحقاً في علم الاقتصاد تأثير الفراشة .(Butterfly Effect)
تفرض الولايات المتحدة واستراليا وكندا وبلجيكا ودول غربية اخرى على مواطنيها ضريبة تراجعية أو تنازلية (Regressive Tax) أي تقل نسبة الضريبة كلما زاد دخل الفرد والعكس صحيح. وبالتالي تتحمل الطبقات الدنيا أعباءً ضريبية أكبر من تلك التي تتحملها الطبقات العليا.
هذه بعض عيوب الاقتصاد الرأسمالي ولكن مع كل عيوبه الظاهرة والمستترة يبقى النظام لاقتصادي الأمثل لحد هذه اللحظة لما له من مزايا ايجابية كثيرة مقارنة بعيوبه. من السهل تشخيص العلل والعيوب في كل نظام اقتصادي او سياسي او اداري لكن ليس من السهل الأتيان بما هو افضل. لاشعب في العالم، حسب اعتقادي، سيرفض تبني نظام اقتصادي قادر على اعادة تعريف علاقات العمل والانتاج بشكل عادل يساعد على خلق مجتمعات لاطبقية مترفهة، لكن هكذا نظام لم يولد بعد. وكل المحاولات التي قام بها اقصاديون كانت لاتعدو كونها مجرد تحسينات على النظامين الاشتراكي والرأسمالي أو تأميم أحدهما من خلال اعادة صياغته بما يلائم ثقافات محلية معينة.



تنويه: هذا واحد من سلسلة مقالات نقدية تشخص مكامن الخلل في كتاب "اقتصادنا" لمحمد باقر الصدر. لكي تتكون لديكم صورة مكتملة عن موضوع البحث، أدعوكم، سادتي القراء، لقراءة المقالات السابقة ذات العلاقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال