الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرب الله في الديانة العراقية القديمة ح 3

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 1 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


إذا ما ندعيه من أن التوحيد المبني على الهرمية العبادية المتمثلة في الله أو رب الأرباب أو إله الآلهة ليس زعما بدون دليل، ولا هو أستنتاج ظني أو أفتراض مبني على التأمل والخيال، لقد أمن البشر جميعا ومنذ أن أدرك الإنسان عقله وأستخدمه في ممارسة الوعي بالذات والمحيط، أن من يسيطر على الكون ويحركه ويتحكم له ما هي إلا قوة نافذه استقر في قمة هرم متناهي في البعد الحسب والإدراك المادي، لكنه قريب جدا في الأستشعار الروحي والنفسي وحتى العقلي به، يقول الباحث ستيفن لانغدن في مقال بعنوان “الأسكتلندي” إن تتبع نقوش الحضارة السومرية يثبت وجود التوحيد أصلا عندهم، وإن أقدم النقوش والآثار التي بين أيدينا تشير بقوة إلى اعتناقهم توحيدا “بدائيا”، وإن ادعاء نشوء الدين اليهودي (الذي يعتبر لدى الغرب أصل الأديان التوحيدية) من أصل طوطمي (وثني) هو ادعاء كاذب.
هذا ما خلص له الكثير من علماء الأجتماع الديني والذين سلكوا طريق المنهجية العلمية المنضبطة بالمنطق العقلاني غير متأثرين بأكاذيب المتدينين، والذين يضعون فكرتهم الدينية الخاصة فوق الحقائق وفوق العلم ليثبتوا أنهم أبناء الله وشعبه المميز الذين خصهم بالإيمان والتوحيد، وبالرجوع إلى مصادر كل عقائدهم وأصول دينهم والأساسيات البنائية لفكرة التوحيد نجدهم قد نهلوا كل ذلك من دين أسلافهم العراقيين، سواء عن طريق ترتيب تلك الأفكار والمبادئ والأصول العقائدية وتقديمها على أنها عقيدة موحدة، أو من خلال تبني كامل العقيدة العراقية بما فيها من تناقضات تاريخية اسللت لها من خلال تدخل الإنسان في رسم خطوات أبعد أو أقصر مما بني عليه أصل الدين العراقي.
وعودة لبعض النصوص التي تؤيد رؤيتنا وإصرارنا على أن الدين العراقي القديم قبل أن تلحقه الزوائد الوافدة عليه نتيجة الأختلاط والأحتلالات المتعددة القادمة من خارج البيئة العراقية، والتي حاولت تشويه العقيدة العراقية وفك الأرتباط القوي السيسيولوجي المعرفي والروحي الإنساني ما بين العراقي وهويته والواقع عبر تشويه الدين وتحريفه، وهذا منهج قديم وما زال سلاح كل القوى الأحتلالية التي تريد الهيمنة على مجتمع تسعى لتغيير معادلات الهوية وأسسها لتتمكن من إضعافه والسيطرة عليه، ان ما يبدو لنا بوضوح ونحن نلقي هذه النظرة العلمية الحيادية على معتقدات العراق القديم ومن موقع غير متأثر بأفكار ومواقف مسبقة هو ان هذه المعتقدات قد تطورت وتكاملت مع عقلية مؤمنة ساعية لمعرفة وجودها الكلي والجزئي من خلال فهم العلاقة بين القوة المهيمنة والمحركة وقيمة وجودهم بنسق صاعد ونازل بينهما.
منذ فجر التاريخ أوجدوا مفهوما ً مجردا عن الألوهة المطلقة المنزهة التي لا يحدها اطار ولا تتجسد في شكل او هيئة، وربما انه أبتدأ الإنسان في تعامله مع فكرة الألوهة من خلال وسيط يلخصها في عقله وبموضع تجربته الداخلية معها في الخارج، فقد ابتكر مفهوم االله الأعلى الذي خلق نفسه بنفسه وخلق السموات والأرض وكل نفس حية وخلق بقية الكائنات التي سمها البعص ألهة أو أرباب واوكل لهم مهاما ومجالات فعل ونشاط وفقا لما نعرفه اليوم عن هذه القضية ولا نعتبرها شركا أو وثنية لأننا نؤمن أن مصدر الفعل والقرار يبقى بيد الله بأشاءته وبإرادته وحجه، وما يفعل كل هذا الكم من الكائنات ما هو إلا أستجابة طوعية وقهرية منصاعة لقرار الله وأمره.
إذا عقيدة الأيمان بالعلة الأولى للكون وهي االله الأعلى خالق كل شيء والذي خلق نفسه بنفسه وخلق بقية الكائنات التي سميت الهه والتي تقابل ما معروف بالملائكة مثلا في التراث العقائدي للأديان السماوية وفق معادلة محفوظة ومنضبطة محكمة في عملها لا تخرج ولا تتمرد على النظام الإلهي الكوني، ولكننا أيضا قد نقبل بفكرة ان الإنسان ابتكر هذا النظام أو لنقل توصل إلى صورته الذهنية عنه وهو أصلا لم يدركها حسيا ولا ماديا من اجل ان يوجد مصداقا لما طوره من مفاهيم عقائدية عن الألوهة ليس خارجا عن فطرته الأولى، وانما طور الإنسان مفاهيمه عنها بما يناسب مع نداءها التي يؤمن بوجود خالق اوحد لهذا الكون، وذلك من خلال التجارب الشخصية والتي تحولت في كثير من الأحوال الى تجارب جماعية، ففي نص بابلي حينما يتوجه الإنسان العراقي القديم إلى الله يخاطبه بأوراد لا تستطيع ان تضعها إلا في خانة التوحيد، ففي اليوم الخامس من عيد "الأكيتو" أو "عيد الوكت" باللهجة الأكادية والبابلية وقبلها اللغة السومرية الأم التي تعني البوم في اللهجة العراقية المعاصرة "دورة السنه" الذي يسمى يوم التذكير إذ ينهض كبير الكهنة منذ الصباح الباكر وقبل الشروق ويتطهر بماء دجلة والفرات، وعلى الأرجح ان هذا الماء يحفظ بالمعبد ثم يقوم للصلاة امام االله من خلال الرب مردوخ وهو يرتدي جلبابا من الكتان ومن هذه الصلاة: ـ
الهي الذي لا اله غيره
الهي يا الهي ملك البلدان
لا يوجد من يهب إلا الهي
اله السماء والأرض الذي يقرر المصائر
نور الشمس للعالم
اللهم كن في سلام
وهناك الكثير من النصوص التي تعطي نفس المفاد سنذكرها في مباحث لاحقة أو ما ذكرناها في سوابق بحثية، اما هذه الأسماء الكثيرة التي وردت في الميثولوجيا العراقية القديمة، فهي اما هي تجليات لله الواحد او هي كائنات سماوية مقدسة اوكلت لها مهام من قبل خالق الكون كما هي عقيدة الأديان السماوية التوحيدية في الملائكة والجن والروح وحملة العرش والموكلين بالجنة والنار أو المتوكل بالصيحة والخسف مما تمتلئ بهم النصوص الدينية أو الروايات المأخوذة عنها أو المبنية عليها حيث خص كل مالك بمهمة معينة، او بمهام عدة يقوم بها وفق القانون الذي شرعة له اله الكون وخالقة.
ومما يلفت النظر إليه أنه لم تقتصر عقيدة التوحيد "االله الواحد" على العراقيين القدماء فقط وانما هي عقيدة انسانية قديمة، بل هي اول ما امن به الإنسان على رأي الكثير ومنها مثلا ان فكرة ديفيد هيـوم التي تتمحور حول التوحيد هي "أنه فكرة اصيلة او قد تكون فطرة في البشرية، وان تعدد االله والصنمية عبارة عن انحراف ومرض لغوي، او خطأ في توظيف اللغة واستعمالاتها، وان الأساس والأصل في الأعتقاد هو التوحيد دوما"، وان شكل الحياة الدينية الأقدم عموما حسب الدراسات الأركيولوجية والإحفوريات التي بينت طبيعة شكلية لمظاهر التدين القديم توحي بنا بأن كان الأعتقاد بوحدانية القوة وهرميتها المتعالية كان الأبتداء الذي أنطلقت منه المفاهيم الدينية اللاحقة، ونجد عددا ً كبيرا من علماء الأجناس والأناسة وعلماء النفس يثبتون أن عقيدة االله الواحد هي اقدم ديانة عرفها الإنسان، اما عبادة الأوثان وظواهر الطبيعة فمـا هـي الا اعراض يمكن حتى الأستدلال عليها من خلال دراسة الأديان التوحيدية المعروفة اليوم، وكيف خرجت منها عقائد وأفكار وعبادات لا تتصل بوحدانيتها ولا تمثل قيم التوحيد فيها مع أنها محسوبة على الأديان التوحيدية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتفاق التهدئة.. حكومة نتنياهو تواجه خيارات حاسمة


.. انتخابات إيران الرئاسية: خامنئي يحث الناخبين على التصويت في




.. القسام تعلن إيقاع قوة إسرائيلية بكمين وتستهدف آليات إسرائيلي


.. إخلاء منازل في القدس بعد اندلاع حريق كبير بحي هار غيلوه




.. الشرطة تعتقل مؤيدين لفلسطين من فوق مبنى البرلمان الأسترالي