الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ فرنسا 08 – محاكم التفتيش

محمد زكريا توفيق

2023 / 1 / 3
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الفصل الخامس عشر
البيجان، 1190
لويس الثامن، الأسد، 1223-1226

لويس الثامن، المكنى بالأسد، حكم فترة قصيرة جدا. لكن كانت معظم أفعاله، في وقت والده، فيليب الثاني، وسياسته الماكرة مع ملوك إنجلترا.

جنوب فرنسا، التي استوطنها الرومان في الأول، ولم يكن يسكنها الفرنجة أبدا، كان سكانها من الغال أكثر تعليما وثقافة من الجزء الشمالي. وكانوا يستخدمون الشعر والنثر المنمق، أكثر من هؤلاء الذين يستخدمون لغة "وي"، التي تحولت فيما بعد إلى الفرنسية.

سلوك رجال الدين المسيحيين المشين، عزز بعض المفاهيم عند أناس في جنوب فرنسا، يسمون "البيجان"، نسبة إلى بلد "البي". فقد ألفوا الأغاني والنكات على رجال الدين المسيحي، وطريقتهم في عبادة النصوص والطقوس بدلا من الرب. فلقوا تجاوبا كبيرا من الناس، وزاد عددهم. حتى أن بعض أمراء الجنوب العظام، انضموا لهم. وكانوا يشعرون أن البيجان، هم أقرب إلى نفوسهم، وللثقافة الرومانية القديمة.

لكن البابا القوي، إنوسنت الثالث، لم يسمح لهذه البلاد بالخروج على الكنيسة الكاثوليكية. بينما كان يفكر ماذا يفعل حيال هذه المصيبة، قدم اثنان أنفسهما له.

كان أحدهم إسبانيا، يدعى دومينيك. رغب في الخروج للوعظ والتعليم والهداية، لإعادة الهراطقة إلى الإيمان الحقيقي.

الآخر إيطالي، اسمه فرانسيس، الذي كان يهتم قبل كل شيء بالقداسة. يجاهد لكي يكون مثل المسيح. يعظ الناس في الكنيسة لكي يكونوا أكثر روحانية وأقل دونية. ولا يسمح للكفار والمهرطقين بالتكفير عن أخطائهم.

سمح لهذين الرجلين بتأسيس رابطة الإخوة. مثل رابطة الرهبان في الأديرة القديمة. فقاما باستدعاء إخوانهم الرهبان، وذهبوا يعظون ويسمعون الاعترافات.

ويقومون بمساعدة الرجال والنساء في الأماكن التي تنتشر فيها البدع والخرافات، وهدايتهم لممارسة حياة القداسة والزهد.

كما تم السماح للقديس دومينيك باتهام الناس بالكفر ومحاكمتهم وتعذيبهم. والتفتيش عما في صدورهم، وأقوالهم التي يتفوهون بها، هو ورهبانه. وهو ما يعرف في التاريخ بمحاكم التفتيش.

لكن الدوقات العظام والكونتات في جنوب فرنسا، في مقاطعات، بروفانس وتولوز وفوا وألبي والعديد من المقاطعات الأخرى، لم يكونوا يهتمون بعقيدة وثقافة شعوبهم.

من هؤلاء، أمراء بروفانس. بصفتهم أرقى وأذكى من جيرانهم الخشنين، كانوا أقل ميلا إلى معاقبة رعاياهم. لقد كانوا أقل تدينا وأقل جدية في تطبيق النصوص.

لم يتردد البابا إنوسنت في استدعاء الأمراء للسؤال. ثم أعلن عن حملة صليبية ضدهم، كما لو كانوا مسلمين. وجعل على رأس الحملة، سيمون، كونت دي مونتفورت. وهو فارس قديم متدين، صارم وصعب. والده، قاتل مع هنري الثالث.

انضم بيدرو الثاني، ملك أراجون، إلى البيجان، وكانت هناك حرب رهيبة في كل مكان في الجنوب الفرنسي عام 1213. كانت معركة كبيرة، في موريه، في مقاطعة تولوز. تم فيها التصفية الجسدية للبيجان، وقتل ملك أراجون. كانت تلك أوقات قاسية، عامل فيها رجال الدين المسيحي أسراهم بوحشية شديدة.

وقف كونت تولوز، ريموند، ضد رجال الدين المسيحيين، وقاتل مع ابنه، أيضا ريموند، بشدة. لكن البابا أسقطه، وأعلن أنه لا يستحق الحكم، ومنح سيمون دي مونتفورت جميع أراضيه والأراضي التي غزاها في جنوب فرنسا.

في الأجزاء الشمالية، كان ينظر إلى سيمون على أنه قديس، وعندما ذهب لتكريم الملك، ركض الناس ليلمسوا حصانه وملابسه كشيء مقدس. بالرغم من كونه رجل طيب، إلا أنه فعل أشياء كثيرة شريرة، ظنا منه أنه يدافع عن صحيح الدين.

في عام 1217، وهي السنة التي مات فيها الملك جون، في إحدى الليالي، عندما كان سيمون يهاجم الأسوار، ألقت امرأة حجرا ثقيلا أصابه في رأسه وقتله.

ابن سيمور الأكبر، أموري. لم يكن مثله محارب قدير. وكان البيجان هم المتفوقين في الحرب ضد المسيحيين الصليبيين، بينما كان لويس الأسد، بعيدا في إنجلترا.

تم وضع الرهبان الدومينيكان ومحاكم التفتيش في السلطة في كل مكان، لاستئصال شقفة العقيدة الكاذبة، عقيدة البيجان. وكان هناك الكثير من العقوبة البربرية، منها السجن والتعذيب، وحتى الحرق للزنادقة. لقد كان عصر القسوة، حدثت فيه أشياء فظيعة.

عملية قمع جماعة البيجان، وكانوا يعرفون أيضا باسم "كاتار"، تعتبر نموذجا فريدا لقسوة الكنيسة الكاثوليكية في تعاملها مع مسيحيين مثلهم، لكن يختلفون معهم في التفاصيل أو الطقوس.

القصة البائسة بدأت في شهر يوليو عام 1209، عندما قتل 20 ألف رجل وامرأة وطفل من سكان مدينة بيزير على أيدي رجال الكنيسة الصليبيين، بحجة أنهم ينتمون إلى جماعة البيجان.

سجل المؤرخون أن أحد قادة الحملة، قال لمندوب البابا في الحرب " كيف بوسعنا والمدينة مفتوحة أن نتعرف على الكاثوليك الصالحين، الحقيقيين ونميزهم عن الزنادقة المعارضين؟" فأجابه مندوب البابا بقولته الشهيرة التي صارت مثلا تتحدث به الركبان:

"اقتلوهم جميعا فالرب يعرف أرواح أتباعه."

لكن من هي جماعة البيجان أو الكاتار الدينية هذه؟ أصل كلمة كاتار إغريقي يعني النقي. البيجان الذين كان أكثرهم يسكن جنوب فرنسا، لم يكن إيمانهم يوافق إيمان الكنيسة لكاثوليكية.

كانوا يؤمنون بوجود إلهين. إله خير، هو خالق السماوات والأرواح، وإله شر، هو خالق باقي الأشياء المادية والزمانية. إله الشر عندهم، هو إله العهد القديم.

كانوا يؤمنون بالمسيح كروح، لا كجسد. لذلك لم يكونوا يؤمنون بصلب المسيح أو بعثه حيا. وكانوا يؤمنون بالعقيدة الآريوسية، التي تقول بأن المسيح يقع في منزلة فوق البشر ولكن أقل من منزلة الرب. الآريوسية تم رفضها في مجلس نيقية عام 325م، وتم إدانتها في مجلس القسطنطينية عام 381م.

كان البيجان أو الكاتار يؤمنون أيضا بتناسخ الأرواح، فالروح عندهم هي سجينة في الجسد. لا يتم تحريرها إلا بعد تناسخها عدة مرات.

لفروق العقيدة هذه، اعتبرت الكنيسة الكاثوليكية عقيدة الكاتار أو البيجان هرطقة وزندقة تستوجب قتلهم وإبادتهم عن آخرهم.

هذا ما قد تم بالفعل عن طريق محاكم التفتيش، فبحلول القرن الرابع عشر لم يبق منهم أحد، لكي يروي مأساتهم وظلم الاضطهاد الديني لهم، الذي فاق كل وصف أو منطق.

وفي عام 1223، عندما توفي فيليب الثاني، وأصبح لويس ملك فرنسا، تم استدعاؤه من قبل البابا لمواصلة الحرب على الكفار مرة أخرى. فقاتل بكل قوته. وبالرغم من أن لقبه، الأسد، إلا أنه لم يكن جنديا قادرا.

في السنوات الثلاث من حكمه، لم يفعل الكثير بالنسبة لإضعاف البيجان، بالرغم من أنه كان في حالة حرب معهم خلال فترة حكمه القصيرة. بينما كان يمر بأوفيرني، انتشر وباء بين صفوف جيشه. هو نفسه قد مرض، وتوفي عام 1226.

كان ابنه الأكبر، لويس التاسع، قد بلغ من العمر أحد عشر عاما فقط. لكن الملكة، بلانش والدته، من قشتالة (كاستيا) شمال إسبانيا، كانت امرأة جيدة ومفعمة بالحيوية، أدارت شؤون المملكة بشكل ممتاز.

أرسلت قوات، حققت مثل هذه النجاحات، وأجبرت الكونت ريموند، من تولوز، على صنع السلام، وتسليم ابنته الوحيدة الطفلة إلى الملكة بلانش، لكي تنشأ في كنفها ويتم تزويجها عندما تكبر من ابنها الثالث ألفونسو.

كونت بروفانس، المعين من الإمبراطور، كان لديه أربع بنات، وليس لديه ابن. زوج بناته في الوقت المناسب من ملك فرنسا وشقيقه شارل، وملك إنجلترا وشقيقه ريتشارد. بالتالي، أصبحت كل مقاطعة لانجدوك، في جنوب فرنسا، تحت سلطة ونفوذ الشمال.

لقد كان وقتا يدور فيه لغط كثير في جميع أنحاء أوروبا. البابا إنوسنت الثالث، جعل كنيسة روما قوية جدا. وتبعه الكثيرون في تشدده وعدم تسامحه.

ملك فرنسا، كان يسمى دائما ابن الكنيسة الأكبر. وهو واحد من أوائل الذين طبقوا أسلوب البابا إنوسنت في التشدد الديني. لكن، كان بأهداف دنيوية، لا روحية.

لكن ما تم إنجازه في ذلك الوقت، يصل إلى حد الغرابة. فقد شيدت القلاع والكنائس والمدن الجميلة، وبنيت فيها العمارة الأكثر رشاقة ورونق. أما الدروع والملابس، فكانت رائعة في اللون والشكل، والمخطوطات كانت جميلة بقدر ما يمكن لليد صنعها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الإنسان
عدلي جندي ( 2023 / 1 / 4 - 20:25 )
هو ذلك الحي...يتحول إلي كائن شرس مجرم فاشي إذا إمتلك السلطة الغاشمة خاصة تحت ظل المقدس حتى لو كانت تعاليم سيده أو عقيدته لا تدعو لعنف مفرط
حقا القراءة متعة خاصة قراءة التاريخ وأعتقده دنيا ودين
شكرا لك مع وافر التحية


2 - إلى العزيز عدلي الجندي
محمد زكريا توفيق ( 2023 / 1 / 4 - 22:49 )
شكرا لمرورك الكريم. تلريخ أوروبا تاريخ ساحر مليء بالدروس والعبر.

اخر الافلام

.. Brigands : حين تتزعم فاتنة ايطالية عصابات قطاع الطرق


.. الطلاب المعتصمون في جامعة كولومبيا أيام ينتمون لخلفيات عرقية




.. خلاف بين نتنياهو وحلفائه.. مجلس الحرب الإسرائيلي يبحث ملف ال


.. تواصل فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب بمشاركة 25 دولة| #مراس




.. السيول تجتاح عدة مناطق في اليمن بسبب الأمطار الغزيرة| #مراسل