الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرمزية الألوهية والقداسة ح1

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 1 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ذكرنا في نهاية المبحث السابق حقيقة جوهرية تبين شكل الديانة العراقية وتحديدا المتعلق منها برمزية الإله الواحد، وقلنا ما نصه (االله الوحيد الذي لم يظهر بالهيئة البشرية على المشاهد الفنية القديمة)، وهذا أمر مهم جدا لا بد أن نلتفت له، بالرغم من الدور الذي يلعبه هذا الإله الذي هو إله الآلهة ورب أربابها لكنه لا نجد ما يشير لرمزيه له تبين ولو بشكل ظني أو تأملي ما كان العراقيون القدماء يظنونه كشكل مرموز يعبر عن فكرة ما، سوى أن يذكر بصفاته ومزاياه وألقابه دون رمز محدد، وهذا ما يفسر الخلط الذي وقع به المؤرخون والأثاريون من خلال جعل الرموز المرمزة والكائنات الملحفة بالله بديلا أو رمزا عن الله الواحد، إلا أن مدرسة صموئيل كريمر ومن تبعها كانت تعتقد بل وتؤكد على خلاف ذلك أعطت لنفسها الحرية في تثبيت ما كانت تؤمن به كعقيدة تنفي عن غيرها من العقائد صفة التوحيد واللا مزية، فهي مثلا وضعت ما يلي بجانب أنها صفات الآلهة وخاصة تلك التي تعتبر السلف لكل الآلهة أو إلهة الآلهة"؟
• كانت معظمها مجسمة، وكانت تمتلك قوى استثنائية خارقة، وصُوِّرت بحجم وقوة فيزيائية عظيمة.
• هذه الآلهة كانت تلبس ما يسمى «ميلام»، وهي مادة غامضة مشعة ومنيرة التي «كانت تكسوهم وتخلع عليهم أبهة مهيبة»، والميلام كان يرتديه الأبطال أيضا والملوك والعمالقة وحتى العفاريت.
• آلهة بلاد ما بين النهرين غالباً ما كانوا يُصوَّرون وهم يعتمرون خوذات بقرون، تتألف ممَّا يصل إلى سبعة أزواج مُتناظرة ومركبة بعضها فوق بعض بالترتيب وهي من قرون الثور، كما وكانت أزياؤهم تُصوَّر وهي مطرزة تطريزًا دقيقًا ومُتقنًا بالذهب والفضة.
• أعتقد سكان بلاد ما بين النهرين القدماء بأنَّ آلهتهم تعيش في النعيم السماوي، على أنَّهم يرون أنَّ تمثال أو مُجسَّم الإله المادي هو التمثيل الرمزي للإله نفسه على الأرض، وعلى ذلك فقد اقتضى الأمر أن يُعتنى بهذه النُّصُب وأن تلقى الاهتمام المستمر، وأن تُعيَّن مجموعة من الكهنة للحفاظ عليها وصونها، وكان هؤلاء الكهنة يتمثلون شكل هذه التماثيل، ويُقيمون مأدُباتٍ أمامها لكي تتمكن من «الأكل».
• ان يُعتقد أن معبد الإله هو المكان الذي يقيم فيه الإله فعليا، وكان لدى الآلهة مراكب، صنادل كبيرة الحجم، كانت تخزن عادة داخل معابدهم، واستخدمت لنقل تماثيلهم الدينية على طول الممرات المائية خلال المهرجانات الدينية المختلفة، وكانوا يملكون، أيضًا عجلات حربية، والتي كانت تُستخدم لنقل تماثيلهم الدينية عبر الأرض إلى ساحة المعركة ليتمكن الإله من مشاهدة المعركة بوضوح.
• وكان يُعتقد أن الآلهة الكُبرى لمجمع آلهة بلاد ما بين النهرين تشارك في «مجلس الآلهة»، والتي من خلاله تتخذ الآلهة جميع قراراتها حيث كان يُنظر إلى هذا المجلس الجماعي على أنه نظير إلهي للنظام التشريعي شبه الديمقراطي الذي كان موجودًا خلال سلالة أور الثالثة (حوالي 2112 ق.م - 2004 ق.م)1 .
هذه الخلاصات التي وصل إليها كريمر ومن بعده أعتمدت بشكل أساسي في شرح الديانة العراقية القديمة ودراستها، لم تكن تلك الملاحظات وليدة دراسية علمية محايدة بمنهج علمي تطبيقي، بل أن الكثير من هذه التقريرات بنيت على قراءات لترجمات سريعة تقف ورائها أهداف أيديولوجية عقائدية تكافح للوصول إلى ترسيخ مقولات محددة دون النظر حتى للدليل أو المصداقية العلمية والعملية، فمعظم الباحثون اللاحقون والمعاصرون ما زالوا ينهلون من المناهج والأفكار المسبقة التي وضعها رواد الاستشراق المؤدلجون ويتابعهم في ذلك الباحثون والمؤرخون العرب أنفسهم بحكم التبعية الحضارية للغرب ، وهذه المواقف تضع مصداقية مناهج علوم الآثار والأنثروبولوجيا ومقارنة الأديان والتاريخ كلها على المحك.
إن الرمز دائما يتخذ للتعبير عن محسوس أو ملموس لأننا ندرك أيعاد ما نرمز له سواء في الجانب الماهوي أو في الشكل التكويني، في الديانات التوحيدية ومنها الإسلام مثلا تقر بحقيقة أن ما يشرك به مع الله بيس بديلا عنه ولا هو رمز خاص به، بل أنه طريق أو فكرة لازمة الهدف منها أن تكون وسيطا قريبا بين الله والإنسان، فقد ورد بهذا المضمون نص قرآني (أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ ۚ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىٰٓ )، هذا يلغي فكرة أن الأوثان والأصنام والنصب والمسميات التي يذكرها كريمر ومن هو على شاكلته من الباحثين، أن العراقيون القدماء أتخذوا التماثيل الضخمة التي تحمل القرون وما شاكل ذلك أو تتكون من طبعين مختلفين أو أكثر من الكائنات كرمز عن الله الذي في السماء.
حتى النصوص التي نقرأها بترجماتهم لا تشير لهذه الرمزية المزعومة ولا تدعي أن الإله شمش أو الري الشمس صحيحا هو رب العالمين، وإنما هي تعبر عن كائن سماوي مرتبط بالله أو مسخر منه لإدارة النظام الشمسي مثلا، هذا أيضا لا يناقض المحتوى الديني التوحيدي في القرآن كمثال بين أيدينا (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ۖ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ(8) قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)) سورة تبارك، ولنأخذ أيضا ما نظر له إميل دوركهايم فرأى أن الدين نشأ بتقديس القبائل “البدائية” لما يسمى بالطوطم، وهو رمز (أيقونة) حيواني كان يُشكل هوية القبائل ويحظى باحترامها، وتلاقى معظم الباحثين الغربيين على الإيمان بالتطور الدارويني في المجال الديني سواء عن طريق الصدفة أو بالحتمية الاجتماعية، لكنهم جميعا لم يقروا أو حتى يلمحوا أن الرموز الدينية التي تعبد في الحقيقة هي رموز القوة العظمى المنفردة في إدارة الوجود كله.
هناك إذا من يحاول أن يمرر أفكاره اللا منطقية واللا واقعية عن ديانة العراقيين القدماء بتمرير ما يعرف بالآلهة الرموز المتعددين في محاولة لنسف حقيقة الإيمان العراقي الأصيل أولا بوحدانية الله وثانيا بتحريم أو أستحالة ترمز صورة الله بمجسم ليعبد في الأرض، نبدأ فيها من مدرسة الأنثروبولوجي الإنجليزي إدوارد تايلور التطورية القائمة على أسس مادية مستقاة من الفكر الأنثروبولوجي خلال القرن التاسع عشر، فكان يزعم أن “الإحيائية” Animisme هي الشكل الأولي الوحيد للدين، والذي تطور عبر العصور خلافا لباقي الأشكال المعرفية الأخرى التي أبتكرها الإنسان من خلال تجربته التاريخية من خليط من الحس والتأمل والضرورة والحاجة، وصار شائعا لدى الباحثين في الأديان بعد ذلك أن كل تفسير لما يتجمع لديهم من معلومات عن حياة المجتمعات غير الغربية التي سموها بالشعوب البدائية تفسر وتترجم عبر مفاهيم تدريجية أساسها من منطلق التطور.
من هؤلاء أيضا من يحاول تمرير أفكار خرافية وثنية إلحادية تحت عنوان أكاديمي لا يخفى عن الباحث الحقيقي قيمة وأهداف مشروعه التخريبي، الباحث العراقي خزعل الماجدي يقول في كتابه “أصول الناصورائية المندائية في آريدو وسومر” إن الناصورائيين (المندائيين) أسّسوا أول مدينة في التاريخ وهي آريدو (تل أبو شهرين حالياً)، وهناك ظهر أول معبد في التاريخ (أي بعد العصر الحجري)، وكان لعبادة الإله (إيا)، وبالرغم من أن كل علماء الأثار لم يصرحوا أو لم يحددوا مكان أريدو والتي تعني في لغة السومرين القدماء "الأرض أو أرضو" في القصة التي كتبنا عنها في المقدمة، إلا أن خزعل الماجدي يسير وفق أهوائه ومشروعه وكأنه عاش عصور ما قبل التاريخ والدليل الوحيد عليها أرضا وفكرا وتاريخا، حتى أننا نجد في كتاب المندائيين المقدس “الكتاب العظيم” وهو دليل دامغ على تهافت أفكار ورؤى الماجدي بأن صفاته لا تكاد تختلف عن صفات الله المذكور في القرآن، ومنها على سبيل المثال العظيم، القديم، ملك النور، رب العوالم قاطبة، ذو الحول الشامل، الرؤوف التواب، الغفور الرحيم، العزيز الحكيم، البصير، الذي على كل شيء قدير، لكن السومريين الذين ورثوا دين أسلافهم حافظوا كما يبدوا على ملامح رئيسية في الدين كما حافظ المندائيين علة دينهم إن كانوا هم فعلا الناصورائيين القدامى.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1. . نقلت النقاط التالية من موقع ويكيبيديا "الموسوعة الحرة ونقلا أيضا عن (Kramer، Samuel Noah (1961)، Sumerian Mythology: A Study of Spiritual and Literary Achievement in the Third Millennium B.C.: Revised Edition، Philadelphia, Pennsylvania: University of Pennsylvania Press، ISBN 978-0-8122-1047-7
)) ولد كريمر في 28 تشرين الثاني 1897 في مدينة كييف، وعند عام 1905 ونتيجة لـلمعاداة للسامية ومذبحة تحت حكم القيصر نيقولا الثاني هاجر من روسيا وعائلته إلى فيلادلفيا، حيث أنشأ والده المدرسة العبرية. بعد تخرجه من المدرسة الثانوية والحصول على درجة البكالوريوس انتقل إلى قسم الدراسات الشرقية التابع لجامعة بنسلفانيا، والعمل مع الشباب ألامع أفرايم أفيغدور، الذي هو واحد من الشخصيات الرائدة في العالم لدراسات الشرق الأدنى وكان يحاول فك بعض الكتابات المسمارية تعود إلى أواخر العصر البرونزي حوالي 1300 قبل الميلاد؛ وكانت بداية عمل كريمر في فهم نظام الكتابة المسمارية. في سيرته الذاتية التي نشرت في عام 1986، قال إنه يلخص إنجازاته: "أولا، والأكثر اهمية ، هو لعب دورا في نشر وإصلاح ،وبعث الأدب السومري، أو على الأقل من المقطع العرضي. ثانيا، سعيه إلى ترجمة الكثير من النصوص السومرية الموثوق بها والمعقولة لكثير من هذه الوثائق إلى المجتمع الأكاديمي، وخصوصا في الأنثروبولوجيا، والمؤرخين ، وعلماء الإنسانية ، وثالثا، لقد ساعد على انتشار اسم سومر للعالم بأسره، وجعل الناس على بينة من الدور الحاسم الذي لعبه السومريون في الصعود للإنسان المتحضر.
. للمزيد في هذا الشأن ينصح بالاطلاع على كتاب “الاستشراق: قراءة نقدية” للمؤلف صلاح الجابري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتفاق التهدئة.. حكومة نتنياهو تواجه خيارات حاسمة


.. انتخابات إيران الرئاسية: خامنئي يحث الناخبين على التصويت في




.. القسام تعلن إيقاع قوة إسرائيلية بكمين وتستهدف آليات إسرائيلي


.. إخلاء منازل في القدس بعد اندلاع حريق كبير بحي هار غيلوه




.. الشرطة تعتقل مؤيدين لفلسطين من فوق مبنى البرلمان الأسترالي