الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرمزية الألوهية والقداسة ح2

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 1 / 5
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من هؤلاء أيضا من يحاول تمرير أفكار خرافية وثنية إلحادية تحت عنوان أكاديمي لا يخفى عن الباحث الحقيقي قيمة وأهداف مشروعه التخريبي، الباحث العراقي خزعل الماجدي يقول في كتابه “أصول الناصورائية المندائية في آريدو وسومر” إن الناصورائيين (المندائيين) أسّسوا أول مدينة في التاريخ وهي آريدو (تل أبو شهرين حالياً)، وهناك ظهر أول معبد في التاريخ (أي بعد العصر الحجري)، وكان لعبادة الإله (إيا)، وبالرغم من أن كل علماء الأثار لم يصرحوا أو لم يحددوا مكان أريدو والتي تعني في لغة السومرين القدماء "الأرض أو أرضو" في القصة التي كتبنا عنها في المقدمة، إلا أن خزعل الماجدي يسير وفق أهوائه ومشروعه وكأنه عاش عصور ما قبل التاريخ والدليل الوحيد عليها أرضا وفكرا وتاريخا، حتى أننا نجد في كتاب المندائيين المقدس “الكتاب العظيم” وهو دليل دامغ على تهافت أفكار ورؤى الماجدي بأن صفاته لا تكاد تختلف عن صفات الله المذكور في القرآن، ومنها على سبيل المثال العظيم، القديم، ملك النور، رب العوالم قاطبة، ذو الحول الشامل، الرؤوف التواب، الغفور الرحيم، العزيز الحكيم، البصير، الذي على كل شيء قدير، لكن السومريين الذين ورثوا دين أسلافهم حافظوا كما يبدوا على ملامح رئيسية في الدين كما حافظ المندائيين على دينهم إن كانوا هم فعلا الناصورائيين القدامى.
إن الدين بالشكل الذي عرفه الإنسان القديم والذي عليه الإنسان المعاصر ينطلق من حقيقة واحدة هي الضرورة التي تحتمها الفطرية الطبيعية، فلا إنسان وجد ولا مجتمع عرف الوعي ما لم يكن الدين هو المعرفة الأولى لما بعد الغريزية الطبيعية، ومن هنا نفهم المقولة الشهيرة المنسوبة إلى المؤرخ الإغريقي بلوتارخ، عندما قال “لو سافرنا خلال العالم، فمن الممكن أن نجد مدناً بلا أسوار، بلا حروف، بلا ملوك، بلا ثروات، بلا عملات، بلا مدارس ومسارح، ولكن أن نجد مدينة بلا معبد، وبلا ممارسات وعبادة وصلاة ونحوه، فلم ير أحد ذلك قط”، فالدين رفيق الوعي بالوجود والوعي بالوجود هو نتاج طبيعي لكون البشر كائن له فطرة تقود العقل المطبوع إلى واقعه المصنوع، وفق آلية الإدراك التراتيبي المستمر وفيه على درجة من الأهمية قضية الدين كمعطى أولي لا يحتاج إلى أدلة أو براهين، بل يحتاج فقط إلى فطرة طبيعية تعمل وفق برنامجها التكويني والتكيفي فقط.
لا أحد يقول أن العراقي القديم حتى من قبل أن نعرف السومرين وأسلافهم أبناء "الأبكالو" الذي خلقهم إله ليكونوا تجربته على الأرض "الأريدو" لم يعرفوا أن من خلقهم موجود وقادر ومتحكم وواحد، أستنادا إلى فطرتهم كونهم بشرا من بقية الكائنات التي تمارس وجودها الطبيعي، نسبة عدم معرفتهم بالله وأنهم أكتسبوا ملكة الإيمان والدين تطوريا من بدايات معرفيو مثلا السحر كما يقول البعض أو من خلال أنتقال هذه المعرفة لهم خارجيا يعيدنا إلى مربع التجهيل والتزييف، فمثلا نجد الفكرة التالية كثيرا ما تأخذ مداها في صنع العقلية المعرفية عند جمهور عريض من الناس على أنها من الحقائق الدامغة، لماذا لأن من كتبها باحث أو مؤرخ مختص خرج من معطف العلم والمنطق بهذا الرأي دون أن يسأل أحد عن البرهان وأسس النظرية ومصداقية المنطق عليها، الرأي أو النظرية تتلخص بالتحديد عندما توجه للدين العراقي القديم بهذا الشكل (اعتقد السومريون أن الكون قد نشأ عبر سلسلة من أساطير الخلق، أولًا أنجبت "نامو المياه البدائية" أنو (السماء) وكي (الأرض)، اللذان تزاوجا وأنجبا ابنًا اسمه إنليل، فصل إنليل السماء عن الأرض وادعى أن الأرض هي ملكه، يُعتقد أن إنكي ابن أنو وكي هو من خلق البشر، كانت الجنة مخصصة حصريًا للآلهة، وعند موتهم كان يُعتقد أن جميع أرواح البشر، بغض النظر عن سلوكهم أثناء الحياة، ستذهب إلى إركالا، كهف بارد ومظلم عميق تحت الأرض، محكوم من قبل الآلهة إرشكيجال. وكان الطعام الوحيد المتاح هو الغبار الجاف، اعتُقد لاحقًا أن إرشكيجال كانت تحكم إلى جانب زوجها نيرغال إله الموت .
هذه النظرية برغم عدم أمتلاكها الدليل النصي الذي يعبر عن دينية المجتمع العراقي القديم ولا عن عقيدته التامة، كما بقول مدعيها أنها مجرد أسطورة ضمن العمل الأدبي الأسطوري الشائع في تدوينات العصور القديمة، أما كعمل فني أدبي أو حتى رؤية فلسفية تفسيرية أو تبريرية لكنها بالتأكيد لم تكن نصا دينيا حقيقيا، ومع هذا فالنص غارق بالمفاهيم ذات الجذور الدينية التي تثبت ولا تنفي أن الإنسان العراقي القديم كان يماك وعيا متأصلا بوجود خالق أول، خالق للوجود وخالق الإنسان وأن هذه العلاقة أبدية وأزلية، وهو ما بنفي الزعم بأن الدين ولد في لحظات تطور وليس كجزء من الذات الواعية الفطرية عند الإنسان.
يقول الفيلسوف ريتشارد سوينبرن في كتابه “هل هناك إله؟ في معرض مقاربة بين قدرة العلم على تفسير الوجود على أنه حقيقة بالمقدار الذي هو فيه حقيقي، وبين العلة أو السر وراء قدرة العلم هذا على التفسير، إنه يبحث في خلاصات المعنى من حيث أنها هي حقيقة وليس مجرد أفتراض مبني على منتج عقلي عرف العلم من مصدره الأصلي الذي جعل منه مفسرا تحت عنوان الوعي به، فيقول ”إن الحديث عن وجود الله هو ليس افتراضا كالذي يتصوره الملحدون تحت مسمى “إله الفجوات”، أي إلهاً وهمياً لتفسير الظواهر التي لم يكتشفها العلم بعد، بل هو إله ضروري يفسر قدرة العلم نفسه على التفسير، فنحن نقر بأن العلم قادر على التفسير لكن الإله هو الذي يفسر لنا سر تلك القدرة التفسيرية للعلم، وهذا يعني أن نجاح العلم يزيد من قوة إيماننا بالله وليس العكس، فكلما ازداد علمنا اكتشفنا أن الكون يتسم بنظام دقيق وأن هناك مسببا له، أما الملحدون الماديون فيصرون على تصور مفترض عن غيرهم أن الإله هو بديل للعلم، وعليه فكل ما يتصل بهذا الإله مجرد وهم لا يرتقي إلى قواعد العلم، ويحاجون المؤمنين بناء على هذا الوهم من أن إيمانهم مهما كان مدعوما بأدلة علمية فهو مبني على شبهة غير مناسبة وعلينا نسفها.
إذا وبشكل سريع يمكننا الجزم وبالدليل القاطع أن الحقيقتين التي تناولها هذا المبحث هما حقيقتين أساسيتين من مبادئ الإيمان الفطري البشري عموما، وهذا يسري بشكل مؤكد على قضية الدين والإيمان في المجتمع العراقي القديم، وهما أولا أن الدين حقيقية وجودية بدوية فطرية لزومية لا يستغني عنها الإنسان طالما أمتلك الوعي بالذات، ثانيا أن هذا الوعي الفطري له إنعكاسات أساسية سلوكية ومعرفية في حياة الإنسان، منها ما هو قابل للترميز الحسي مثل أن يخصص لله مكان للتعبد فيه بشروط الطاهرة والتعظيم والتقدير "المعبد" كمظهر معنى، وحتى صياغة شبكه من العلاقات الحسية المفترضة تشرح عملية الترابط بينه وبين أدواته، لكن هذا الترميز الحسي لا يمكن أن يصل إلى ترميز لماهية الله وشكله بصورة أو بأخرى، لذا فالوثنية أو الشركية لا تتعلق بنفي أو تجسيم أو مشاكلة الذات الإلهية العليا، بل بابتكاره أدوات للوصول لها أو عبرها مما يقلل من حسية الإنسان المعنوية تجاه القدرة والمقدرة الإلهية فقط.
وعبورا من موضوع الرمزية الحسية نجد أن الإنسان لأسباب نفسية ومعرفية ترتبط أصلا بإمكانياته العقلية قد أفاض كثيرا في التجسيدات المعنوية لله، فهو تارة منسجم مع خطاب المعبد والكهنة عن الله وأحيانا أخرى متطرفا به وله، وفي أحيان أخرى يتخذ موقفا منطقيا متشددا مع أي محاولة لا منطقية لإخراج صورة معنوية عن الله لتكون التعبير الدقيق عن إيمانه به، هذا الفرق الشاسع والواسع بين الفكرتين توزعت عليهما الصور والمعنويات الحسية الشعورية لله من أساس لا شعوري يتعلق بالطبيعة النفسية للذات الواعية بكل إنفعالاتها نحو المجهول المعلوم، مجهول بالحدود الحسية الأعتيادية التي تشكل له الشيئية التعبيرية، ومعلوم لأنه غير قابل للجهل أو الأستجهال والإنكار، هذا الوقوع بين حدين مختلفين شكلا له الدافع للهروب من الأستسلام للواقع نحو الخيالية المحسوبة والمنضبطة بالخوق والقداسة والتعظيم للمرموز المعنوي وهو الله.
إن أرتباط الرمز الأكبر في الدين ومحور الفهم الديني سواء كحقيقة أو تعامل بشري مع الله الذات الخالقة أولا والقادرة على إنهاء المخلوقية ثانيا مع العظمة والقداسة والتبجيل، واحدة من أهم سمات الدين كونه معطى معرفي لزومي، وبدون هذه القداسة والعظمة وما تترك من أثر نفسي وسلوكي لا يمكن أن نجعل من أي فكرة حتى لو سميت دين على أنها كذلك، فهذا الأرتباط بيس فقط مهما وضروريا حتى يمكن أن يبسط مقرراته وأفكاره ورؤاه على الناس من خلال الشعور السلبي الذي يراد منه ترك أثر إيجابي، بل هي من أساسيات الفكرة الدينية التي يمكنها أن تصل بلا موانع ولا ضغوطات من قبيل القوة أو القهر، لذا فالدين إذا تحول إلى نتاج قوة مات وأندثر ولكنه يبقى حيا ومستمرا بالفعل مع الحرية العقلية التي تحد حتى من الميول المتطرفة عند بعض العقول التي تتجرد من الميل الروحي وتنحاز لمادية متطرفة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حمم هائلة تتدفق من جبل إتنا ودخان يغطي السماء بعد ثوران بركا


.. اتفاق التهدئة.. حكومة نتنياهو تواجه خيارات حاسمة




.. انتخابات إيران الرئاسية: خامنئي يحث الناخبين على التصويت في


.. القسام تعلن إيقاع قوة إسرائيلية بكمين وتستهدف آليات إسرائيلي




.. إخلاء منازل في القدس بعد اندلاع حريق كبير بحي هار غيلوه